استنفر مقدما برنامج (تسعون دقيقة) علي قناة المحور المصرية، ليقاطعا بحدة الفنانة محسنة توفيق، التي اتصلا بها ضمن كوكبة من الفنانين لمواكبة حدث رحيل المخرج يوسف شاهين يوم السابع والعشرين من تموز (يوليو) الفائت!
محسنة توفيق أجادت في حديثها الإنساني والفني عن قيمة يوسف شاهين وأهميته في تاريخ السينما المصرية، وربما كان أهم كلام قيل في البرنامج هو ما قالته، لكنها أرادت أن تلقي نظرة موضوعية أخري علي هذا المخرج، فذهبت للقول بان الوسط السياسي والثقافي ظلم يوسف شاهين، لأنه لو قدم له مادة جيدة، أو تعامل معه وتفاعل مع موهبته بشكل جيد، لكان يوسف شاهين قد نما وتطور بشكل أفضل، ولكان واحداً من المخرجين النادرين في العالم!
وهنا تدخل مقدما البرنامج، للقول بأن: (يوسف شاهين يا فندم هو فعلا كان برضه من المخرجين النادرين في العالم...) وعندما طلبت محسنة توفيق فرصة لشرح فكرتها خارج السياق الاتهامي الخاطئ الذي فهمت فيه... تكفلت المذيعة بتقديم تصحيح من عندها وأنهي الحديث الهاتفي نهاية سعيدة!
ولست معنياً هنا بالدفاع عن رأي محسنة توفيق في يوسف شاهين، ولا عن رؤيتها للطريقة التي كان يمكن أن ينمو ويتطور بها أفضل، لكنني معني بتأمل هذا التفصيل التلفزيوني، الذي يعكس جوهر تعاملنا مع حالات العزاء والتأبين الإعلامي في التلفزيونيات العربية عموماً.
فمع كل مواكبة لرحيل شخصية عربية ثقافية أو أدبية أو فنية، يتحول جميع المتحدثين والمتصلين والمشاركين في مجالس العزاء والتأبين، إلي منشدين ومداحين مهمتهم إبراز الجانب المضيء من سيرة الراحل العظيم، وكيد عزاله، وتعداد مناقبه، وسرد إنجازاته، واقتفاء آثار فتوحاته، وكل هذا بمبالغات خطابية وكليشيهات جاهزة، وبعبارات إنشائية مكرورة، ليس فيها كثير من المعلومات، ولا دقة في التوصيف، ولا عمق في التحليل... وهكذا تغدو مناسبة الرحيل، مادة تزيد الجهل بشخص الراحل، أكثر من أن تكشف الغطاء عن حقيقة عطائه وإبداعه والإضافات التي قدمها في مجاله!
وشخصياً لست مع التطرف الذي لا يحترم حالة الفقدان التي يمثلها الموت، تجاه شخص كانت له سيرة حياة وعطاء وذكريات وأصدقاء وجمهور، ولكن ما الذي يمنع أن يكون التأبين موضوعياً، وأن يجري الحديث عن المناقب والمزايا الفنية بنفس القدر الذي يتم فيه تشخيص عيوب مشروعه وجوانب الخلل والقصور التي يمكن أن تعتري فنه وإبداعه، ضمن سياق تحليلي يثري ويضيء ويقدم معرفة أعمق، تشبع فضول متابعي الحدث... وتعرض لهم وجهات نظر مختلفة، لا تجتمع كلها علي المدائح والتبجيل وحسب، بل تنظر لمسيرة الرجل وإبداعاته من وجهات نظر أخري تعطي هذا الإبداع حقه!
وتحضرني في هذا السياق، حالة أخري لها علاقة بما حدث عند رحيل المخرج السوري مصطفي العقاد... فقد فوجئت بأحد المخرجين السوريين، الذي سبق أن شتم العقاد في تحقيق صحفي أجريته قبل سنوات، ووصفه بأنه (مخرج متوسط وسلطوي) علي حد تعبيره، فوجئت بهذا المخرج نفسه، يلبي دعوة إحدي القنوات الفضائية التي خصصت حلقة خاصة للحديث عن المخرج الذي قضي في تفجيرات عمان، ويشيد بمناقبه وإنجازاته، ونضاله من أجل تقديم صورة مشرقة عن التاريخ العربي في السينما العالمية!
وفي المحصلة، لا يستطيع الخطاب الإعلامي العربي أن يتحرر من حالة النفاق مع الموت، ومن الرغبة التقليدية في تلميع الصور في مجالس العزاء... حتي لو كانت ليس بحاجة لتلميع أصلاً، لأن أهميتها قائمة علي ما فيها من مزايا وعيوب معاً، من اكتمال وقصور، ومن ضعف وقوة يظهران في مرآة بعضهما!
وبالرغم من أن الموت هو الحقيقة الأكثر رسوخاً في هذا العالم، فلا أدري لماذا يغدو الموت لدينا نحن العرب، مناسبة للمجاملة التي تصل حد تغيير الآراء والمواقف من النقيض إلي النقيض... بدل أن تكون مناسبة لقول الحقائق، وتحليل التجربة الإبداعية التي وضع الموت نقطة النهاية الأخيرة فيها، وصار بالإمكان رؤيتها بشمولية وتكامل وإنصاف؟!
طبعاً المسألة ليس لها علاقة بالشجاعة فقط، بل لها علاقة بتجارة المشاعر... فالعديد من الفنانين والمشاهير والإعلاميين وكذلك المحطات، يجدون في مناسبات العزاء فرصة للمتاجرة بمشاعرهم، وادعاء قيم الوفاء، والتباكي علي الفقيد، والنواح علي الفراغ الذي أحدثه غيابه ولن يملأه أحد... والمطالبة بتكريمه وتخليد ذكراه، مع أن بعض هؤلاء يمكن أن يكونوا ضمن عداد أعدائه عندما كان حياً، أو ضمن الذين أهملوه أو حاربوه أو شتموه عندما كان يحاول أن يعمل ويعطي ويجتهد!
في كل الأحوال، ليس مطلوباً، لا الإساءة إلي الأموات في أولي لحظات صدمة الرحيل، ولا التباكي عليهم لدرجة تصل حد النفاق والابتذال وإسباغ صفة الكمال المطلق علي كل ما قدموه وفعلوه، المطلوب فقط شيء من التوازن والصدق واحترام المشاهد!
دراما المحامين في مسلسل العبارة المصرية!
تابعت علي مدي يومين متتالين أصداء إعلان حكم البراءة علي ممدوح إسماعيل صاحب عبارة (السلام 98) والمتهمين الآخرين في قضية غرق هذه العبارة قبل عامين ونصف في البحر الأحمر، والتي تسببت بموت أكثر من ألف مواطن مصري!
فقد خصص برنامج (العاشرة مساء) علي قناة دريم، و(تسعون دقيقة) علي قناة المحور... أكثر من حلقة لهذا الموضوع...وكانت ذروة هذه الدراما التلفزيونية حضور محاميين اثنين كممثلين عن ممدوح إسماعيل الهارب في بريطانيا في البرنامجين المذكورين.
في (تسعون دقيقة) كان المحامي الحاضر، يرد كلما شكك أحد بنزاهة دفاعه المستميت عن موكله: (أنا أستاذ جامعي... مش ممكن أقبل أي قضية إلا لو حد مظلوم) ولكثرة ما ردد السيد المحامي هذه العبارة، ظننت الأساتذة الجامعيين من سلالة الملائكة أو الأنبياء المعصومين عن الخطأ، مع أن كثير من الفساد والفضائح في غير بلد عربي ارتبطت بأسماء بعض الأساتذة الجامعيين، الذين هم في النهاية مثل كل شرائح المجتمع، يخطئون ويصيبون ويخلصون ويرتشون!
أما المحامي الآخر في برنامج (العاشرة مساء) فكان كلما تفوه أحد بكلمة، ينتفض بشراسة مرددا كلمة: (أرد يا فندم) وعندما قالت له مني الشاذلي: (كفاية نقهر الناس) طلب منها سحب هذه الكلمة وكأنها شتمت سنسفيل أجداده!
عدت إلي أخينا المحامي الأستاذ الجامعي، علي قناة (المحور) فوجدته يبتسم ابتسامات مستفزة، وهو يسمع كلام المتصلين من أقارب المفقودين أو من الناجين الذين رأوا الموت بعيونهم... كان مخرج البرنامج ذو حس درامي عالي، فقد كان يركز علي هذه الابتسامات، بينما الناس تروي الأهوال، وتذرف الدموع، من خلال لقطات قريبة ومتتالية... وكان أجمل سؤال ورد في هذه المعمة المؤلمة والساخنة، عندما انتفضت مذيعة (تسعون دقيقة) وسألته: ممكن أسألك إنت بتبتسم ليه؟!
لم أركز في جوابه المطاط، ففي هذه اللحظة كنت أتذكر تعريفاً طريفاً قرأته ذات مرة في إحدي المجلات الساخرة: المحامي هو شريك المجرم... إنما بعد حدوث الجريمة!
عروبة الخليج... النكبة مستمرة!
رغم أن موضوع (عروبة الخليج) سبق أن طرحه منذ أسابيع برنامج الإعلامي أحمد منصور (بلا حدود) فإن فيصل القاسم أعلن عنه مرة أخري في (الاتجاه المعاكس) هذا الأسبوع!
لو أردنا التوصيف المغرض، لقلنا إن (الجزيرة) باتت تشجع استنساخ الموضوعات بين برامجها، أما لو أردنا توصيفاً آخر... فإن عروبة الخليج تستحق أن تكون نواة حملة كبيرة، ومستمرة نتمني أن تتبناها الجزيرة علي طريقة (التغطية المستمرة) التي تبنت فيها حدث مرور ستين عاماً علي نكبة فلسطين... فربما بعد ستين عاماً أخري، سنكون أمام تغطية مماثلة بالعنوان ذاته: (حق يأبي النسيان) بعد أن يكون الخليج السليب قد استلبت عروبته وحقوق أبنائه، مادامت حكوماته تسير علي هذا النهج المظفر في التفريط بالعروبة والهوية!
كاتب من سورية
mansoursham@hotmail.com
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية