محكمة الجنايات الدولية: دنان جديدة لنبيذ عتيق فاسد ... صبحي حديدي


كاتب هذه السطور لا يحمل، البتة، أيّ مقدار من التعاطف مع حاكم فرد أوحد عسكري إنقلابي مثل الرئيس السوداني الفريق عمر البشير، في محنته الراهنة مع المدّعي العامّ لمحكمة الجنيات الدولية، القاضي لويس مورينو أوكامبو. العكس هو الصحيح: يثلج صدري أن تُسجّل سابقة كهذه ضدّ حاكم على رأس عمله، خاصة إذا كان من طينة حكّام بلادنا، غاصبي السلطة المستبدّين. غير أنّ ما كان سيثلج الصدر أكثر، ويُسقط عن الممارسة بأسرها صفات النفاق والإنتقائية والكيل بعشرات المكاييل المتباينة، هو أن تُسجّل السابقة الأولى ضدّ كبار مجرمي الحرب قبل صغارهم، في الأنظمة الديمقراطية والمتقدّمة قبل تلك الشمولية أو النامية أو الفقيرة، أي أوغندا والكونغو وأفريقيا الوسطى والسودان... حصيلة عمل المحكمة حتى اليوم. ثمة، في طليعة الأمثلة على عتاة مجرمي الحرب الكبار، الرئيس الأمريكي الحالي جورج بوش في غزو العراق وأفغانستان (1.2مليون ضحية، فضلاً عن حقيقة أنّ النزاع في دارفور داخلي، وليس غزواً عسكرياً على غرار ما فعل بوش)؛ ورئيس الوزراء السابق توني بلير في الملفات ذاتها، خاصة جنوب العراق، والبصرة؛ ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون (في فلسطين، كما في لبنان)، واللاحق إيهود أولمرت، والأسبق منهما إيهود باراك وبنيامين نتنياهو وإسحق شامير ومناحيم بيغن... وما يضيف إلى النفاق غطرسة وعنجهية واستهتاراً أنّ الولايات المتحدة رفضت الإنضمام إلى المحكمة عند تأسيسها، في روما سنة 2002، وما تزال ترفض خضوع أيّ مواطن أمريكي لقوانينها. وريثما تنجلي حملة أوكامبو ضدّ البشير عن مآل ملموس لصالح أيّ منهما، أو إلى التعادل الملتبس أو السلبي، فإنّ من الخير العودة إلى السابقة الأخرى الأحدث عهداً بصدد إحالة حاكم على رأس عمله إلى جهة قضائية دولية، أي مثول الزعيم الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش أمام المحكمة الدولية لجرائم الحرب، في خريف العام ذاته، 2002، قبل أشهر معدودات من إطلاق محكمة الجنايات الدولية. ولعلّ بين أفضل التعليقات على محاكمة ميلوسيفيتش كان ذاك الذي كتبه هوغو يونغ في صحيفة 'الغارديان' البريطانية، حين اعترف بأنّ الزعيم الصربي لا يقف في قفص الإتهام لأنه ارتكب سلسلة من الجرائم بحقّ الإنسانية، بل لأنه ارتكب الخطأ القاتل المتمثّل في اجتياح كوسوفو عسكرياً في زمن غير ملائم، أي في زمن فرض الوصاية الأمريكية ـ الأوروبية على الإقليم. في عبارة أخرى، تابع يونغ، هنالك كلّ الفرصة في أنّ الجرائم التي يُحاكم ميلوسيفيتش بموجبها اليوم، بما في ذلك جرائم كرواتيا والبوسنة، كانت ستُنسى تماماً لو أنها ارتُكبت في سياقات أخرى. أكثر من هذا وذاك، لعلّ ميلوسيفيتش كان سيبقى حاكماً في بلاده، معزّزاً مكرّماً محاطاً برعاية الدول ذاتها التي تحرص على إدانته اليوم...
ويونغ، الذي لم يجانب الصواب في هذا التفصيل الأساسي، أنحى باللائمة على سياسات بلاده، أو السياسات الأوروبية والأطلسية إجمالاً، في هذا الإنتقاص الذي تشهده محكمة لاهاي، خصوصاً إذا تمّ استرجاع تاريخ تواطؤ الحلفاء في الجرائم التي حوكم عليها الضباط النازيون خلال محاكمات نورمبورغ. ولكن هل يمكن قول الشيء ذاته عن يوغوسلافيا في الفترة بين 1991 و1995؟ كلا، بالطبع، وثمة مقدار كبير من تقاسم المسؤولية عن جرائم الحرب بين القوى الأوروبية العظمى والقوى الإقليمية والمحلية البلقانية إجمالاً.
وبالطبع، تغافل يونغ عن وجهة ثانية للمسألة، هي الوجه الثاني لحكاية المحاسبة على الجرائم المرتكبة بحقّ الإنسانية: في الوقت الذي وقف فيه مجرم حرب مثل ميلوسيفيتش في قفص الإتهام، فإنّ مجرم حرب ثانياً مثل رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون لم يكن يواصل ارتكاب جرائمه اليومية فحسب، بل كان يحظى بتصفيق وتأييد وإطراء الولايات المتحدة. معظم العواصم الأوروبية كانت تلتزم الصمت، أو يكتفي قادتها بالتأتأة الجوفاء حول ما هو 'بنّاء' أو 'غير بنّاء' في العنف النازيّ اليوميّ الذي تمارسه قوّات الإحتلال الإسرائيلي ضدّ الفلسطينيين.
ونتذكّر، دون إبطاء، أنّ ميلوسيفيتش كان رجلاً بقيمة 1,28 مليار دولار ساعة اعتقاله، و 1,25 مليار للسنة التالية، و 3,9 مليار خلال السنوات الثلاث أو الأربع اللاحقة، بالتقسيط المريح كما يُقال. كان هذا هو ثمن ميلوسيفيتش، 'الزعيم الصربي' و'مجرم الحرب' من وجهة أولى؛ وكان ثمن إذلال الرجل الذي انخرط مع الحلف الأطلسي في الحرب الأوسع نطاقاً وعبثية منذ انطواء صفحة الحرب الباردة، من وجهة ثانية؛ وأمّا الوجهة الثالثة، والأهمّ دائماً، فهي أنّ ثمن استلامه وإذلاله ظلّ، في الآن ذاته، منجم الذهب الذي سيشغّل عشرات الشركات الكونية العابرة للقارّات، التي تقتات جوهرياً على سياسة عجيبة عمادها التخريب بقصد إعادة الإعمار! الفضيلة الكبرى لتسليم ميلوسيفيتش ومحاكمته، كانت تتمثّل في أنّ هيئة دولية واحدة على الأقل ارتأت التمييز بين الحاكم والمحكوم في تصنيف سلّم المسؤولية، وفصلت القول الحقوقي في التمييز بين الصرب كشعب وأمّة، وبين ميلوسيفيتش كحاكم وفرد. وكانت تلك خطوة إلى الأمام، دون ريب. بيد أنها بدأت، وتواصلت، كجزء من مسيرة تحكمها القاعدة العتيقة الشهيرة: خطوة إلى الأمام، خطوتان إلى الوراء.
وليس أدلّ على ذلك من حقيقة أنّ السادة الساسة في دول الحلف الأطلسي واصلوا التفاوض مع ميلوسيفيتش الحاكم والفرد، وليس مع صربيا الشعب والأمّة، ممثّلة بأحزاب المعارضة أو بالشخصيات الوطنية التي تحظى بثقة وقبول الشعب. وليست دبلوماسية صائبة، إذا لم تكن دبلوماسية خرقاء سيئة النيّة، تلك التي تتفاوض مع الخصم بعد تجريمه، كما عبّر وزير الداخلية الفرنسي السابق جان ببير شيفنمان.
في الجلسات الإفتتاحية لم تتمكن السيدة كارلا ديل بونتي من قراءة مضبطة اتهام ميلوسيفيتش، الذي كان ماكراً تماماً في تحويل الجلسة الأولى إلى فاصل مسرحي، وسجّل نقطة مدهشة لصالحه حين تابع العالم القاضي وهو يقطع الميكروفون عن ميلوسيفيتش. لكنّ العالم ذاته كان يعرف أنّ حيثيات ديل بونتي تنهض على جرائم ترحيل مئات الآلاف من أبناء الأقلية الألبانية في إقليم كوسوفو، واستهداف المدنيين بالقصف المدفعي، ومصادرة الأملاك الشخصية، وإتلاف بطاقات الهويّة وأوراق التعريف المدني، وربما إصدار أوامر شفهية بارتكاب مجازر في صفوف المدنيين ودفنهم في مقابر جماعية. لم يكن عسيراً، بالتالي، أن تفلح ديل بونتي في تأليب القضاة والرأي العامّ ضدّ كبش المحرقة، الكبش الوحيد والأوحد في الواقع، حتى دون اللجوء إلى استخدام كلّ المجاز وكلّ البلاغة، كلّ العواطف وكلّ المراثي.
وقد لا يختلف اثنان حول تصنيف بعض تلك الممارسات البربرية في خانة جرائم الحرب. ولكن... ألم تكن تلك حالة حرب على وجه الدقّة؟ ألا تقوم كلّ حرب على مواجهة بين فريقين متصارعين؟ ألا تقع جرائم الحرب في الصفّ 'المتحالف مع الخير' مثل الصفّ 'المتحالف مع الشرّ'، وبالتساوي المدهش أحياناً؟ ألا تدور فكرة الحرب، أيّة حرب، على هذا الإنتهاك المتبادل لواحد من أكبر حقوق الإنسان، أي حقّه في الحياة؟ وماذا عن جرائم الحلف الأطلسي ضدّ المدنيين الصرب أوّلاً، ثم ضدّ المدنيين من أبناء الأقلية الألبانية لاحقاً، ثم ضدّ عناصر 'جيش تحرير كوسوفو' أنفسهم فيما بعد؟ وماذا عن جرائم الحلف ضدّ المستشفيات والسفارات والجسور والطرق وسكك الحديد ومحطات الكهرباء والمياه والهاتف والإعلام؟ هذا لكي لا يذهب المرء مباشرة إلى السؤال الراهن الطبيعي: وماذا عن الجرائم الأمريكية في معكسر غوانتانامو، هذه الأيّام بالذات؟ طريف، بهذا الصدد تحديداً، استعادة سجال غير مباشر دار على صفحات يومية 'نيويورك تايمز' الأمريكية في أعقاب إحالة ميلوسيفيتش إلى محكمة جرائم الحرب، وجمع بين الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون والرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر. الحرب 'عادلة' و'ضرورية' بالنسبة إلى الأوّل، والحرب ذاتها باتت 'تدميرية صرفة' و'وحشية' و'لا معنى لها' بالنسبة إلى الثاني. الحلف الأطلسي هو عماد الأمن الدولي واستقرار نظام العلاقات الدولية بالنسبة إلى الأوّل، والقوّة والعقاب العسكري لا تبني أيّ استقرار بالنسبة إلى الثاني.
والسجال كان طريفاً ليس فقط لأنّ كارتر كان يردّ على كلينتون، الديمقراطي مثله ونزيل البيت الأبيض الذي لاح ذات يوم أنه سوف يعيد إنتاج وتحديث 'الكارترية' في السياسة الخارجية الأمريكية، بل أساساً لأنّ كارتر كان يسفّه معظم 'تَفَلْسُف' الحلف الأطلسي حول أطوار ما بعد الحرب الباردة، ويقيم التسفيه ذاك على أساس أخلاقي ـ حقوقي غير غريب عن المنطق الأخلاقي ـ الحقوقي ذاته الذي ينبغي أن يكون قد دفع لويز أربور إلى اتخاذ قرار إحالة ميلوسيفيتش على المحكمة الدولية لجرائم الحرب، ودفع خليفتها ديل بونتي من بعدها.
وجيمي كارتر سجّل حقيقة أنّ الحلف الأطلسي ـ بعد 25 ألف طلعة جوية، و14 ألف صاروخ، و4000 قذيفة عشوائية (أي: غير موجهة!) ـ حقّق نجاحات باهرة على صعيد هجرة نحو مليون من أبناء الأقلية الألبانية، وعلى صعيد مقتل الآلاف من المدنيين الصرب (بسبب استخدام الحلف الأطلسي القنابل العنقودية خاصة)، وعلى صعيد تدمير الحياة المدنية إجمالاً. وأمّا على صعيد تحقيق الأغراض السياسية التي أعلن عنها الحلف، فإنّ النتائج لم تكن هزيلة فحسب، بل كانت محرجة تماماً لأنها وضعت الأطلسي أمام ثلاثة خيارات قاتلة: استمرار قصف يوغوسلافيا (بما في ذلك كوسوفو ومونتينيغرو) حتى التدمير التامّ؛ أو نفض اليد تماماً من الملفّ البلقاني وتسليمه إلى روسيا؛ أو اللجوء إلى الحرب البرّية وكابوس وقوع ضحايا في صفوف الجيوش الأطلسية.
ولم يتردد جيمي كارتر في الجزم بأنّ وصول الحلف الأطلسي (والولايات المتحدة تحديداً) إلى هذه المآلات القاتلة يعود إلى جملة أسباب: تجاهل المبدأ القديم الذي يقول إنّ المفاوضات الشاقة الطويلة ينبغي أن تقود إلى السلام، لا إلى الحرب؛ واستبعاد المنظمات غير الحكومية من جهود التفاوض وحلّ النزاعات الإقليمية؛ والكيل بمكيال مختلف في التعامل مع النزاعات ذات الأبعاد التاريخية والجيو ـ سياسية المعقدة، كأن تكون أزمات أفريقيا والشرق الأوسط غير أزمات البلقان على سبيل المثال؛ واعتماد مبدأ القوّة العسكرية والعقوبات الإقتصادية، مع تناسي أنّ هذه الأسلحة نادراً ما تفتّ في عضد الشعوب. بيل كلينتون دافع عن المساجد المقصوفة، وجيمي كارتر دافع عن الجسور والسكك والطرق! أقدار عجيبة تلك التي تقلب المعادلات الأخلاقية بين مسجد ومسجد (في العراق على سبيل المثال، أيّام بوش الأب وكلينتون وبوش الابن، على حدّ سواء)، وبين حياة مدنية وأخرى (كما في مثال أفغانستان، أيّام جيمي كارتر وأيّام بوش الابن)، وبين تدخّل إنساني وآخر (رواندا مقابل كوسوفو)، الخ... الخ...
والتناظرات ذاتها يمكن أن تُقتبس بصدد قرارات المحكمة الدولية لجرائم الحرب، إذْ نعرف جيداً أنّ ما أنجزته هذه المحكمة في ملفّ محاسبة مجرمي الحرب في البوسنة ليس متواضعاً فحسب، بل هو مخزٍ تماماً. والأرجح أنّ السجلّ سيكون مخزياً، أيضاً، في معظم ما سيفعله أمثال أوكامبو في محكمة الجنايات، لا لأيّ اعتبار آخر سوى أنّ الدنان الجديدة لا تبدّل صفة النبيذ العتيق... الفاسد!

(101)    هل أعجبتك المقالة (102)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي