أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

شعب المنطقة العازلة.. هل ينجز السوري أخطر المهام بأقل التكاليف؟

لقطة واسعة للحدود السورية التركية - وكالات

* عندما تأتي المنطقة العازلة، وهي آتية، سيكون هناك استحقاقات أعمق من أي تحركات عسكرية، وأخطر من أي حسابات آنية.

* الشعب السوري المهجر والمشرد هو الذي ينبغي أن يقرر، وينبغي أن يعمل لجعل المنطقة العازلة مصلحة سورية عليا، كما هي مصلحة تركية عليا، محققا منها ما يتوافق مع رؤيته، لا مع رؤية أي دولة أو تنظيم أو حزب.

* الشعب السوري وفصائله التي تنافح عنه ليسا قويين بما يكفيهما لفرض منطقة عازلة، ولكنهما قادران بدرجة أو بأخرى، على تجيير كثير من منافع المنطقة العازلة لصالح سوريا الجديدة.

جيدة تلك الضغوط والتحديات التي واجهت تركيا سياسيا وميدانيا، داخليا وخارجيا، في الآونة الأخيرة، وجعلتها تقدم فعليا ومباشرة على ما كانت تمارسه خطابيا، أو بطرق غير مباشرة، طوال السنوات الماضية من عمر ثورة الشعب السوري.

ورغم ضررها ظاهريا، تبدو تلك الضغوط نافعة لتركيا وللسوريين بدرجات متفاوتة، بدءا من حالة عدم اليقين السياسي الذي أفرزته انتخابات تركت أمر تشكيل الحكومة ضبابيا، وانتهاء بالاعتداءات المتكررة في مدن تركية مختلفة، مرورا بتمدد حزب الاتحاد الديمقرطي الكردي (ذراع العمال الكردستاني) على مساحات واسعة من الشمال السوري؛ الأمر الذي لامس قلق أنقرة أكثر من ملامسة ذلك الشمال لقرى الجنوب التركي الحدودية.

وبينما تركز كثير من التحليلات على سيناريوهات إقامة المنطقة العازلة، لاسيما التحرك العسكري، وآليات التنسيق متعدد ومتشابك الأطراف، واحتمالات بروز تحالفات وتفكك أخرى، فإن الساحة السورية تنتظر استحقاقات أعمق وأخطر بكثير من التحرك العسكري وحجمه وشكله، في منطقة تعد اليوم من أعقد مناطق العالم بالتداخلات العرقية والدينية، المتقاطعة منها والمتنافرة، الظاهرة منها والخفية.

إن إعادة أو عودة قرابة مليوني سوري إلى سوريا، أمر أقل من بديهي وأكثر من حتمي، ولكن إعادتهم في هذا الظرف الذي تختلط فيه الأوراق بشكل مريع، وتوطينهم في منطقة محددة من الشمال السوري، يشكل مقدمة إلى إيجاد ما يمكن تسميته "شعب المنطقة العازلة"، وهو نموذج لم يسبق لسوريا أن عايشته، وتجربة تشي بولادة "كائن جديد" سيكتسب صفات ومقومات إضافية، تجعله مختلفا نوعا ما عن المجتمع السوري، دون أن يفقد الملامح الأساسية لهذا المجتمع.

ولعل أهم ما يمكن أن يكتسبه هذا "الكائن" أو المجتمع الجديد، يأتي من وعيه بأنه مجتمع وظيفي ومرحلي، فحشد مليوني سوري في الشمال ليس عملا مجانيا، وبالتأكيد أنه ليس "صدقة"، مادام الثابت أن الدول –مطلق الدول- والأنظمة السياسية –مطلق الأنظمة السياسية الراهنة- ليست جمعيات خيرية.
وتركيا ليست بدعا من الدول، فلديها مصالح تسعى لها وتدافع عنها، سواء اتفقنا معها أو خالفناها، رضيناها أم سخطنا عليها.

أول مصالح المنطقة العازلة تركياً، بناء حاجز منيع في وجه تنظيمات كردوية (تنطق باسم الأكراد ولا تمثل جميع أطيافهم وتياراتهم)، تهمين عليها روح الانفصال، بل وروح تصدير "ثورتها" و"قضيتها" بالطرق العنفية غالبا.

ولئن كانت تركيا عانت في الانتخابات الأخيرة من بروز روح التمرد لدى فئة عريضة من أكرادها، رغم ما قطعته في مضمار "عملية السلام" وما أتاحته من حقوق كانت محجوبة عن الأكراد فترات طويلة، فمن باب أولى أن تصطدم بهذه الروح المتمردة بل ربما العدوانية لدى تنظيمات تجاهر بتبني الإرث الأوجلاني كاملا، بما في ذلك صلاته مع نظام الأسد وحزب بعثه، وهي صلات راسخة، تذكّرنا على الدوام أن النزعة الشيفونية لا ملة ولا عرق ولاحزب لها، وأن من أراد مقاومتها بحق وسحب البساط من تحت أتباعها فعليه أن لايأتي بنموذج مماثل لها، وإن اختلف الاسم والمسمى.

تركياً، أيضا، وبشكل تاريخي، أعمق حتى من المعضلة الكردية، هناك مصلحة في عدم قيام "كيان علوي" في سوريا، وهنا تجتمع إلى حد كبير مصلحة السوريين والأتراك، فالمنطقة العازلة بما تحتويه من كثافة بشرية وضغط ديموغرافي متجانس الهوية، ستصعب تحقيق مشروع "الكيان العلوي"، ولا نقول إنها ستلغيه أو تقطعه من جذوره.

ولاحاجة لبسط الحديث في العداء المستحكم بين "العلويين" والأتراك ذوي الروح العثمانية، وهي روح "عنيدة" قلما تخلى عنها الأتراك حتى في أشد مراحل تغييبهم عن تاريخهم، ومحاولة جرهم بعيدا عنه.
وإن كانت مجابهة التهديدين الكردوي والعلوي هي الأكثر بروزا وتمايزا في لوحة المنطقة العازلة، فإن هناك مجموعة أخرى من المهام التي لايُنتظر سوى من "شعب المنطقة العازلة" أن يحققها؛ باعتبارها أهدافا تعجز أي آلة عسكرية مهما بلغ جبروتها عن تحقيقها، وقد يكون هناك مجال أوسع للحديث عن هذه الأهداف لاحقا.

إذن، عندما تأتي المنطقة العازلة، وهي آتية حسب المعطيات، سيكون هناك استحقاقات أعمق من أي تحركات عسكرية وأخطر من أي حسابات آنية.. استحقاقات تتعلق بشكل وهوية وسوريا المستقبلية، وشكل وهوية المجتمع السوري الجديد، التي يمكن لـ"شعب المنطقة العازلة" أن يشارك برسمها، ويساهم في تكوينها، حتى يعود إلى سوريا الكبيرة، ولا يبقى حبيس المنطقة العازلة.

لاريب أن الدول والأنظمة تدافع عن مصالحها بكل ما أوتيت من قوة اقتصادية وعسكرية ومخابراتية، وتركيا واحدة من هذه الدول التي لاتجاريها دولة أخرى في المصالح والمنافع المنتظرة من إقامة المنطقة العازلة، ولكن الشعب السوري صاحب القضية هو المعني الأول والأخير بالأمر، وهو المعول عليه في تنمية نقاط التقاطع بينه وبين تركيا بالتحديد، لاستثمار اندفاعها الحالي، في تقصير عمر الأزمة السورية، ونقل السوريين من خيام اللجوء وضيق المنطقة العازلة إلى رحابة سوريا الممتدة على مساحة 185 ألفا و180 كيلومترا مربعا.

الشعب السوري المهجر والمشرد هو الذي ينبغي أن يقرر، وينبغي أن يعمل لجعل المنطقة العازلة مصلحة سورية عليا، كما هي مصلحة تركية عليا، محققا منها ما يتوافق مع رؤيته لسوريا الجديدة، لا مع رؤية أي دولة أو تنظيم أو حزب، لاسيما أولئك الذين ما إن سمعوا بالمنطقة العازلة حتى بدؤوا بإثارة العامل الأكثر خطورة وتفجرا في المسألة، وأقصد به البحث في "شرعية" (المستند الفقهي) التعاون المباشر مع تركيا، وغير المباشر مع سواها، وهي مسألة إذا ما فتحت فلن يقفل بابها، حتى يخرج الفقهاء الكبار و"المعتبرون" من قبورهم ويتفقوا على رأي واحد بشأنها، ولن يكون!

الشعب السوري وفصائله التي تنافح عنه ليسا قويين بما يكفيهما لفرض منطقة عازلة، ولكنهما قادران بدرجة أو بأخرى، على تجيير كثير من منافع المنطقة العازلة لصالح سوريا الجديدة، وفي مقدمة هذه المنافع تقصير أجل المنطقة العازلة إلى أقصى حد ممكن؛ ليكون "شعبها" مجرد استثناء مرحلي عابر، يذكره التاريخ بأنه أنجز أصعب المهام بأقل التكاليف.

إيثار عبدالحق - نائب رئيس التحرير - زمان الوصل - خاص
(110)    هل أعجبتك المقالة (99)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي