خلف المجازر التي تختصرها الأرقام وتحاول اختزالها صور الأنقاض والأشلاء، هناك قصص ومشاهد لبشر من لحم ودم كان لهم آباء وأزواج وأبناء وأشقاء وأصدقاء، مزقت شظايا القاتل وجوههم وكتم رصاصه أنفاسهم، واغتالت قذائفه ما كان بقي من ضحكاتهم، وذكرياتهم المغمسة بعناء البحث عن "إبرة" الحياة، وسط كومة من "قش" الشقاء.
خلف مشاهد الدماء والأشلاء، ووراء مسرح الدمار، يجلس الأب والأم والأخ والأخت والزوجة والزوجة، وهم يتجرعون كأس مرارة فقد أحبتهم، فيما يمر هؤلاء جميعا على شريط الأخبار سريعا.. يمرون مجرد أرقام، بلا هوية ولا اسم، وتطوى قصصهم على عجل، إذ ليس ثمة وقت كاف لعرض مآس "فردية"، فيما باتت المجازر الجماعية تتكاثر وتتلاحق، حتى تكسرت نصالها على النصال.
مراسل "زمان الوصل" في غوطة دمشق، يحاول هذه المرة أن يرصد لنا مأساة إحدى السوريات اللواتي بدلت المجازر معالم حياتها -وما أكثرهن-، ليخبرنا أن هناك دائما مجزرة خلف المجزرة، ولكن القليل من يلتفتون.

وحيدة في منزلها تنتظر "م.أ" عودة زوجها مع أطفالها الثلاثة، فهؤلاء هم كل من بقي لها بعد نزوح أهلها خارج الغوطة الشرقية، ووفاة شقيقها الذي فضل البقاء والقتال على النزوح بحثا عن السلامة.
غادر زوجها مع أولاده ليملؤوا أوعيتهم بالماء من البئر القريب، بعد أن انتظروا طوال النهار حتى مالت الشمس للغروب؛ ليطمئنوا أن طيران النظام لن يعود.
خرج الزوج الذي لم يبق لأمه سواه بعد وفاة أشقائه الأربعة، وهو يمنّي أطفاله بجلب الماء والعودة سويا إلى البيت لتناول الطعام.. بينما كانت الزوجة تودعهم بابتسامة تحاول بعث الطمانينة في نفوسهم.
بدأت الزوجة-الأم تحضير البرغل، الطبق الرئيس وشبه الوحيد الذي تتناوله العائلة منذ سنتين.. الطبق الذي تتفنن كل مرة بإضافة شيء ما له (حمص، بهارات، فاصولياء، كوسا)، أي شيء موجود عسى أن يغير طعم الطبق الذي سئمه الأطفال.
ماهي إلا لحظات حتى ظهر شبح الموت في شكل طائرة؛ ليضرب مقابل البئر الذي تجمع عنده الناس، لكن "م.أ" لم تسمع صوت زئير الطائرة الذي كان يرعبها في كل مرة.. فقط أحست أن الدنيا تلونت الدنيا بالأحمر ثم حل سواد مطبق وتحول الهواء إلى غبار ودخان، وامتزجت أصوات الألم والحطام ونداءات الاستغاثة.. هرولت إلى الشرفة بعد أن "قرصت" نفسها لتطمئن أنها ما زالت على قيد الحياة.
وبعد أن تلاشت غيمة الغبار وجدت الزوجة-الأم غرفتها بلا جدار، فنظرت باتجاه البئر لكنا لم تر سوى بقع من الدماء، وأشخاص متجمهرين يبحثون بين الركام.. صراخ وعويل ونداءات "في حدا هون"، تلاها صوت أحدهم ينادي عليها: "أختي فيكي، شي حدا عندك في شي"، وبلهفة صاحت: "الله يوقفك ولادي كانوا عند البير مع أبوهم"، أطرق لحظة ثم قال "إن شاء لله خير.. خير، طولي بالك، الشباب أخدوا العالم اللي هون عالطبية، إن شاء الله ماصار لهم شي".
تروي "م.أ" أنها أيقنت أن ذلك الرجل كان يقول لها في نفسه "لقد ماتوا فاحتسبيهم عند الله"، لكنها تمالكت نفسها ولبست رداءها، ولم تجد بين الركام حذاءها فلبست "شحاطة" ممزقة، وجرت تتعثر بين الركام والزجاج وتنزل على درج غطته الأنقاض، متجهة نحو الشارع.

عادت لتنظر باتجاه البئر، ودون وعي منها وجدت نفسها في النقطة الطبية، التي تبعد نحو كيلو متر عن بيتها.. كيف وصلت، طارت أم حملتها الملائكة، إنها لا تدري فهي لم تشعر بمسافة الطريق.
وصلت إلى "الطبية" فهرعت إلى حجرة الموتى، وهي متيقنة أنها ستجدهم هنا، لكنها في نفس الوقت تدعو الله أن لا تجدهم في الحجرة الموحشة، بل في حجرة الإسعاف!
لم يطل انتظارها، فقد صدمت بأول طفل لها، رفعت الغطاء عن القتلى واحدا واحدا فوجدتهم جميعا (زوجها وأطفالها الثلاثة).. وجدت أطفالها الذين تترواح أعمارهم بين العام والستة أعوام، موضوعين مع بقية "الشهداء" ممن بلغ عددهم 12 شخصا.
حاولت الزوجة-الأم الصراخ فلم تستطع، حاولت النحيب، فتذكرت كلام زوجها وتحذيره لها، وغيرته من أن يسمع صوتها أحد.. صمتت وتجمدت الدموع في عينيها، فبدأت الأفكار السوداء تتجاذبها.. هل أقتل نفسي، لا حرام، إنه انتحار.. ماذا أفعل؟.. قاطع أفكارها صوت أب بجوارها يقول: "هي إبني الثاني الحمد لله الحمد لله يارب الحياة عندك أحلى، يالله اختي افرحي لهم ارتاحوا من الرعبة والخوف وإن شاء الله بالجنة"، هنا انهارت بالبكاء وانكبت تقبل أطفالها فصبغت وجهها بدمائهم.
تقول "م.أ": لم أكن أبكي حزنا عليهم، بل حزنا على نفسي.
ما تزلال الزوجة-الأم تبكي حتى اليوم، ممسكة بجوالها تقلب صور أطفالها وزوجها، وتنتحب. وبينما كانت دائما تحاول الهرب إلى الطوابق السفلى كلما سمعت صوت الطائرة، أصبحت أغلب جلساتها على السطح منتظرة لحظة اللقاء بأحبابها.
الغوطة - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية