درجت العادة، منذ بداية الثورة المسلحة في سورية، أن يحشد الثوارُ قواتهم حول مدينة ما، لزمن يطول أو يقصر... ثم إنهم يقتحمونها ويطردون قوات نظام الأسد العسكرية والمخابراتية وقطعان الشبيحة منها، ويكتب الناشطون الثوريون على مدوناتهم: تم بعون الله تحرير البلدة الفلانية.. ووقتها ينبري لهم بعضُ المثقفين اليساريين- أو "المتياسرين" كما أسماهم الأديب الراحل حسيب كيالي- مبدين زعلهم واستنكارهم لاستخدام كلمة "تحرير"، لأن المحتل، هنا، برأيهم، هو ابن بلدنا وليس إسرائيل!..
أذكر، بهذه المناسبة، أن بعض الشيوعيين، في الثمانينات، أي في أوج القمع والاستبداد، كانوا ينقلون عن الرفاق القياديين في الاتحاد السوفييتي تصنيفهم للأنظمة التي كان يقودها حافظُ الأسد وصدام حسين ومعمر القذافي اسم: الأنظمة الوطنية!!!! بمعنى أنها ليست اشتراكية مناضلة؛ ولكنْ يمكنُ بلعُها وهضمُها بسهولة لأنها: وطنية!.. وكان الرفاق السوفييت ينصحون الرفاق المحليين بالتعاطي الإيجابي مع أنظمتهم، لأنها، على الأقل، ليست رجعية.
بتاريخ 29/4/2013، كتبت أنا، محسوبكم، على مدونة أورينت نت مقالة بعنوان (نظام الأسد.. هل هو استعمار استيطاني؟).. عرضتُ خلالها من الحجج والبراهين ما يكفي لإثبات أنه أي نعم؛ استعمار استيطاني و(طجة)!.. ولعل شعار "الأسد أو نحرق البلد" الذي رفعتْه طغمة الأسد وطَبَّقَتْهُ بحذافيره يكفي لإثبات هذه الحقيقة.. ولو أردنا أن نجري- من باب المماحكة- مقارنةً بسيطة بينه وبين إسرائيل لأمكننا أن نتساءل: ماذا يمكن أن تفعل إسرائيل فيما لو وقفت دولةٌ ما، أو جهة ما، مطالبة إسرائيل بإنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية، وأن يرجع كل مستوطن إسرائيلي إلى البلد التي أتى منها وصلى الله وبارك؟!
في بداية الثورة السورية، أو، بالتحديد، بعد تَسَلُّح الثوار، أصبحت لنا نحن ثوار مدينة إدلب، مناطق نتحرك ضمنها دون أن يجرؤ أخو أخته من جماعة النظام بالاقتراب منا قيد أنملة.. وبقي للنظام مربعُه الأمني الذي يبدأ من تمثال حافظ الأسد في مطلع شارع القصور، أمام قصر المحافظ، واصلاً إلى فرع حزب البعث، والفروع الأمنية والشرطة العسكرية جنوباً.. وكانت قوات حفظ النظام تقنص وتقتل كل من تسول له نفسه الاقتراب من المربع، وقد سقط عدد كبير من الشهداء لهذا السبب بالذات..
في ذات يوم.. كنا نمشي قادمين من الحارة الشمالية حاملين نعشي شهيدين لتشييعهما، وحينما وصلنا أمام الكرة الأرضية دب خلافٌ بيننا، فقلنا، نحن المعتدلين، إن الذهاب شرقاً باتجاه ساحة البازار أفضل وأأمن، والمتهورون أصروا على الذهاب جنوباً، من طريق المستشفى الوطني، متلهفين للوصل إلى شارع القصور، مُضْمِرين تحطيم تمثال حافظ الأسد المذكور (كما أسر لنا الشهيد المرحوم أحمد مشقع فيما بعد)، وحينما وصل الموكب أمام القصر العدلي فتح القناصة أبوابَ جهنم علينا، وأوقعوا أربعة شهداء جدداً عدا الجرحى.
خلال تلك الفترة كان النظام يطوق مدينة إدلب بالجنود والدبابات والعربات المدرعة، وحينما استكمل حصارها اقتحمها، في أواسط آذار 2012، وأعاد احتلالها بالكامل، معلناً أنه قد أتم (تحريرها) من العصابات الإجرامية المسلحة!.. وسارع الشبيحة القدامى الذين كانوا مختبئين في الجحور إلى تشكيل قطعان منظمة أخذت تعيث في المدينة سلباً ونهباً وفساداً وهيمنة تحت عنوان إعادة الأمن والاستقرار إلى شعبها الأبي.
ومنذ ذلك التاريخ، حاول ثوار إدلب الذين تشردوا في أريافها تحريرها من قبضة النظام أكثر من عشرين مرة، فكانوا ينجحون في تدمير حاجز أو أكثر، وسرعان ما يعيد النظام ترميم الحاجز وتجهيزه بقصد أن يبقى شعب إدلب متنعماً بالأمن والأمان في ظل الجيش والمخابرات وقطعان الشبيحة المحترمين.
وما حصل مؤخراً أن "جيش الفتح" الذي يتألف من ثماني فصائل مقاتلة تمكن من (تحرير) إدلب مرة أخرى، ودحر قوات النظام، وطاردها على طريق أريحا.
الغريب في الأمر أن النظام المهزوم البائس لم يجد طريقة يترجم فيها غضبه من هؤلاء (الإرهابيين) الذين احتلوا المدينة (بل حرروها) غير المباشرة بقتل الشعب المسكين الذي كان يزعم أنه حررها قبل ثلاث سنوات لأجل أن يعيد إليهم الأمن والاستقرار!
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية