أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

مصر تترنح بين عشوائيات القمة وعشوائيات القاع .... ضياء رشوان

حين عرض فيلم «حين ميسرة» للمخرج المعروف خالد يوسف قبل شهور قليلة شنت أقلام عديدة هجوماً ضارياً عليه بحجة الدفاع عن سمعة مصر وصورتها، حيث اتهموا الفيلم ومخرجه بتقديم وقائع «مشينة» وصادمة وغير واقعية لما يجري في المناطق العشوائية المصرية.


وفي مقابل هذا الهجوم الشرس كانت رؤية خالد يوسف مختلفة وواضحة، فهو قدم اعتذاراً مكتوباً في نهاية فيلمه لسكان تلك المناطق لأنه لم يقدم فيه سوي قليل مما يجري فيها في الواقع ولم يستطع أن يعرض جميع الأوضاع المأساوية الموجودة بها.

وبين الرؤيتين وبعيداً عن التقييم الفني للفيلم الذي يمكن أن يكون أكثر قسوة عليه، يبقي حقيقياً أن المشاهد والعلاقات التي قدمها في تلك المناطق والطبقات العشوائية مجرد لقطة سريعة وعابرة لواقع شديد التعقيد هائل المعاناة تشهد علي ما يجري فيه من مآس وكوارث إنسانية مئات من محاضر الشرطة وتقارير أقسام الاستقبال في المستشفيات وقليل من التحقيقات الصحفية والدراسات الاجتماعية الجادة.

إلا أن العنصر الحاسم في كثير من الكتابات التي تناولت الفيلم بالهجوم والذي أغشي أعين أصحابها عن حقيقة المأساة التي تشهده تلك الطبقات والمناطق، كان هو انحيازها الاجتماعي الحاسم لطبقات ومناطق أخري في مصر صارت تتربع علي قمة المجتمع وتدير اقتصاده وسياسته لصالحها فقط وفي مقدمتها ما يطلق عليه طبقة رجال الأعمال.

هذا الانحياز الطبقي والاجتماعي لما يعتقد أصحاب تلك الأقلام والكتابات أنه النموذج الأفضل لمصر التي يريدونها لنا كان هو المحرك الوحيد لهجومهم علي الفيلم والذي يقدم حسب رؤيتهم نموذجاً آخر للعلاقات الاجتماعية يتناقض معه بمائة وثمانين درجة.

أصحاب تلك الأقلام والكتابات الذي لا يكفون عبر جميع وسائل الإعلام والمنابر التي يهيمنون عليها عن تقديم مشاهد مكتوبة ومصورة وتليفزيونية لعلاقات وسلوكيات أبناء طبقة رجال الأعمال في كل أحوالهم الصيفية والشتوية، الصباحية والليلية،

أفراحهم وأتراحهم، باعتبار أنها صورة مصر التي يتخيلون أنها الحقيقية أو التي يجب أن تكون، أفزعتهم المشاهد القليلة التي قدمها خالد يوسف في فيلمه لما يجري في قاع المجتمع لأنها تحطم هذه الصورة الوردية التي يسعون بدأب لترويجها.

هذا الانحياز والسعي للالتحاق الطبقي والاجتماعي بطبقة رجال الأعمال ونموذجها من تلك الطائفة من الكتاب القادمين جميعهم من الطبقات الوسطي والدنيا في المجتمع أغشي أيضاً أعينهم وعقولهم عن حقيقة التشابه بين ما يجري في حواري ودروب المناطق العشوائية القابعة في قاع المجتمع المصري وبين ما تشهده قصور وفيلات ومصايف ومشاتي طبقتهم المفضلة.

وإذا كانت إحدي الحوادث الأخيرة التي لم ينته التحقيق فيها بعد والتي تمس بعضاً من أبرز رموز هذه الطبقة تبرز وبوضوح نوعية العلاقات والسلوكيات الاجتماعية فيها والتي لا تختلف في شيء عما قدم بعضه فيلم حين ميسرة، فإن تتبع حوادث وأحداث أبنائها خلال الأعوام الأخيرة يؤكد أننا إزاء نموذج اجتماعي وسلوكي واحد تقريباً لا يختلف سوي في حجم الثروة ومسارح الأحداث والعلاقات. فتجارة المخدرات وتعاطيها وتهريبها واستئجار «الفتوات» أو «البودي جاردز»

والاعتداء علي أملاك الدولة صغيرها وكبيرها والعلاقات والانحرافات الجنسية غير الشرعية المتعددة وتعدد الأزواج والزوجات والإيذاء البدني وصولاً للقتل لتصفية الحسابات والعلاقات غير المشروعة وغيرها من مشاهد «هابطة»، تبدو متكررة ومشتركة بين من يقبعون في قاع المجتمع ومن يتربعون علي قمته.

الفارق فقط بين ما يجري في القاع وما يجري في القمة أن الأول يبدو علي حالته البدائية دون أي «تزويق» أو تجميل فكل ما هو غير مشروع أو إجرامي يظهر كما هو بدون رتوش، بينما الثاني يبدو دوماً محاطاً بسياج من السرية وراء أسوار المناطق المغلقة التي يسكنها أو يرتادها أبناء الطبقة العليا، وحين يكشف بعضه يقوم الكتاب والصحفيون الملتحقون بها بتقديمه بصورة تضفي عليه غموضاً وتجميلاً لكل ماهو قبيح فيه، وإذا تعذر كل ذلك تأتي قرارات حظر النشر لكي تخفي كل شيء عن عموم المصريين.

إن خطورة هذا التشابه والتكرار للعلاقات والسلوكيات الاجتماعية بين قاع المجتمع وقمته يدركها بسهولة أي دارس مبتدئ لعلوم الاجتماع، فالتقليدي هو أن يسود هذا النموذج الاجتماعي المنحرف والمشوه في الطبقات والمناطق العشوائية بقاع المجتمع، ولكن أن يكون هو نفسه السائد في طبقاته العليا مع بعض التجميل والتنوع،

فهذا يعني أن المجتمع كله يتجه وبسرعة هائلة نحو الكارثة. وتزداد خطورة وسرعة الكارثة إذا ما كان حال الطبقة الوسطي التي هي دوماً حارس استقرار المجتمع وقائدة تطوره قد وصل إلي الوضع الكارثي الذي أصبحت فيه بكل المعاني المادية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية بعد أن أصابتها التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي نفذها النظام السياسي بقيادة طبقة رجال الأعمال بضربات هائلة فككت كل مقومات تماسكها الداخلي.

ويبقي أخيراً أن أي دارس مبتدئ لعلوم الاجتماع يستطيع أن يؤكد أكثر أن الكارثة قادمة لأن البديهي هو أن تقود طبقة رجال الأعمال المجتمع كله، كما حدث في معظم التجارب الدولية،

لبناء نظام رأسمالي بنموذجه الاجتماعي المتماسك - بغض النظر عن عدله بين الطبقات - والذي رغم قيامه علي مبدئي المنفعة واللذة إلا أنه يستند قبل كل شيء علي حكم القانون وليس الفوضي التي أضحت السمة المشتركة بين ما يجري في قاع المجتمع وقمته بل وفي المجتمع كله.


(111)    هل أعجبتك المقالة (114)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي