(خط نار ممتد)للأديب: محمد محمد السنباطي
الفصل الرابع
نقش على خصية
وفي المدرسة قابله الناظر مبتسما . اقترب منه وهمس :
- أريدك في كلمتين . متى انتهيت من عملك تعال إلى مكتبي .
جذب الناظر كرسيا وقال : اجلس هنا إلى جانبي . رحم الله والدك . لقد عزيتك في وفاته ولم أكن قد رأيته . سأحدثك في أمر يخصني . وأنت رجل وآمل أن تحافظ على السر . أيهما أقوى البشراوي أم العجوز أم الثالث الذي لا |أذكر اسمه ؟
- أنا لا أتعامل مع هؤلاء الناس يا حضرة الناظر
- باختصار سأحكي لك
وارتعدت شفته العليا فاهتز شاربه بطريقة عصبية ومال برأسه نحوي حتى أحسست لفح أنفاسه وهو يصارحني : منذ أربعة أشهر وأنا لا أستطيع "النوم " مع زوجتي ! سآتي معك لأعرض الأمر على أحد هؤلاء فربما كان الشفاء على يديه .
شعرت بالضيق والكرب لأنني سأتعامل مع هؤلاء الناس ولكن من أجل حضرة الناظر سأذهب !
استقبلنا الرجل بترحاب وأقسم ألا يأخذ شيئا من الأجر إكراما لي ! وبعد أن أخذ الأثر قال للناظر : لم يعمل لك أحد أي عمل !
- ولكن عضوي لا ينتصب رغم الغذاء الجيد وصحتي كما ترى جيدة
- سأكتب لك بعض الكلمات على خصيتك وستدهش لسرعة تحسنك !
انزويت في ركن الحجرة والرجل ينقش كلماته على ذلك الموضع من جسد حضرة الناظر . تخيلت أن معي آلة تصوير وأخذت لهما بعض الصور لعرضها في معرض الصحافة المدرسية . تنحنحت عدة مرات لأخلط بين السعال والضحك المكتوم وأقسمت على الناظر أن نتغدى فاعتذر هامسا في أذني :
- سأعود سريعا للبيت قبل أن يتبدد مفعول الكتابة !!
في الأيام التالية قابلني الناظر بتجهم . كدت أسأله عن أحواله ولكني خشيت أن يصدني . لماذا هو قرفان مني هكذا ؟ ربما لأني الشخص الوحيد الذي يعلم سره ولو كان الأمر بيده لتخلص مني نهائيا.
انتهت الحصص العشر المتفق عليها مع الشابين وأعطيتهما حصة إضافية من عندي للمراجعة . أخرج سالم فهمي خمسة جنيهات وشكرني :
- والله لا أدري ماذا كنا سنفعل من غيرك .
- والله يا سالم أنا لا أريد أن آخذ منك شيئا . والدك لا يأخذ من الناس . ورغم أني لا أتفق معه فيما يقوم به إلا أنه على أي حال يعمل ذلك مجانا .
أما سعد القاتم فقال وهو يسرع الخطى : نسيت إحضار الفلوس!
وغادر ببجاحة !
كيف أطال شيئا من آل القاتم وأنا من أهل العيب كما قال رأفت ؟!
سبتمبر ثقيل
سبتمبر الجميل حيث تباشير الشتاء يفوح عطرها في حياء . بين الحين والحين تظهر سحب تمر دون أن تلقي تحية. سبتمبر ، الشهر الذي يحس فيه الإنسان أن الطبيعة تريد أن تفعل شيئا كانت اعتادت أن تفعله. له في القلوب ظلال وروائح وتجديد حياة . هذا الشهر الذي يتثاءب فيه الوجوه ليصحو كان شهرا قاسيا هذا العام . تدريبات مستمرة ومناورات . قفز ليلي وقفز نهاري . على الظهر صاروخ 9م 14م مالودكا المعد لضرب الدبابات . على الصدر الشدة الكاملة بها المعلبات والملابس والأغطية وقرص كحولي لعمل الشاي أو لتسخين الأغذية المحفوظة . فترات الهجوم في أول ضوء وفي آخر ضوء. إجهاد . عرق . عمليات انتشار مواقع تبادلية للكتيبة حيث يتركون مواقعهم لكي ينتقلوا بلا خيام بل يكتفون بأضلاع الهايك التي لا يضير الجنود حملها . الكتيبة في تدريبها تصنع رأس سهم معتدل ورأس سهم مقلوب وتشكيل على اليمين وتشكيل على اليسار وتدريبات لاحصر لها وذلك استعدادا ليوم سيأتي لا محالة فتكون الحرب أمرا شبه عادي بالنسبة للمقاتلين المتمرسين . انتقل مجاهد من أنشاص إلى موقع تبادلي لا يعرف له اسما وفي هذا المكان الجديد تناول الجنود التعيين الطازج أما التعيين الجاف فليؤجل ولا يستعمل إلا إذا صدرت الأوامر .
يلتقي مجاهد في أوقات الفراغ النادرة ببعض المعارف يتحدثون عن أفراد من القرية أو البندر أو الناحية يخدمون مثلهم . ويجئ الحديث عن مشرف المعروف بالخبير والذي يريد أن يحرر القرية من الخزعبلات . تم تجنيده في سلاح الاستطلاع كجندي مؤهلات عليا . تدرب في مركز التدريب بحلمية الزيتون خلال سبتمبر أكتوبر نوفمبر 71 تم توزيعه على الفرقة السابعة بالجيش الثالث الميداني بالسويس . أصبح ضابطا احتياطيا بالدفعة 28أ . أمضى تدريبه بالتل الكبير . عليه التمييز بين أسلحة العدو المختلفة وأسلحتنا . نوعياتها سواء أكانت مدفعية أو دبابات أو طائرات على اختلاف أنواعها . ما أكثر المحاضرات عن نظام الخدمة العسكرية في إسرائيل من باب : اعرف عدوك . تم توزيعه بعد حصوله على رتبة ملازم أول تحت الاختبار على الفرقة الثانية بالجيش الميداني في أكتوبر 71 . كل شهر تدريب كامل على كيفية اقتحام العوائق المائية سواء في جزيرة البلاح أو في ترعة الإسماعيلية أو ترعة الخطاطبة وذلك بتشكيل الوحدة الكاملة كلواء مشاة بوحداته الفرعية وأسلحته المختلفة بالذخيرة الحية بالإضافة إلى تدريب على الكمائن والإغارات على نقط العدو . كانوا ينتظرون الأوامر لبدء الحرب خلال عام 72 ولكن ذلك لم يحدث 0 طال الانتظار وتوقعوها خلال يوليو 73 تم الاستعداد والتدعيم للأسلحة المختلفة لكن الحرب لم تشتعل 0 حدث في سبتمبر الذي نحن فيه الآن أن تم وقف جميع الإجازات إذن ستقوم الحرب لكن سمعوا عن تسريح دفعات تجنيد 64،65 والمعروفة باسم أسد وعمر وصلاح فما تفسير ذلك ؟! لا حرب تبدو في الأفق !
جميع فرق المشاة في الجيشين الثاني والثالث ثم تدعيمها بفرق مدرعة وألوية مدفعية ميدانية ذات أعيرة مختلفة وفي كل فرق مشاة كتيبة قوارب مهمتها التدريب على التجديف وإمرار أفراد الجنود والضباط بأسلحتهم الخفيفة إلى الضفة الشرقية من الضفة الغربية وهي الموجات الأولى للعبور ..كانوا يتدربون على عبور موانع مائية في الجهات التي سبق ذكرها وهي جزيرة البلاح وترعة الإسماعيلية وترعة الخطاطبة . كل فرد في هذه القوارب كان يعرف عن ظهر قلب مكانه بالقارب ورقم معبر الاقتحام ومكان المعبر .كان يوجد 174 معبر اقتحام 0 يقف الجندي ويقول : أنا الجندي فلان . سأعبر من معبر كذا بالقارب رقم كذا من مكان كذا ووضعي في القارب كذا ومهمتي أثناء العبور كذا وكذا ... كأنه يسمع جدول الضرب .
الحرب تتموه
يجئ شهر الصوم في أواخر سبتمبر ويبدأ أكتوبر0 شهر جديد من التدريبات العنيفة والانتظار الطويل 0 الانتظار أصعب من التدريبات ولن ينزل أحد إلى البلد ولن يرى الأهل والأحباب إلا إذا قامت الحرب وانتهت فالإجازات ممنوعة في هذه الأيام ولكن المفاجأة كانت عندما تم إطلاق الإجازات لمدة 48ساعة . الحرب تتخفى وتتموه !
في الخامس من أكتوبر تم دفع قوات رمزية تمثل مجموعات مهندسين وإغارة وكمائن وعين مشرف قائدا لمجموعة حماية المهندسين المكلفين بإبطال مفعول النابالم بمنطقة الدفرسوار . ها هي مظاريف مغلقة لا تفتح إلا الساعة الثانية ظهرا تم تسليمها صباح السادس من أكتوبر . مظاريف مغلقة وفي غاية السرية 0 هل تستطيع البصيرة أن تنفد إلى داخل هذه الأظرف وتستشف الأخبار ؟ لاشك أن الأمر جلل !! على الأمور أن تسير عادية على ضفة القناة حتى الظهر. بعض الجنود يلعبون الكرة على الضفة وكأنهم من عالم غريب منفصل . ماذا يحدث وسيحدث على شاطئك أيتها القناة ؟!
مظروف مغلق
محمد بدوي .. الذي كان في الكارتة عائدا مع زينات وأبيها عندما كادت تقع بهم في المصرف. أتذكرونه ؟ . ضابط احتياط التحق بالجيش كجندي ثم تم تحويل المؤهلات العليا إلى ضباط احتياط دفعة 28أ . كل سنة يبدأ التدريب وينتهي بعملية عبور وهمية . وربما لم يكن بدوي بنفس روح مشرف وذلك لأنه في بعض الأوقات كان يتشكك في إمكانية قيام حرب . كان يريد أن يعود إلى القرية بسبب مشاكل تتطلب وجوده حيث تنازعت أسرته مع جيرانهم على قطعة أرض 0 كل يدعي أحقيته في ملكيتها وكان قلقا على والده المريض وكلما نزل أجازه قال له الشيخ :
- ما أسرع ما تتركنا يا محمد . أتمنى أن تبقى معنا حتى نحل مشكلة أرضنا .
فيقبل والده في جبينه ويحبس دمعة حائرة ويقول :
- يا أبي أرضنا هناك وأرضنا هنا أنا حائر بين هذه وتلك 0 في القرية مشاكل أرض وفي الجبهة مشاكل أرض . إن الأرض قدرنا يا أبي .
في أول رمضان جاءت الأوامر بالتحرك إلى الجبهة واحتلال مواقع جديدة في القنطرة غرب . كالعادة عند تحرك القوات يحملون معهم ما يخصهم من مأكل وملبس وماكينة إنارة وحتى جهاز التليفزيون يأخذونه معهم على احتمال أن الحرب لن تقوم . يتمركزون في المواقع المحددة لهم سلفا وينتظرون . وفي صباح العاشر من رمضان سمع ضابطا يقول لزميله :
- قد تبدأ الحرب اليوم يا رجال !
- إن جنودا يلعبون الكرة في مكان قريب من القناة . ألا تريد أن تلعب أنت الآخر معهم ؟!
- ألا تتوقع مثلي قيامها اليوم تحديدا ؟
- أنا لا أفكر في الحرب إلا إذا اشتعلت أمامي. ألم تصلكم نشرة لتحديد الضباط الراغبين في أداء العمرة أو الحج هذا العام ؟! يا أخي إن هذا لم يحدث منذ 67 0 ألا يعني هذا أن الحرب لن تقوم إلا بعد العيد الكبير ؟
لم تمض دقائق حتى علم بدوي أن مظروفا بحوزة القائد في غاية الأهمية سيفتح في تمام الساعة الثانية عشرة ظهرا ..
سرت رعدة في بدنه ! تعجب واندهش .
بدء التحرك
نعود إلى مجاهد ..
أصدر قائد الكتيبة أمرا بالاستعداد للتحرك .. انطلق صوت البروجي فأخذ كل يعود إلى مكانه في أرض الطابور . وقف القائد وألقى أوامره: الجمع بالشدة الكاملة والأسلحة في ظرف خمس دقائق استعداد للتحرك. أسرع الأفراد واستعدوا . تمم كل رقيب فصيلة على جنوده وأعطى التمام لقائد السرية بتمام الفصيلة. قائد السرية أعطى التمام لقائد الطابور بضرب رجله اليمنى بجوار اليسرى في همة ونشاط وبتأدية التحية العسكرية .
- تمام يا أفندم السرية مستعدة للتحرك
حتى هذه اللحظة لم يكن أحد الجنود يعلم بما سيحدث . بعد الحصول على التمام من السرايا الأخرى في الكتيبة والاطمئنان على أن أحدا لم يتخلف . أعطى قائد الطابور تمام الكتيبة واستعدادها للتحرك إلى قائد الكتيبة . كانت الأوامر والتمامات تصدر بصوت حازم . في السماء كان علم مصر يرفرف ومن تحته الرجال مصطفون لا يتحركون . أعطى قائد حملة الكتيبة تمام الاستعدادات فالعربات كلها جاهزة للتحرك وبدأت بالفعل تشق طريقها بانتظام . بالحركة تماوج المكان . بالخطوة السريعة انطلقوا اثنين اثنين يقفزون داخل العربات . لا مزاحمة ولا تلكؤ . بعد صعود آخر جندي أعطى حكمدار كل عربة وقائد كل فصيلة تمام الأفراد للتحرك لقائد الكتيبة وارتفع صوت :
- دور ماكينات !
صدر الأمر ببدء التحرك مع مراعاة المسافة بين كل عربة والتي تليها . غادر الكل أرض المنطقة آخذا طريقه فوق أرض معبدة بين رمال وتلال 0 ينزاح الصمت شيئا فشيئا. سمعت أن شيئا ما سيحدث بعد ظهر اليوم
- أدعو الله أن يكون ذلك صحيحا . أين عبد القوي الشاعر ليسمعنا شيئا
- لا نريد شعرا بل غناءً .
- ها هو في عمق العربة . يا شاعر الغبراء أستحلفك بابنك هيثم أن تغني لنا " على بلد المحبوب وديني"
وأخذ كل من في العربة يرددون خلفه ويصيح أحدهم :
- يا سلام يا ست !
العربات تسير 0 تظهر مرتفعات وتختفي 0 تظهر قرى ونجوع وتختفي 0 في مفترق طرق رأى الجنود عربات أخرى من كتائب أخرى 0 تبادل الجميع كلمة واحدة :
- الحرب قامت . الحرب قامت !
بعض النكات انبثقت في خفة ظل غير عادية فضحك الكثيرون 0 ضحكوا أنواعا متناقضة من الضحكات .
- أتعرفون ماذا يتمناه الشاعر الآن يا أولاد ؟ لو كانت المعركة مذاعة على الهواء كي يرانا أحبابنا وتزغرد أمهاتنا . كم أتمنى لو سمعت زغرودة أمي وهي ترى ابنها في هذه الأملة ! 0 تسألونني عن الشعر سأكتب الآن قصيدة بالحديد والدم ! قل لي بربك يا مجاهد هل أنت خائف من الحرب ؟
- كل إنسان يخاف ولكن ما دمنا في عربة والجو هادئ ونغني فلا مجال للتفكير فيما سيحدث . هذه طبيعتي !
المعابر
القناة ممتدة . يلمع ماؤها . وهذا معبر من المعابر التي أقامها المهندسون0. لعربات تتوقف 0 أصوات المدفعية تزلزل الأرض . القوارب منطلقة تعبر . كانت الأوامر قد صدرت لجنود الصاعقة أن يلتحقوا بكتائب المشاة المحددة لهم حيث التحق عبد القوي ومجاهد ومدحت بكتيبة مشاة وصدر الأمر بعبور القناة والاشتباك مع دبابات العدو .
صيحات الجنود تعلو على انفجارات البارود . عبر الجنود المعبر في عربات غير تلك التي أتوا فيها . ساحة العمليات أمام العيون خلية نحل . بدأ أفراد الكتيبة يقفزون فوق الأرض التي حرموا منها سنوات . عبروا الساتر الترابي ودوت صيحة الله أكبر . انحنى بعضهم ساجدا وقبل الأرض . التقط بعضهم حفنات رمل واحتفظوا بها .
- هذه الرمال سأقدمها لهيثم عندما أعود . انظر علم مصر يرفرف على أحد الحصون .. رفرف جعلت فداك يا علمي . رفرف فديتك بالعزيز دمي !
ترى كيف كان الاقتحام ؟ كيف كان لون الحق المظلوم وهو يظهر على الباطل الظالم ؟ فلتمسحي يا مصر دموع عينيك بطرف علمك الخفاق !
استقرت الكتيبة في موقع رأت أنه مناسب . صدرت الأوامر بالاشتباك مع العدو وضرب دباباته . قام مجاهد بخلع الصاروخ مالودكا من الحافظة ووضعه في غطائه الذي تحول إلى قاعدة إطلاق . الصواريخ الأخرى على اليمين وعلى اليسار . جهاز الضرب في المنتصف . على مقربة منه وقف أفراد المشاة يحملون آر بي جي ، لحماية المنطقة الميتة للصاروخ . لمح إحدى الدبابات . التقطها في المنظار حتى أصبحت في مرمى الضرب على مسافة كيلو مترين . جهز الصاروخ رقم واحد . ظهر اللون الأحمر في جانب جهاز الإطلاق . ضغط على زر الإطلاق فتحرر المارد من القمقم . التقطه في المنظار وراح يوجهه بعصا التوجيه بتحكم تام وأعصاب ثابته إلى أن وصل إلى الهدف ودوى الانفجار . تحركت عضلات وجهه ودغدغته فرحة سرت في كيانه . تولدت على شفته ابتسامة .
- الحمد لله . دمرت دبابة !
وجهز الصاروخ الثاني.
من غرب القناة
في الجانب الغربي من القناة حيث كان الضابط محمد بدوي ، تعطل فجأة أحد الأجهزة في مركز الملاحظة . طلب منه قائد عمليات الكتيبة أن يذهب إلى مركز الملاحظة لإصلاح الجهاز وإعادته . سأل عن سائق العربة لكن السائق كان في مهمة أخرى .
- سأقود العربة بنفسي يا أفندم
وصل إلى نقطة الملاحظة . استطاع إصلاح الجهاز المعطل وعليه أن يعود إلى موقعه . كان قد اقترب من القناة . أخذته النشوة . قرر أن يمتع عينيه برؤية العبور .
ورأى المشهــد !..
أرأيت كوبري قصر النيل في القاهرة يوم شم النسيم وعددا لايحصى من الزوارق التي تنبض بالحياة ؟ هذه الصورة انطبقت على الصورة التي يشاهدها الآن . منظر عجيب . يختلط المشهدان في عينيه . ينبثق علم مصر على الضفة الشرقية . تمنى ألا يعود إلى موقعه في الكتيبة وأن ينطلق ليعبر القناة ولا يحرم من هذه المتعة . لكن كيف ؟ . عاد إلى موقعه ليقوم بعمله ويؤدي دوره . مع ذلك فالحياة هناك . الحياة هناك في الضفة الشرقية !!
أكثر من ثلاثين ألف مقاتل عبروا القناة في الخمس ساعات الأولى وهو ليس منهم . كم كان يتمنى لو كان الآن معهم واشتبك !
أما مجاهد ففي اليوم الأول أدرك أن قوات المشاة والصاعقة عليهم مواجهة الدبابات المعادية حتى يكتمل عبور دباباتنا ومدفعيتنا وأسلحتنا الثقيلة إلى شرق القناة . كان يتقدم والعدو يخسر . صدر الأمر لاحتلال موقع وتحريره فتواثبوا . طهروا المكان من البقايا والمخلفات التي لم يحملها معه العدو أثناء انسحابه . قام خبراء المفرقعات بإبطال مفعول الشراك الخداعية والألغام . في مساء اليوم الأول للحرب استشهد الملازم أول محمد ذكي الأرموشي نتيجة لغم انفجر فيه وكان من مجموعة المهندسين وكذلك الجندي أحمد نصر . استعبر عبدالقوي : هما الآن في الجنة .
وتم إخلاؤهما للخلف .
- أين سننام ومتى ؟
- وداعا أيها النوم . انتظر حتى تنتهي الحرب
الليل طويل وبارد فمتى الصبح يتنفس ؟ المكان خال تماما ممن احتلوه زمنا . رغم الصعوبات فالفرحة مسيطرة . لا خوف بل رغبة في استرداد المزيد من الأرض .
الابتهالات الدينية قبل أذان الفجر تنبعث من محطة القرآن الكريم في ترانزيستور صغير الحجم جدا لا يستطيع مجاهد أن يعيش بدونه 0 المبتهل يدعو الله أن ينصرنا ويقوي عزائمنا. عند أول ضوء زأرت طائرات العدو وزمجرت 0 جاءوا لينتقموا 0 أخذ جندنا ينخفضون في الحفر والخنادق يراقبون0 لن يفعلوا شيئا سوى المراقبة والانتظار 0 قلوبهم تتصل بالخالق ليكون معهم 0 ظهرت طائرات في سماء المعركة أزيزها يملأ الآفاق ويصم الآذان بل يعصر القلوب 0 انطلق فجأة صوت من إحدى الحفر :
- الله أكبر أسقطنا طائرة
آخر أشعار عبد القوي
أما عبد القوي فلاحت في خياله بارقة قصيدة :
الأرض والعرض توءمان ِ فإن أفرط ففي كياني
وكان أزيز الطائرات قد ازداد حدة ثم توقف فجأة فأسرع الشاعر بالخروج من حفرته ليتابع المعركة الجوية وكذلك مجاهد
- انزل إلى الحفرة !
- ولماذا لاتنزل أنت ؟
- اسمع هذه الأبيات واحفظها عني
الأرض والعرض توءمان ِ فإن أفرط ففي كياني
وإن أدع للعدو أرضــــي تركت عرضـي لأفعوانِ
فداك يا مصر نور عيني ..............
غطس كل منهما في حفرته عندما زأرت الطائرات 0 المعركة إذن ماتزال مستمرة 0 ألقت طائرة حمولتها الرهيبة . زلزلت الأرض وغارت مخرجة كومة هائلة من الحصى والرمال هوت إلى جانب الحفرة التي أنشأتها وغطت مسافة دائرية كبيرة 0 عادت الطائرات من حيث أتت
- الغارة انتهت يا مجاهد 0
- من أنت ؟
- أنا مدحت
- ابق مكانك 0 كدنا نضيع 0 يا عبدالقوي ! أين انت لتصف لنا الأحداث ؟ يا أبا هيثم .. ما كل هذه الكومة الضخمة ؟ كان عبد القوي في الحفرة التي 00 هذا هو المكان .. رباه ! أهذا الحصى وهذه الرمال جميعها فوق كاهلك أيها الشاعر ؟ تجمد دمع الرفاق وهم يشاهدون التل الذي أنشأته القنبلة فوق الشهيد 0 وقفوا يحدقون إلى أسفل ..لا أمل في كونه حيا مايزال 0 لقد دفن في الأرض التي عشقها . آخر كلمة نطق بها فداك يا مصر ...
طيرانهم المنخفض جدا - والذي وجهته غرب القناة ليضرب قواعد الصواريخ - كان أحيانا ولشدة انخفاضه يصطدم بالتلال 0 البعض الآخر يرتفع جدا ليتفادى الأسلحة الصغيرة فيتم اصطياده بصواريخ سام 6،3،2 . كانت كفتنا راجحة وهناك ما يسمى بالدفاع من الثبات حتى تتمركز القوات لعمل رأس كوبري . بعد ساعتين من استشهاد عبد القوي واجهتنا ثلاث دبابات وعربتان مدرعتان استطعنا تدمير إحدى العربتين وأسر قائد المجموعة وتسليمه بعد ذلك إلى الضابط حجازي .
تطوير الهجوم
جاءت التعليمات بأن سيتم تطوير الهجوم حيث تقوم مجموعات أسلحة المهندسين بفتح ثغرات حتى تمكن القوات المدرعة من التقدم رغم وجود نيران كثيفة ورغم المقاومة العنيدة في منطقة المضايق . تم دفع نقطة قتال خارجية لتتعامل مع القوات المدرعة ثم تقوم مجموعة أخرى بحركات التفاف للتطويق 0 في إحدى هذه المعارك وكان أفراد المشاة في الحفر متمركزين بها ومعهم أسلحتهم الخفيفة ، لم يستطع أحد جنودنا أن ينتظر حتى يأتيه الدمار وهو في الحفرة . خرج إلى السطح واندفع نحو إحدى هذه الدبابات ! شاهد مجاهد المنظر وعرف الجندي الذي يصارع الدبابة . إنه محمد عبد العال من الاسكندرية كان يتعلق بماسورة دبابة معادية 0 ولأن الماسورة سخنة فإن الجندي كان يتركها ويسقط فتدخل الدبابة عليه لتدهسه فيناورها ويتعلق مرة أخرى بالماسورة ففتحوا عليه نيران رشاش نصف بوصة لكن هذه النيران لم تصبه لقرب المسافة فقد كانت متر أو متر ونصف 0 لم تتمكن الدبابة من اصابته وتم تدميرها بصاروخ فهد وأسر أحد جنودها ممن قفزوا 0 استسلم بسهولة لقواتنا كما تم أسر دبابة سليمة يشير عدادها إلى 36كم 0 كما كان الفوز الكبير ببعض صناديق التفاح وجراكن الماء المثلج من داخلها !!
أنباء تتوالى
توالت الأنباء أن الهجوم المضاد الذي قام به العدو في اليومين الثاني والثالث للحرب قد خسرت فيه الفرقة المدرعة بقيادة مندلر حوالي 175 دبابة 0 أما طائراتنا ودفاعاتنا الجوية فأسقطت للعدو 27 طائرة في اليوم الأول وأكثر من ذلك في اليوم الثاني.0 في اليوم الثالث أصبحت قوات الجيش الثاني تقاتل على عمق عشرة كيلو مترات شرق القناة.0 علمنا نبأ تحرير القنطرة شرق حيث تمكنت الفرقة 18 مشاة بقيادة العميد فؤاد عزيز غالي من حصارها واقتحامها والقتال الضاري داخل شوارعها ومبانيها والاستيلاء على معدات لا حصر لها وأسر كل من تبقى في المدينة من جنود الاحتلال وأذيع الخبر في المساء من إذاعة القاهرة وتناقلته كل إذاعات العالم وكانت فرحة مجاهد كبيرة وهو يقول لمدحت : في نظرك .. كم يساوي هذا الترانزيستور ؟
- الآن وفي هذا المكان .. يساوي كوب ماء عند عطشان !!
وفي الجيش الثالث الذي قد تغلغل بنفس العمق تقريبا استطاعت الفرقة 19 مشاة بقيادة العميد يوسف عفيفي احتلال عيون موسى .. وإذا كانت عظمة الإنجازات تتضاعف كلما كانت المعوقات أكثر صلابة فإن ما قامت به الفرقة 19 يفوق خيال .. كان مقررا أن تقوم قوات مهندسي الجيش الثالث بفتح الساتر خلال ست ساعات ولكن التربة في هذه المنطقة لم تكن كما في باقي المناطق فلم تستطع مدافع المياه التي يوجهها المهندسون أن تحدث الفتحات المطلوبة وزاد الطين بلة بتحول تلك المنطقة إلى مستنقع من الطين فكيف يستطيع جنود الفرقة 19 صعود الساتر في مثل هذه الظروف 00 وقف العميد يوسف عفيفي يراقب الموقف ويتابع الجنود الذين يحاولون ولا يتمكنون فالطبيعة أقوى من هذه الأجسام التي تقع ثم تعاود النهوض في شجاعة وإصرار ولكنها لا تستطيع ..
وبتجاربه السابقة أدرك القائد أن الموقع الطيني يجب لمواجهته أن يستلقي الإنسان ليواجه الطين بأكبر مساحة من جسمه في نفس الوقت كي لا يغوص 0 وبالفعل أصدر الأوامر : عليهم أن يستلقوا بأجسامهم على الساتر في صف على هيئة سلم ويصعد زملاؤهم على هذا السلم الآدمي حتى يتمكنوا من بلوغ أعلى الساتر.. وصعدوا سالمين ...
في المساء قامت هذه الفرقة بما لم يتصور العدو أن المصريين سيقومون به : هجوم ليلي والاستيلاء على مركز قيادة العدو في متلا.. وشهدت النقطة 149 عند مدخل طريق متلا قتالا شرسا حيث هوجمت على فترات متقطعة نظرا لصلابتها وتقدم المقاتل محمد زرد مطالبا بالتطوع لمهاجمة هذه النقطة الحصينة وتسلل هو وثمانية من المقاتلين خلال حقول الألغام والموت يرصدهم ،و الأسلاك الشائكة تعوقهم ،و انهالت النيران عليهم فأصيب محمد زرد إصابات بالغة وحاول حمدي أن يسعفه ولكنه قال له وهو يحاول إيقاف تدفق الدم :لا تشغل بالك بي ... أمامك ما هو أهم ! ..
استطاعت هذه المجموعة الصغيرة الاستيلاء على هذه النقطة الحصينة وأشرق وجه زرد وهو يقول قبل أن يغمض عينيه : أبلغوهم سلامي ! 00
فمن كان يقصد ؟ الزملاء الذين يتشرف الوطن بكفاحهم ؟ القادة الذين استأذنهم في فتح النقطة الحصينة وها هي تفتح ؟ أم الأهل والأحباب الذين تخفق قلوبهم بحبه إلى الأبد ! وقد عاون الرائد أحمد البنا في ترحيل الشهيد من موقعه بممر متلا ورافقه حتى أوصله إلى مستشفى السويس 00 استطاع العدو أن يدفع بفصيلة دبابات في نقطة اتصال بين لواءين من ألوية الفرقة 19 .. وفي مكر ودهاء تسللت دبابة معادية تجاه مركز القيادة المتقدم للفرقة ومعهم ال آر بي جي 2 ومدى هذا السلاح المؤثر مائة متر .. وقال الديدموني لرفاقه :
- دعوا هذه الدبابة لي .. إياكم أن يتصدى لها أحد غيري ! ..
والدبابة تقترب والجندي الديدموني على حسن يقول :
- تعالي .. اقتربي ..
وزملاؤه يحفزونه : اضــرب 00 !
- هذا شأني .. وهذه فريستي .. إياكم أن تقاسموني فيها !!
- إضرب يا ديدموني.. إنها على بعد خمسين مترا الآن ..
- لا .. انتظروا ..
- يا رجل.. أنت تخاطر بحياتنا جميعا !!
فأشار إليهم أن اصمتوا ..وعندما صارت المسافة لا تزيد على خمسة وعشرين متراً.. أطلق الديدموني على حسن دانته .. إصابة مباشرة .. وهلل رفاقه وأحاطوا به يعانقونه ... وهو يصيح
- دمرتها .. دمرتها .. إنها فريستي !!
وكانت هذه الدبابة مقدمة الكول فانسحبت الدبابات الأخرى عائدة إلى حيث أتت ...
القرية تشارك
وفي القرية ... استمع الناس إلى إذاعة القاهرة وهي تقطع برامجها المعتادة لتذيع البيان التالي :
" قام العدو في الساعة الواحدة والنصف بعد ظهر اليوم بمهاجمة قواتنا بمنطقة الزعفرانة والسخنة بخليج السويس بواسطة عدة تشكيلات من قواته الجوية عندما كانت بعض زوارقه البحرية تقترب من الساحل الغربي للخليج وتقوم قواتنا بالتصدي للقوة المغيرة ...
إذن فقد بدأت الحرب ...
لايمكن أن نسكت على هذا الهجوم الذي يقوم به العدو المتبجح 00
وكان عبد المنصف في حجرته قد أعطى الدرس لمجموعة من التلاميذ وينتظر مجموعة أخرى عندما سمع البيان .. وجاء تلاميذ غيرهم فقال لهم : يا أولاد... يبدو أن أحداثا عظيمة ستحدث 0 ولذلك لن أغلق الراديو 00 وأخذ يشرح لهم الحصة وهو يحاول ألا يكون شارد اللب ... وانتهت الحصة في الرابعة إلا ربعا تقريبا فأخذ الترانزيستور معه وأغلق الحجرة ليعود إلى بلده لكن الراديو ما زال مفتوحا .. وضعه في جيبه العلوي ليسمع وهو سائر في الطريق .. ركب عربة حسن بليح ولم يشارك الناس في حديثهم عن العدوان الذي تقوم به إسرائيل كما أذاع البيان الأول لكنه كان يدرك أن أشياء خطيرة ستحدث .. والعربة منطلقة إلى القرية قال المذيع وكانت الساعة الرابعة بعد الظهر : نجحت قواتنا في اقتحام قناة السويس في قطاعات عديدة ،و استولت على نقطة العدو القوية بها ورفع علم مصر على الضفة الشرقية للقناة 0 كما قامت القوات المسلحة السورية باقتحام مواقع العدو في مواجهتها .. "
الناس يهللون ويكبرون لكن عبد المنصف لا يفعل وجه أبيه يطل عليه من الحقول ومن خلف الأشجار ومن كل الآفاق .. يا وجه أبي الدافئ الحنون 0 لماذا لا يكون ابنك معهم الآن ؟! قال حسن بليح :
سأذهب إلى السويس فهناك يحتاجون إلى سائقين لنقل الإمدادات عبر الجبهة .. وكان صادقا في توقعاته... فلقد كان أهالي السويس يساعدون الجنود في حمل الذخيرة على عربات الكارو وعربات اليد لأن هذه الصناديق ثقيلة على أكتاف الجنود ...
- ثم لا تنسوا أنني سويسي أصلا .. رضعت من ثدي أمي على أنغام السمسمية !!...
لم ينم عبد المنصف في تلك الليلة ...
بحثا عن قرار مصيري
ظل يتقلب على الجنبين ويتابع إذاعات العالم بعد أن يستمع إلى إذاعتنا وها هي إذاعة العدو تقطع صمتها الذي كان بمناسبة يوم الغفران وتذيع النشرات التي يمكن أن نستشف منها فزعهم العظيم ... لكن ثمة نداء غريب يرددونه بين الحين والحين ويقولون فيه :
" على بائعي الألبان المستوردة الحضور فورا لاستلام الكميات المطلوبة " انهم يستدعون الاحتياط
ظل يهيم بروحه على القناة مرفرفا في الآفاق .. أخذ يتذكر أبناء بلده الذين يؤدون واجبهم الوطني .. يتذكرهم فردا فردا ويتخيلهم في ملامح بطولية ... ومن إذاعة القرآن الكريم سمع أن واحدا من الصالحين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدأ المعركة يشير بيده الشريفة إلى سيناء إشارات تدل على أن هذه البقعة الغالية ستتحرر .. ورأى آخرون رسول الله ينتقل في ساحة المعركة بين جنودنا لكي يشجعهم ويرفع من معنوياتهم .. وهناك رجل صالح آخر أقسم بالله أنه رأى النبي عليه الصلاة والسلام في منزل الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر فذهب الشيخ الصالح إلى الشيخ محمود في الحجرة المجاورة فوجده يصلي فانتظر حتى فرغ من صلاته وأخبره أن النبي في منزله فابتسم الشيخ ابتسامة الرضا واليقين وقال إني أعرف .. وأنا ذاهب معه إلى سيناء .. ولم تكتمل الرؤيا إلا بذهابهما معا إلى هناك يتفقدان الجنود الذين تشرق وجوههم لمرأى الرسول الكريم.. ودمعت عينا عبد المنصف وهو يسمع ذلك ..
ها هم الشباب يتبرعون بالدم وهم صائمون ويقال إن الحاج شعبان أغمي عليه والدم يتدفق من عروقه ولم يكونوا أخذوا منه سوى نصف الكمية .. عملوا له التنفس الصناعي .. وعندما أفاق أصر على أن يكملوا ويأخذوا الباقي فقال الدكتور:
- الأيام جايه يا حاج .. والوقت أمامنا طويل ..
لم يذهب عبد المنصف إلى المستشفى ولم يتبرع بدمه كما فعل الآخرون .. كل هذا قليل .. لن أضع نفسي إلا في الموضع الصحيح ..
توالت الوثبات وتوالى استرداد الأرض بعد الأرض ،و علم مصر يرتفع ويرفرف سعيدا بحريته وانطلاقه في الريح .. لكن أين صوت الرجل الذي أعطى قرار العبور ؟! لماذا لم يقدم بيانا إلى الأمة ؟ أم إن هذا الوقت وقت الأفعال ؟! المعجزة هى ما يفعله جنود مصر الآن 00 لاشك أن السادات قد دخل التاريخ مهما كانت نتيجة المعارك بعد ذلك 00 ألم يقل العالم إن عشرين في المائة من جيش مصر سيضيع في القناة عند العبور؟! ها هو الجيش يعبر بلا خسائر تذكر .. وحشد هائل من الدبابات والمدرعات والأسلحة الثقيلة... ساعات ليس إلا .. وكل هذا ينتقل إلى هناك 00 إنها المعجزة 00 ألم نسقط للعدو في اليومين الأولين أكثر من ستين طائرة مقاتلة ؟! وبياناتنا صادقة
بعد عشرة أيام من بدء الحرب ألقى الزعيم خطابا تحدث فيه عن مشروع السلام الذي يقترحه ..
عودة أفراد المظلات
وفي مكان ما توقفت الكتيبة التي بها مجاهد .. توقفت منذ أيام طبقا للأوامر .. كانت تتصدى للطيران كلما حاول منها نيلا ... مع ذلك كانت الرغبة عارمة لدى أبطالنا في التقدم وأخذ المبادأة .. صدر أمر بتجميع أفراد المظلات من كتائب المشاة وذلك للعودة إلى مدرسة المدفعية بألماظة لتغيير المهمات والتجهيز بوحدات نارية جديدة ...
تحرك الكول عائدا عبر الأراضي المحررة إلى أن وصلت القافلة إلى شاطئ القناة فعبرت العربات المعبر المنشأ آخذة طريقها إلى القاهرة التي فتحت ذراعيها كأم رؤوم... لا تسل عن الحفاوة والترحيب من كل جانب .. أيمكن أن يحس الإنسان بقيمته كما يحسون الآن ؟! والقادة يعلنون في مدرسة المدفعية استعدادهم لتلبية جميع رغبات الجنود .. تحت شآبيب المياه أحسوا بحلاوة الحياة ، بالانتعاش الذي حرموا منه دهرا طويلا تم تغير الملابس واستبدلوا بها أخرى جديدة00 أخذ الجنود يتلقون الهدايا والحلوى وهم سعداء 0 قال مجاهد في نفسه لماذا لا أكتب إلى أبي ؟! أمسك ورقة وقلما وتنحى جانبا وأخذ يكتب :
" أرجو يا أبي أن تبلغ أمي أني عرفت للأمومة معنى جديدا . فمصر هي أمنا جميعا 00 أقول لك يا والدي الحبيب أن أحد شهدائنا قال قبل أن يلقى ربه : الأرض والعرض توأمان 00 أي إن من لا يحب أرضه لا يحمي عرضه يا أبي00 دعواتكم لنا جميعا ولتطمئن قلوبكم ولعلنا نلتقي قريبا .. أريد تقبيل يد أمي .. "
وقال لنفسه متسائلا : لماذا لا أكتب إلى زينات كما كتبت لها في العام الماضي ؟! من حقي ألا أبخل على قلبي بفرحة من نوع آخر ..
" عزيزتي زينات 000
ماذا أصف لك 0؟ صار الرجل منا مشحونا بالرجولة.. صار عشرة رجال .. الحماس يكاد يجعل الجنود يتقدمون ويعصون الأوامر الصادرة بالتوقف ولولا أنهم يتمالكون أنفسهم لفعلوا ...
لو رأيت كيف ينحني الجندي على الأرض يقبلها 0! لو رأيت كيف تحولت الرمال الصفراء إلى ذهب ! لو رأيت كيف يسقط البطل وعلى شقتيه ابتسامة ! آه يا زينات 00 يجب أن يزور التلاميذ مستقبلا هذه المواقع ليشاهدوا بعيونهم كيف صنع إخوتهم وآباؤهم النصروكيف استردوا الشرف الحائر كطائر بحث طويلا عن عشه حتى عثر عليه ! لو رأيت كيف أسس العدو الحصون ليحتمي بها ... كان موقعهم مثلا في لسان بور توفيق يتكون من مجموعة من الدشم وتتكون جدران هذه الدشم من عربات السكك الحديدية المليئة بالأسمنت المسلح والفلنكات المسلحة ،و هذه العربات ردموها بالرمال المرتفعة بضعة أمتار 0 فأي قذائف يمكن أن تؤثر فيها ؟!
وهذه الدشم متصلة بأنفاق تربط ما بينها كجحر الثعلب ليتمكنوا من الهرب إذا ما سقطت إحداها .. ولها أبواب ضخمة من الصلب 00 وكان الموقع مسلحا بالدبابات وبطاريات المدفعية الثقيلة والرشاشات بأنواعها فانظري كيف اقتحم رجالنا كل هذه الصعاب !!
أشعر يا زينات نحوك بشيء أخشى أن أبوح لك به ولكني أقول لك صادقا أنني حين أدافع عن أرض بلادي يتملكني شعور قوي بأنني أدافع عنك أنت 00 أنت بوجه خاص00 أليس العرض والأرض توءمين كما قال عبد القوي أول شهيد في فصيلتنا .. أتمنى لو لقيتك في انتظاري عندما أعود ...
دعواتك ! ... "
ووضع الرسالة في غلافها وتوقف مفكرا في الجهة التي سيعنونها عليها . المدرسة لا شك مغلقة الآن . إلى المنزل؟ ربما وقعت في يد الحاج شعبان . ترى كيف هو الآن ؟ لعله يدور في الشوارع مع صابر ليلا ويصيح : أطفئوا الأنوار .. لعل كل من في قريتنا قد تغير إلى الأفضل ! ألم تساقط الغمامة السوداء مطرا يجعل النفوس المجدبة تنبت الأخضر واليانع ؟! ونحن الذين أسقطنا السحابة فما علينا لو أرسلنا الرسائل البريئة إلى الذين نحبهم ؟ لقد فعلنا ما فعلنا من أجل وطننا .. وما وطننا إلا آباؤنا في المقام الأول .. سأطلب يدها منه مرة أخرى عقب عودتي مباشرة .. لن يسألني هذه المرة عن موقفي من التجنيد بل سيأخذني في أحضانه 00
فتح مجاهد الرسالة التي كتبها لوالده وقرأها ثانية ثم كتب في ذيلها :
" ملحوظة :
" بي شوق يا أبي إلى صينية كنافة من صنع أمي .. نحن في رمضان والعيد قادم .. كل عام وأنتم بخير .. لعلنا نلتقي قريبا .. دعواتكم وأنتم في الصلاة 0"
طائرة لن تعود
أترك مجاهد في خطاباته وأعود إلى الجبهة أبحث في كل موقع عن أبناء قريتنا ، لأتابع ما يفعلونه أو على الأقل ما يدور أمام أعينهم ...
المكان إحدى القوات الجوية واليوم هو العاشر من أكتوبر .. وها هو العريف الصباغ الذي تخرج في المدرسة الملاحية التابعة للقوات المسلحة - القوات الجوية - وهو متخصص في تشغيل اللاسلكي وصيانته .. تلك الأجهزة الخاصة بصعود وهبوط الطائرات وهو يعمل في هذه القاعدة في برج المراقبة ... يقوم بتشغيل الأجهزة الخاصة بالاتصال وتسجيل المحادثات اللاسلكية ..
وهو لن ينسى مدى الحياة النقيب طيار محمد الشيخ :
لن ينسى أخلاقه وتواضعه ولن ينسى ملامحه التي تنطلق بالرجولة والذكاء .؟. يداعب هذا ويلاطف هذا 00 لا يعرف التعالي على أحد بل إنه لا يرى في نفسه ما يمتاز به على أي فرد عادي كان دائما يسأل الله النصر ،و يسأله أيضا مرتبة الشهداء .. وفي الساعة الثانية عشر إلا ربعا تم إخطار غرفة العمليات بوجود تحركات إسرائيلية في الجانب الشرقي للقناة وأنه يتحتم التصدي لها بطائراتنا .. على الفور قام تشكيل من أربع طائرات ميج 21 قاصدا الهدف المحدد . لم تكن المسافة تستغرق أكثر من ربع ساعة ذهابا وعودة .. لكن الدقائق تمر بطيئة ممتدة متضخمة وجميع من في القاعدة ينتظرون ومن بينهم العريف الصباغ الذي يتابع باللاسلكي. انقطع الاتصال دقيقة أو دقيقتين أو أكثر.. لا يمكن تحديد الوقت بالضبط... وإذا بصوت قائد التشكيل ينادي بقية التشكيل : هل حدث عندكم شئ ؟
وجاءت الإجابة : لا يا أفندم كله تمام !!
وهنا أدرك العريف الصباغ أن هنالك مشكلة وان أجهزة العدو تقوم بالشوشرة والإعاقة على الموجات الخاصة بنا .! كان المتفق عليه في حالة فقد الاتصال واعادته مرة أخرى أن تقال عبارة معينة يعلم العدو عندما يسمعها أن أجهزته لم تعمل كما يجب وأن التشويش لم يتم ولكننا عندما سمعناها عرفنا ما حدث بالضبط .. وجاء صوت النقيب محمد الشيخ يقول :
- بعد إذنك يا أفندم .. أنا أشعر بخلل في الطائرة ....
- اخفض من سرعتك قليلا وسوف أقوم بالالتفاف حولك لأرى بنفسي ما إذا قد أصابك شئ فأنت تعرف أننا تعرضنا لوابل من النيران لكننا والحمد لله نجحنا في مهمتنا 0
وهلل كل من في القاعدة وكبروا...
ارتفعت صيحاتهم المبتهجة 00 إلا أن العريف الصباغ صاح بهم :
- أنصتوا .. لقد أصيبت طائرة ...
- من ؟ طائرة من ؟
- طائرة النقيب محمد الشيخ !..
انطفأت الفرحة وشحبت الوجوه .. كل من في القاعدة يحبون هذا الرجل المتواضع السمح الرجل الجريء 00 وضعت كل وسائل الإنقاذ في أقصى درجات الاستعداد ... جاء صوت قائد التشكيل يبلغ النقيب محمد أن الإصابة لن تساعد على الاستمرار في الطيران لمسافة كافية وعليه الاستعداد للقفز بالمظلة في أول منطقة آمنة ...
كنا جميعا ندعو الله أن يعود سالما . على القدر أن يكون حليفه وأن يقرب المسافة الآمنة إليه 00 سلمت أيها الرجل 00 سلمت لبلدك ولنا جميعا ! ... المعارك ما زالت طويلة والوطن في حاجة لأمثالك 00
وذهلنا .. سمعناه يقول : آسف يا أفندم .. لن أقفز .. ثمة هدف معاد على مسافة أميال قليلة .. سأقوم بتدميره...
- كيف وأنت مصاب من الخلف ولم يبق معك صواريخ ولا قنابل .. اقفز فحياتك عندنا أثمن من الهدف ...
ولم نسمع الرد ... ألقى بالطائرة في الموقع الذي حدده لنفسه ودمره تدميرا ... لم يعد بعد .
عند كثيب الشجرة
في قتال شرس بالمدرعات الثقيلة أصيب العقيد أ0ح عادل سليمان يسري قائد اللواء 12 مشاة بشطية جعلت قدمه تنفصل عن باقي جسده .. القدم في الحذاء ملقاة على الرمل والدم ينبثق منها .. ربما كانت الأصابع ما تزال تتحرك .. أما العقيد فأمسك مكان الكسر بكلتا يديه ليمنع تدفق الدم قدر الإمكان 00 هرع إليه الضابط عبد الفتاح مشرف ليحاول أن يفعل شيئا وكذلك اندفع الكثيرون في محاولة لإنقاذ الرجل الذي كانوا يحبونه ويقتدون به وخاصة حجازي 0 اندفعوا إليه لكن الرجل الذي حاول بنفسه أن يوقف تدفق الدماء بحفنات من الرمال 0 أمسك بيسراه الحذاء العسكري الذي به قدمه المقطوعة وقال لهم : هذه قدمي.. لا أهتم بها اهتمامي بأرض بلادي .. عودوا إلى أماكنكم وتعاملوا مع العدو .. الذي يحب عادل يسري عليه أن يعود إلى موقعه ..
فعاد الجميع ما عدا اثنان قاما بإخلائه على الفور لمعالجته 00 حدث هذا في موقع يسمى " كثيب الشجرة " .. سيظل مشرف يذكره ما بقي على قيد الحياة ..
وكيف يمكن أن ينسى ذلك الرجل الحازم ، القاسي في أحيان كثيرة !! إنه الآن يقسو على نفسه كل القسوة ليحمي من معه ...
وتذكر مشرف شيئا 00في فترة الاستعداد ،و بالتحديد في يوليو 73 00 كان مكلفا بعمل خندق شمال الدفرسوار على شط القناة خاص بسرية استطلاع به نقط ملاحظة ومزاغل ومرابض أسلحة خفيفة ورشاشات ..
يصحو مع أول ضوء يأخذ الجنود لعمليات الحفر و إعداد الشكائر الرملية فيعملون حتى الساعة العاشرة وهو يتابعهم وبعد ذلك يعطيهم راحة كافية حتى يستأنف العمل مرة ثانية منذ العصر وحتى آخر ضوء 00 كانوا قريبين من قرية سرابيوم كان يبعث بعض هؤلاء الجند لشراء فول وطعمية وجبن وزيتون ومخللات 00 ويجلسون بحرية منتشرين في الموقع يأكلون ويقضون وقتا بدون قيود .. وفجأة ..
لمح أربع عربات تقف وينزل عبد رب النبي حافظ قائد الفرقة وعادل يسري قائد اللواء وكذلك رئيس أركان الفرقة00 وسأل العقيد عادل يسري ؟: أأنت قائد السرية ؟ ولماذا يجلس هؤلاء هكذا ؟
- انهم يستريحون من عناء العمل يا أفندم .. يسترخون قليلاً ...
- لا أريد أن أسمع كلمة استرخاء هذه .. أريد رجالا أشداء يا حضرة الضابط 00 أتسمعني ؟!...
وأصدر حكمه في التو واللحظة : 15 يوما حجز وقشلاق !00
كان موعد أجازته قد مر منذ أسبوع 00 أي أنه تأخر أسبوعا عن موعده ... ومع هذا سيتأخر أسبوعين إضافيين لن ينزل فيهما ..
- بلغ بذلك قائد الكتيبة ...
توجه إلى المقدم صلاح قائد الكتيبة فتعاطف معه واقتنع بوجهة نظره وأخبره أنه سيحاول إقناع العقيد عادل يسري..
ولكن عادل يسري لم يقتنع 00 وكحل وسط اقترح عبد رب النبي حافظ أن يكلف مشرف بعمل صعب فإذا أنجزه ألغيت العقوبة ..
كلفه بعمل مواجهة كتيبة استطلاع في خلال أيام وصرف له خمسين ألف شيكارة فارغة لعمل نقاط ملاحظة وحفر مرابض أسلحة خفيفة ورشاشات .. واتفق المقدم صلاح مع قادة جميع أفراد الوحدة الفرعية بالمنطقة من الدفرسوار جنوبا حتى بحيرة التمساح شمالا 00 على إرسال أفراد للمساعدة في إنجاز عمل هام 00 وبالفعل .. تم عمل الخنادق ونقاط الملاحظة ومرابض الأسلحة في الفترة المحددة 00 وتعجب العميد عبد رب النبي حافظ مما حدث .. كيف تستطيع سرية عدد أفرادها 37 فردا أن تفعل مثل هذا الإنجاز في ثلاثة أيام ؟! هذا غير معقول .. وكذلك تعجب العقيد عادل يسري وطلب الاثنان من المقدم صلاح مصارحتهما بالحقيقة فقال : لقد أحسست أنه مظلوم وفي نفس الوقت استفدنا بعمل هذه المواجهة الجديدة لكتيبة الاستطلاع ..
وعرفه عادل يسري بعد ذلك وتابع مجهوداته .. وأحس أنه أصبح يقدره على إخلاصه في العمل 00 وكان يوميا يبعث يسأله عن آخر المعلومات عن تمركز قوات العدو في المواجهة بالإضافة لنوع الأسلحة والمعدات وعدد الأفراد الاحتمالي في المواقع التي تواجهنا 00
وكان يطلب منه رسم بانوراما لشطي القناة من منطقة الجندي المجهول شمالا إلى منطقة الدفرسوار جنوبا ...
كان يجمع معظم قوات اللواء ظهر كل يوم جمعة ويصلي معهم صلاة الجمعة .. لا ينسى هذا الرجل الاسكندراني الذي كان في عز البرد يشمر أكمام قميصه ،و كان يتدفق حيوية ولا يحب الخبراء الروس وكان سعيدا في يوليو 72 بقرار طردهم وقال :" لنحارب نحن وننتصر نحن "0
نسيت أن أقول لكم النتيجة ! 00 قال له بصراحة : سأرفع الجزاء على الورق فقط ولكنك لن تنزل إجازة إلا بعد انتهاء مدة العقوبة ...
ينظر إليه الآن وهو جريح يغبطه على وطنيته ويتمنى لو جرح مكانه
خلف جبل عتاقة
صدر الأمر بالاستعداد للتحرك .. وأخذ كول السيارات طريق القاهرة - السويس عائدا إلى الجبهة .. توقفت القافلة في جنيفة ،و مضى قائد الكتيبة لأخذ الأوامر من قائد المنطقة ،و عاد بعد فترة وأصدر أوامره بتحرك أطقم الكتيبة في أماكن متفرقة ومتباعدة لاصطياد بعض الدبابات التي تمكنت من التسلل إلى الضفة الغربية.. وتوجهت الفصائل إلى مواقعها المحددة وأخذ مجاهد وفصيلته أماكنهم خلف جبل عتاقة والحدائق المحيطة به .. بعض طيور الضيق الدكناء تحلق في آفاق النفوس . كيف استطاع العدو عبور القناة ومن أين ؟ ومن سمح لهم فتسللوا ما بين الجيشين ؟ كيف تسربوا كما الماء من بين الأصابع ؟ !
أخذ موقعه في الفنارة على سطح مبنى حكومي ربما كان من قبل نقطة شرطة .. كان خياليا تماما . وأخذ يراقب دبابات العدو ليشتبك معها متى ظهرت وأصبحت في مجال الرماية .. وقف بعض الأفراد أسفل الموقع حاملين المدافع الرشاشة قائمين بالحراسة .. كانوا يتحركون في يقظة عندما لمحوا جنديا متهالكا يتطلع إلى جميع الإتجاهات .. صرخ فيه أحدهم : قف من أنت .. ألق سلاحك ..ارقد 0!
انخلع قلبه ولم يجد بدا من تنفيذ الأوامر ثم قال :
- أنا مصري مثلكم .. ضللت طريقي ..
انهالوا عليه بالأسئلة حتى تأكدوا تماما من شخصيته ولكن أحدهم أراد أن يمزح معه فقال : لون عينيك يوحي بأنك أجنبي !! ..
قال صوت آخر : لا تمزح يا عبد الفتاح فخطيبتي لون عينيها أزرق فهل معنى ذلك أنها ليست مصرية ؟! تعال يا دفعة ابق معنا 00 قلت لنا ما اسمك ؟
- خميس ..
- آ.. تذكرت .. تعال يا خميس .. ابق معنا ...
وأخذه ودخل الموقع وصعد إلى السطح ليعرف رأي الآخرين فيه .. لمحه مجاهد .. رأى وجه رجل غير غريب عليه 00 ترى أين رأيت هذا الوجه من قبل ؟ أين أين يا مجاهد ؟ لاشك أن البشرة قد حال لونها والذقن غير حليقة والاجهاد يطغى على الملامح.. ولكن هذه السحنة ليست غريبة عني.. رأيتها مرة واحدة أو مرتين .. من أين أنت يا دفعة ؟
- أأنت موظف ؟ أأنت مدرس ؟ أأنت الذي حللت محلي بعد أن التحقت بالجيش ؟!
- إذن أنت الأستاذ مجاهد !!
- سبحان الله 0 الدنيا صغيرة جدا .. وتعانقا طويلاً 0لي معك حديث 0 بل أحاديث .. ستؤنس وحدتي يا خميس .. كيف حالكم هناك ؟ لا ترد .. استرح الآن0.. خذ هذا الطعام وهذه السجائر .. ستبقى معنا إلى أن يشاء الله 0 ستقوم بالحراسة مع الزملاء لحماية الموقع ، وسأبقى هنا على السطح أنا وزملائي لنرصد تحركات العدو، ونتعامل معه بالنيران في حال ظهوره0
- أريد شيئا بسيطا يا أستاذ مجاهد ...
- اطلب يا عطر الأحباب !
- منذ ثلاثة أيام لم أعرف طعم النوم ...
- لست وحدك يا صديقي 00
بعد أكثر من ساعتين جاء قائد السرية فسأله مجاهد عن وسائل الاتصال بالكتيبة ،ووسائل الإمداد بالتعيين فقال : معكم معلبات تكفيكم لمدة كم من الأيام ؟
- أسبوع على الأكثر ..
- وذخيرة ؟
- الذخيرة متوفرة ولكن الأمر يتوقف على الاشتباكات يا أفندم ...
- سنمدكم بما تحتاجون إليه ونتصل بكم في أقرب فرصة ...
هم بمغادرة المكان لكن مجاهد استوقفه وأخبره عن خميس ...
- أنا أعرفه معرفة شخصية يا أفندم ..
- إلي به .. يجب أن يعود إلى كتيبته .. أين هو؟...
جاء يجر ساقيه ويتثاءب .. غادر المكان في صحبة قائد السرية بعد أن عانق مجاهد الذي لم يشبع منه !
ظل أياما ثلاثة يرقب تحركات العدو في الجهة الغربية دون أن تظهر دباباته .. وينزل ليقضي الليل في الخندق مع توالي الخدمة .. كان قلقا .. بل كانوا جميعا يعيشون القلق الذي فشلوا في استئناسه .. ثلاثة أيام انقضت دون أن يعود قائد السرية .. لم يتصل أحد.. تساءلوا فيما بينهم ماذا يفعلون ؟! وإذا حدث وشاهدوا دبابات معادية .. هل يتعاملون معها ويقومون بمحاولة تدميرها ؟ وإن فعلوا فكيف يتصدون وحدهم لانتقام العدو ولرد الفعل الصادر عنه ؟ سأل نفسه فيما بعد : أمرت أيام ثلاثة بالفعل أم يومان أم يوم واحد ؟! إن الزمن ينكمش ويتقلص ، أو يتمدد ويتوالد كما يحلو له ! لا كما يحلو لنا ؟! ثم00 مع أول ضوء تبادر إلى الأذن صوت دبابات قادمة من بعيد ليس خداعا سمعيا هذا.. ها هي تظهر على هيئة كول . هل يقف شعر رأسك يا مجاهد ؟ لقد تعاملت في سيناء مع أمثال هذه المدرعات ، وكنت مثالا للثقة .. تماسك يا رجل 0أخذ يسيطر على أعصابه، وسأل جورج عن رأيه ،وكذلك سأل فتحي . استقر الرأي على ضرب أول دبابة وإذا كان في الإمكان ضرب آخر دبابة يكون ذلك عظيما جدا .. فبهذا يقف الكول مكانه ويتعطل أملا في أن يعلم قادة المنطقة بما حدث فيمدوهم بأسلحة وبقوات مساعدة أو تتعامل قوات أخرى مع العدو من مسافة بعيدة ...
واستبقى مجاهد أنفاسه في صدره، وأطلق أول صاروخ ،وظل يوجهه إلى أن رآه في المنظار يرتطم بالدبابة القريبة التي في المقدمة ،وسمع الجميع صوت الانفجار فتنفسوا الصعداء وأطلقوا النيران بكثافة على الدبابات المعادية إلى أن نفدت القوة النارية للجماعة أوأغلبها ...
وتوقفوا... لاشيء يفعلونه الآن
الانتظار والترقب عملهم الوحيد .. الاختباء في الخنادق هو أكثر الوسائل أمانا الآن .. العدو يرد بوحشية . يقصف العمائر ويدمر المباني 0 لاشك أنهم يقصدوننا.. يجب ألا يبقى أثر يشي بنا وبأننا نحن الذين دمرنا الدبابة ! .. أهكذا صار الحال ؟. نحن الأبطال نخفي آثار بطولتنا ؟! يجب أن نحتاط لأنفسنا؛ فنحن على مقربة من العدو ويمكنه أن يعرف مكاننا ويقضي علينا. ترى هل أخطأنا لأننا تعاملنا مع الهدف دون أوامر ؟ وقائد السرية لم يتصل بنا منذ اصطحب خميس وغادر المكان ؟ أيكون قد استشهد ، قائد السرية ؟ وعلى فرض فأين الذي حل محله ؟ مر النهار كئيبا .. وعند آخر ضوء زلزلت الأرض من فوقنا ومن أسفل منا ونحن في الخندق الذي كنا قد أكملنا إعداده أثناء النهار وفتحنا فيه ثغرات لنتمكن من التسلل إلى مكان آمن إذا ما حدث وهوجمنا ونحن قلة قليلة ؛ فعندما تكون الشجاعة وبالا فلا بأس من تأجيلها إلى حين .. وها هو القصف يشتد وجدران المبنى تنهار.. المبنى الذي أطلقنا الصواريخ من فوق سطحه في الساعات الأولى من النهار صار مع المساء ركاما 0
- هيا نتعامل معهم بالبندقية أو بالسلاح الأبيض !..
- الأفضل أن ننتظر لننضم إلى قوات أخرى نشد بها أزرنا ...
تناهى إلى الأسماع صوت حركة في أول المخبأ 0
قبضت الأيدي على الزناد .. سمعوا كلمة السر فتباطأوا ..
- أنا الرقيب إسماعيل قائد سريتكم !!
- تأخرت علينا طويلا يا أفندم 00 صار الموقع رمادا كما ترى ! 0
- لا بأس ما دمتم بخير.0يجب أن نغادر دون أن يحس بنا أحد ...
- لكن العدو في الخارج يا أفندم ...
- لا عليك فأنا أعرف طريقي جيدا .. لا بأس يا رجال .. سنسترد كل شيء بإذن الله ....
حملنا معنا ما استطعنا حمله وتحركنا مغادرين ، والدموع تفر من العيون 00 وما أن ابتعدنا عن الموقع حتى صرختُ في قائد السرية :
- ما معنى هذا وما الذي يحدث ؟!
- لا ترفع صوتك يا جندي !00
- بل أرفعه وأفعل ما يغضبك إذا لم تقل لي ماذا يحدث ...
- في إمكاني أن أحاكمك على ذلك 00
- أنا لا أخاف الموت فما بالك بالمحاكمة .. أنا .. كان لي شرف تدمير دبابات هناك وهنا .. فكيف أتراجع هكذا تحت جنح الظلام ؟! قل لي يا حضرة الرقيب : أنحن خراف نساق دون أن نعرف إلى أين ؟ ولماذا تركتمونا طيلة هذه المدة ؟ ولماذا تأخر العتاد ؟ كان يجب أن نجهز عليهم قبل أن يتمالكوا أنفسهم ويقصفونا 0
تمالك الرقيب أعصابه وقال لمجاهد : رغم تقديري لوطنيتك إلا أنني ألومك على فقدك لأعصابك 00 الحرب صعبة ومعقدة 00 ليست الأسلحة رمالا في الصحراء نأخذ منها متى نشاء 00 عدونا يأخذ من أمريكا وبإرشادات أقمارها الصناعية ،إذا فقد دبابة أعطته دبابتين وإذا فقد طائرة جهزوه بأحسن منها .. أما نحن فالأمر مختلف 0 ثق في قادتك والزم حدودك 0
- أنا آسف يا أفندم ...
ربت الرقيب إسماعيل على كتف مجاهد وقال : أنا معجب برجولتك .. كم دبابة دمرت .. ؟
- منذ بدء الحرب ؟ أكثر من ثـــلاث ...
كانت إحدى العربات في انتظارهم فاستقلوها وانضموا إلى كتيبة مشاة ميكانيكية كانت قد ألحقت بالمنطقة للتصدي للعدو الذي يحاول اقتحام المكان ونثر قواته هنا وهناك في أماكن متباعدة متفرقة ...
وكان اليوم التالي مشتعلا ؛ كتيبة المشاة الميكانيكية تتعامل مع العدو وترسل نيرانها بكثافة . مسح مجاهد عينيه ليجفف دمعة انزلقت على خده وهو يقول لرفاقه :كان هذا مبنى ، ومن فوق سطحه أطلقت صواريخي ودمرت دبابة0 في صدري آمال وفي رأسي دوامة..
قال الرقيب إسماعيل وهو مهموم :الحال غير مطمئنة .. تعرض اللواء 25 مدرع وهو في طريقه إلى الشمال 00 في شرق البحيرات إلى قصف جوي شديد وتكبد خسائر كبيرة فاضطر للتوقف ،كان متجها إلى الشمال ليسد الثغرة التي فتحها العدو ...
- لم أعد أفهم شيئا ...
- كانت هناك خطة تقضي بأن تفوم الفرقة 21 مدرعة بدفع أحد ألويتها باتجاه الجنوب .. هذا من الجيش الثاني .. أما الجيش الثالث فيدفع اللواء 25 مدرع في اتجاه الشمال وفي نفس الوقت يقوم لواء من الفرقة 23 ميكانيكية بمهاجمة قوة العدو التي عبرت إلى الضفة الغربية ...
- واستطاع العدو عرقلة اللواء 25 مدرع ؟!
- للأسف .. وأصابه إصابات شديدة .. أصبح للعدو كتيبتان من المظلات محملة على عربات مجنزرة في الدفرسوار غرب القناة .. قوات العدو المدرعة تتقدم غربا وجنوبا في اتجاه فايد والطائرات الاسرائيلية لها السيادة في المنطقة ..
- إذن فموقفنا سئ يا أفندم ...
- لا 0 بالعكس . قواتنا تحتل الشاطئ الشرقي للقناة على إمتداد 200 ك0م 0 وبعمق يصل إلى 17 كم 0 عدا ثغرة الدفرسوار
- وما الموقف بالضبط بالقرب منا ؟
- العدو يحاول قطع الطريق المؤدية إلى السويس لكنه يلقى مقاومة عنيفة 0 الفرقة الرابعة المدرعة تقوم بدور عظيم
- أهي تحت قيادة الجيش الثاني ؟
- بل تحت إمرة القيادة العامة
- كم الساعة الآن.. آه ... لم يتبق على وقف إطلاق النار سوى خمس دقائق 00 قال مدحت :
- الخمس دقائق عمر طويل أيها الأحباب ...
ولم يكد يتم الجملة حتى هوت قذيفة 0 لم يتمالك مجاهد نفسه أن صرخ،وبكى وعلا نحيبه : في أول يوم فقدنا عبد القوي وفي آخر يوم فقدنا مدحت0
كاد يفقد صوابه .. تجمع الجنود حوله يربتون على وجهه ليفيق ..
- هذا هو الثمن يا مجاهد .. الأرض غالية والثمن غال ...
- وحياة الإنسان ؟ أليست غالية ؟
- أنسيت ؟ إن الشهداء أحياءٌعند ربهم يرزقون 0 استغفر ربك..
تم إخلاء جثمان الشهيد في أول دقيقة من وقف إطلاق النار ...
هل انتهت الحرب ؟!
الروح التي عادت
كادت الكآبة تسيطر على عبد المنصف وتعصف بمعنوياته التي تتقاذفها الرياح .. وكان يمكن أن تسير الأمور سيرا طبيعيا لو لم يخضع للفكرة الشائكة تلك 0 لقد تمنى في وقت من الأوقات أمنية لن يسامح نفسه عليها !! يقول لنفسه ليجد مهربا :
- كانت الأمور ستسير كما تسير الآن لو لم أفكر فيما فكرت فيه .. إن أفكاري لم تغير شيئا في الكون !
لكنه لم يفلح في استئناس التأنيب !! سافر لزيارة حسن الواعظ ، ابتهج الرجل لرؤيته سعيدا كل السعادة بالانتصارات التي أحرزتها قواتنا المسلحة ،يتابع كل الإذاعات ، يحكي لعبد المنصف أخبارا سمعها دون شك هذا الشاب الذي يهوى الإصغاء لهذه الإذاعات أصلا 00
- هل يعيب الانسان أن يسمع ما يقوله العدو ؟!
- هذا يتوقف على المستمع ومدى تأثره بما يسمع ..
إذاعتنا تعطينا الحقائق ولا تبخل علينا بها ، لكني لم أتعود أن أكون أحادي النظر.. أحب أن أعرف الخبر من جميع جوانبه وأستخلص لنفسي الرأي الآخر ..
- في عينيك شيء من الحزن .. مال.. كفى الله الشر ! ..
بحث لشفتيه عن ابتسامة فلم يجد . ! ألح عليه أن يخبره عله يستطيع مساعدته فقال الشاب : لن تستطيع مساعدتي !!
- إذن فأنت لست واثقا في إمكاناتي !! ... ربما أستطيع أن أرشدك أو أوجهك إلى من يرشدك.. يا ابن أخي .. ما كل هذه الزفرات ؟! أليس الأولى بك أن تسعد للانتصارات التي يسعدنا الله بها ؟ أنا شخصيا في منتهى الانشكاح! وأصارحك .. لقد فكرت في العودة للتربية والتعليم بعد انقطاعي الذي تعرف سببه ... سأعمل في أي موقع .. هنا أو في المديرية
- شيء جميل حقا أن تعود الروح إلينا بعد الحرب ! لكن ...
- أيرضيك أن أكون هنا وهم يقاتلون هناك ؟!
- إن لك دورك هنا أيضا 00 فالجبهة الداخلية لها أهميتها ..
- الموقف يتطلب اليد التي تقصف .. والأصبع التي تضغط على الزناد .. المسألة أخطر كثيرا من الكلمات والمجاملات 00
عادت سلوى من السوق .. أحس بها جدها وهي تفتح الباب الخارجي
- سلوى ! تعالي سلمي على أستاذك ..
وضعت ما معها من أكياس ونقرت أصابعها على باب الحجرة قبل أن يلوح وجهها الصبوح وابتسامتها
- لماذا تتأخر علينا هكذا ؟ نريد أن نراك دائما ...
سألها جدها ماذا أحضرت من السوق
- كل ما تريد يا جدي ...
- عبد المنصف سيتناول الإفطار معنا اليوم .. إنه لم يفطر معنا في أي يوم من أيام رمضان حتى الآن ...
حاول الشاب أن يعتذر لكن الرجل أصر. الحقيقة أنه كان يتوقع ذلك ولقد قال لوالدته في الصباح :
- ربما أتناول الإفطار عند عمي حسن 0 يمكنك أن تستبقي أحدا من أبناء أختي ليحل محلي إذا أنا تأخرت فأنا أعرف أنك لا تتناولين الطعام منفردة . خصوصا في رمضان
قال حسن الواعظ لحفيدته إن عبد المنصف حزين لأنه لا يشارك في الحرب الدائرة
- وهل يحب منظر الدماء والقتلى والجرحى والدمار ؟!
- لا أحب العنف يا سلوى ولا الدمار ، لكني أحترم الرجولة وأقدس الكرامة0 نحن نحارب لاسترداد كرامتنا ؛ فهل أجلس كالعجائز وأنتظر من أخوتي أن يعيدوا إلي كرامتي ؟!
- أنا شخصيا لا أستطيع رؤية ذبح دجاجة .. جدي هو الذي يذبحها وحده .
في بلدنا رجل يدعى حسن بليح .. ذهب إلى السويس متطوعا لمساعدة الجنود في نقل الذخيرة 00 لم يكتف بأن يتبرع بدمه هنا 00 بل ذهب إلى هناك ليشارك 00 عاد أمس ليرى أولاده ثم يذهب مرة أخرى إلى خط النار .. وهو يحكي عن شراسة العدو في قصف المدينة الصامد..0أجاركم الله !! .. أفكر يا عمي أن أذهب معه 0!
وضعت سلوى الملعقة التي كانت في الطريق إلى فمها وشهقت : لا .. لا تذهب إلى الدمار 00 بك سننتصر وبدونك أيضا ؛ فلماذا تلقي بنفسك في الدمار..؟
تركت المائدة وقامت وغسلت يديها ، لم تكن قد شبعت لكن عواطفها خانتها 00أحس عبد المنصف في هذه اللحظة أن هذه الفتاة تتحول إلى موجة منسكبة ، وأنه يأخذ منها براحتيه ويغسل أدرانه كلها .. تطلع إلى وجهها مليا .. لابد أن يحمل معه هذا الوجه إلى السويس ...
في المساء زار حسن بليح في بيته .. دخلت امرأته تحمل صينية عليها أطباق الكنافة والقطايف 0
- هل يرضيك يا أستاذ أن يذهب أبو أحمد إلى السويس ويتركنا ؟
- أحقا تنوي العودة إلى السوي ؟! لقد جئتك لأسألك عن الطريق !
الصــحبة الصـــحبة !! 00
قالت أم أحمد : ماذا جرى في الدنيا ؟.. اذهبوا جميعا واتركونا !!
- أتنوي الذهاب حقا يا أستاذ عبد المنصف ؟
- بكل تأكيد ، أشعر بإبر تملأ جلدي كله تدفعني للحركة إلى هناك 0
- ووالدتـــك ؟
- قلت لها : قد أسافر في رحلة إلى مرسى مطروح .. قالت لي : هل هناك رحلات والحرب قائمة ؟ قلت لها : مرسى مطروح بعيدة جدا وأمان ، قل لي يا : أتعرف العريف صبري الشيمي ؟
- كنت عنده في السويس وهو يعمل في شرطة السكةالحديد هناك
- على بركة الله .. متى سنذهب ؟
- هل قررت الذهاب معي فعلا ؟! إذن عليك أن تكون مستعداًببطانية وبلوفر ثقيل تلبسه ليلا ،و شيء من الطعام وبعض الخبز.. أو بكاكين بالعجوة .. برطمان عسل نحل مثلا .. عسل أسود .. جبن قديم .. حلاوة طحينية ... ربما لا يكون الطعام هناك متوافرا 0
عبد المنصف يستمع إلى أنباء المعارك من نشرات الأخبار العالمية التي تذاع بالإنجليزية ففيها تعليقات أكثر وأوفر 0
لقاءات مع شخصيات إسرائيلية ومعلقين عالمين يتحدثون عن المعارك وعن سير الحرب .. يبدو أن الجميع مجمعون على أن المفاجأة كانت مذهلة !! والعبور المصري معجزة عظيمة .. انتفض المارد وضرب ضربته.. لم تبدأ إسرائيل بالضرب هذه المرة ولكنها تلقت الصفعة القوية المزلزلة وهي تحاول أن تعود إلى رشدها وتتماسك 00 عبد المنصف يتابع أيضا ما يعرضه التلفزيون المصري من لقطات .. كم كان سعيدا عندما رأى طابور الأسرى منكسي الرؤوس .. لماذا لا يفرح وهو يسمع : أنا العقيد عساف ياجوري قائد اللواء 190 الإسرائيلي المدرع0
- ما المهمة التي كنت مكلفا بها ؟
- كنت مكلفا بمهمة اختراق رأس الجسر المصري في القطاع الأوسط للوصول إلى القناة ،و إقامة رأس جسر على الشاطئ الشرقي في مواجهة مدينة الإسماعيلية 00
- هل لك أمنية ، أو طلب شخصي تود أن تنقله للمسئولين ؟
- لا أطلب سوى أن أعامل معاملة حسنة !!
- اطمئن.. فإن لنا قيما تمنعنا من إساءة معاملة الأسرى . ما أغرب ما صادفك في هذه الحرب ؟
- لو كان الخبراء السوفيت ما زالوا في مصر لقلنا إنهم الذين خططوا .. ولكن والحال هذه فإن القيادة المصرية أثبتت كفاءة عالية في التخطيط .
- وفي التنفيذ .. ما تعليقك ؟
- ما يقوم به جنود المشاة المصريون لا أكاد أصدقه ! إنهم يواجهون الدبابات بضراوة . الجندي المصري تغير كثيرا ...
سلاح الجو
الرابع عشر من أكتوبر يتنفس صبحه على أضخم هجوم شامل للقوات المصرية التي تقوم بتحرير مساحات شاسعة من الأرض ، الدبابات الإسرائيلية يتحطم منها أكثر من مائتين ومن العربات المدرعة أعداد لا حصر لها تلتهمها النيران .. العدو يتشبث بمواقعه والمدرعات لا تصمد للهجوم المصري فتقوم الطائرات بإنقاذ الموقف باستخدام الصواريخ القادمة توا من قواعد أمريكية لضرب مدرعاتنا 00 تم إسقاط تسع وعشرين طائرة إسرائيلية في اليوم الرابع عشر بواسطة الدفاع الجوي المصري 00 قام طيراننا بقصف مواقع الصواريخ المضادة للدبابات لكي يسهل عملية تقدم مدرعاتنا .. في اليوم نفسه قامت معارك جوية بين الطائرات في سماء الدلتا وتم إسقاط خمسة عشرة طائرة معادية ..
أما المطار القريب من قريتنا فقد هوجم مرتين ..
المرة الأولى صباح اليوم الثاني من أيام الحرب حيث وصلت طائرتان معاديتان من جهة الشرق في اتجاهه 0 اجتازتا ولم تطلقا عليه طلقة واحدة لكن إحداهما قامت بإلقاء قنبلة على الطريق الرئيسي خارج المطار فقطعتاه لمدة نصف ساعة وحتى خلال هذه النصف ساعة كانت العربات تمر من جانب الطريق دون أي تعطيل ..
أثناء عودة الطائرتين ألقيت قنبلة على أحد الممرات في المطار واستشهد اثنان من الجنود تمكنت سرية المهندسين بقيادة المقدم شبل فرج والنقيب الغمري من إصلاح الممر خلال أقل من ساعتين .
لم تتمكن قوات دفاعنا الجوي من إسقاط أي من الطائرتين المعاديتين ..
ويحكي وحيد محمد عبد الجواد ما حدث في المرة الثانية يوم 14/10 في الساعة الواحدة ظهرا وبعد عودة طائراتنا من مهمة شرق القناة .. انحرفت إحدى الطائرات عن الممر ودخلت في الهيش .. تم إحضار الونش لكي يعيدها إلى مكانها 00 ويعمل على هذا الونش رجل ضخم نطلق عليه الرقيب سعد الونش 0 قام بربط الطائرة بالواير لرفعها وإعادتها إلى الممر 00
تجمع بعض الجنود لمشاهدة هذا المنظر العجيب وذلك لسوء حظهم !!..
فما كان لهم أن يتركوا اماكنهم حتى ولو كانوا مطمئنين تماما 00 دخل الرقيب سعد الونش إلى الكابينة وفجأة دوى صوت الطائرات المعادية التي تطلق قذائف البرسات على هؤلاء الأشخاص الذين استشهد منهم قرابة العشرين .. أما سعد الونش فقفز من مكانه بالكابينة واحتمى تحت الونش الذي وقع ذراعه على الكابينة وحطمها ..
أثناء ارتفاع الطائرتين إلى أعلى اشتبكت معهما المدفعية المضادة للطائرات بقيادة المقدم أسامة مشالي .. وقامت بإصابة الطائرتين المعاديتين حيث سقطت إحداهما عند قرية الصافية والأخرى عند كفر عثمان ولم يعثر للطيارين على أثر .
وكانت قنبلة قد سقطت على منزل الحاج عبد الحميد الصفطاوي في عزبة حلوسة وفقد الرجل في هذه الكارثة امرأته نورة وبيته وبقرته .. وكذلك قنبلة أخرى في عزبة الشركة ماتت بسبها امرأة أخرى .. والعجيب أن إذاعة إسرائيل باللغة العربية قالت إن جميع الطائرات عادت سالمة !! كيف هذا وأنقاض الطائرتين تحمل على العربات أمام عيوننا ؟! وقد احتفظ وحيد بقطعة من هيكل إحدى هاتين الطائرتين كتذكار .
في مساء ذلك اليوم أعلن راديو إسرائيل في نشرته الإنجليزية خبرا صفق له عبد المنصف طربا 00 لقى الجنرال ابراهام مندلر القائد العام للقوات المدرعة الإسرائيلية مصرعه في حرب الدبابات الرهيبة التي جرت اليوم في سيناء .. وفي صلاة العشاء في المسجد البحري أذاع عبد المنصف الخبر على المصلين فقال له أحدهم : لقد قطعت إذاعتنا برامجها وأذاعت ذلك ..
علم عبد المنصف فيما بعد أن استخباراتنا قد تمكنت من تحديد موقع اجتماع مندلر مع أحد قادته وقامت إحدى مقاتلاتنا بضرب الموقع وتدميره في الزمان المحدد ..
ممدوح عامر
أقف قليلا لأتحدث عن تقدم قواتنا في هذا اليوم الرابع عشر من أكتوبر .. وليس أمامي من أحد من بلدنا سوى ممدوح محمد عامر زميل عبد المنصف في قسم التاريخ لأتابعه وألقي الضوء من خلاله على ما حوله ومن معه حيث يحكي :
سرية 16استطلاع الفرقة الرابعة المدرعة الجيش الثالث 00 هذه الفرقة هي الإحتياطي الاستراتيجي للجيش ومقرها من السويس حتى القاهرة 0 بها اللواء الثاني مدرع واللواء الثالث مدرع ، و سريتنا { س 16 } تتبع اللواء الثالث 00
في أواخر سبتمبر 73 بدأت تفد جموع المسرحين الذين تركوا السرية منذ أقل من شهر .. جاءوا مهمومين يسخرون من مجيئهم السريع بعد أن ظلوا بهذه السرية أكثر من ثماني سنوات !!
وأذكر في سبتمبر الماضي 72 انضممت إلى تلك السرية ومعي اثنان آخران ... كان أعضاؤها ينظرون إلينا نظرات غريبة ويقولون :
- منذ سبعة أعوام ونحن هنا .. ترى بعد سبعة أعوام أخرى كيف سيكون الحال ؟!
أيديكم ما تزال ناعمة! أنتم أبناء الريف الجميل أما نحن فقد أكلنا الرمال وأكلتنا الرمال ..
كانوا قد أقاموا الملاجئ وبنوا حجرات فوق سطح الأرض كأنهم سيقيمون فيها إلى آخر العمر 00
مر عام وصرنا أصدقاء رغم أقدميتهم 00 وبكينا ونحن نودعهم منذ شهر لكنهم عادوا مرة أخروا ظنوا أن حياة الجندية انتهت ولكنهم مربوطون بسلك متين 00 عندما يريدونهم يجذبون السلك !
- أحمق من يظن أننا سوف ننهي خدمتنا قبل أن نحارب ...
كانت أعمارهم تتراوح بين الخامسة والعشرين والخامسة والثلاثين.. أشكالهم لن تغيب عن مخيلة عامر وإن مرت السنوات بلا عدد .. محمد حشيش من المحلة الكبرى ، عبد العزيز من الفيوم ، حواش عبد الرحمن سائق العربة اليونيماك الذي لا يجيد القراءة والكتابة ولكنه يجيد السياقة وله مغامرات جريئة في سرعة الالتفاف وتخطى العقبات ، سالم شعراوي الرقيب من دمياط سويفي أحمد العريف الواثق من نفسه والخبير في الأسلحة ، سليمان جميل الرقيب الواثق من نفسه :
- أنا الوحش .. أنا البطل .. وأتحدى !! ألعب كراتيه ألعب مصارعة وأتحدى .. حتى قائد السرية النقيب أحمد عبد المجيد أتحداه !!
سمع النقيب أحمد بذلك فاستدعاه
- بلغني أنك تتحداني !! من قال لك أننا سنلاعب اليهود كراتيه ..
- قوة التحمل مطلوبه يا أفندم .. إن لم يكن لدى سيادتك مانع أتحداك
- بالعكس 00 أنا أرحب بذلك .. اجمع السرية !!
أمام أنظار الرجال الأشداء الملتفين حول المتصارعين استطاع الرقيب سليمان أن يوقع النقيب أحمد على الأرض فهلل الجميع وصفقوا فغلى الدم في عروق النقيب ولوى ذراع سليمان وأسقطه على الأرض فازداد التهليل لكن الرقيب استطاع أن يلف ذراعه الأخرى حول رقبة النقيب أحمد ويميل به إلى الأرض ويسقط فوقه كالوحش.. ومع ذلك لم يستسلم أحد منهما بل ظلا يتبادلان المواقع هذا فوق وذلك تحت والتراب يغطيهما .
وهناك سامي الذي كان يأمل في الخروج من الخدمة ويحاول محاولات فاشلة ويتغيب كثيرا 00 هناك حسين عبد القادر الرقيب المتطوع الذي قضى فترة طويلة في تدريب الفدائيين الفلسطينيين في القاهرة ...
ووهبة مليجي ، و شكري أبو حشيش وهما زميلاي اللذان أتيت معهما قبل عام وانضممنا إلى هذه السرية العريقة .. أما قائد السرية فهو النقيب وجيه صلاح الدين الدخاخني ...
تبدأ الأحداث عندما كنت مع أربعة من الزملاء في نقطة ملاحظة تابعة للسرية في حراسة قائد اللواء 0 استدعانا قائد السرية وتوجهنا إلى مقر السرية في الجفرة وهي على مسافة ستين كيلو مترا غرب السويس00 وعندما وصلنا هناك وجدنا المكان يموج بالمدرعات والعربات والتشكيلات 0 الكل في حركة 00 توجهت بقلبي إلى الله بالدعاء : رعاك الله يا جيش مصر !0 كل شيئ يدل على أننا سنتحرك حالا وأخبرني قائد السرية أنني من ضمن أفراد الطاقم الذي يتولى قيادته في العربة البردم حيث كنت راميا بها . أما سائق هذه العربة فهو يسري غريب من الأنفوشي بالاسكندرية . لا أنسى الرقيب متطوع محي العضل الذي كنت أراه بطلا 00 كان بالعربة رامي بردم وسائق ورامي آر بي جى 2 ، و هي عربة برمائية بعجلات وليست مجنزرة وبها مدفعان : أحدهما خاص بالطائرات والآخر بالأفراد .. أما عن رامي الآر بي جى 2 فينزل من العربة عندما يرى دبابة معادية أمامه .
وكانت الساعة تشير إلى الثانية عندما انقلبت الكرة الأرضية أو هكذا ظننت للوهلة الأولى لشدة ما سمعناه أثناء انطلاق أمواج الطائرات المصرية نحو الشرق 0 تمر الدقائق ونحن ننتظر عودة الطائرات 0 إذا عادت الطائرات بكثافتها التي انطلقت بها فمعنى ذلك أننا حققنا شيئا عظيما ..
بالفعل 00 عادت الطائرات فابتهجنا بهجة عظيمة ..
بدأنا التحرك إلى النقطة البديلة وهي تقرب من السويس حوالي 40ك 0م مكثنا في هذه النقطة حوالي عشرة أيام 00 بالتحديد في يوم 14/10 جاء أمر بتقديم اللواء الثالث بقيادة العقيد نور الدين عبد العزيز فتقدمنا باتجاه القناة التي وصلناها في الساعات الأولى من صباح 15/10
ونظرت إلى المعابر التي كان إنشاؤها لا يتوقف قلت لنفسي :
- جاء اليوم الذي نعبر فيه إلى الشمس ! ..
عبرت سريتنا في مقدمة اللواء مدرع وكان الكوبري الذي سنعبر عليه مائلا إلى أعلى أو هكذا خيل إلى ، كان يقف بعض الضباط يلقون نصائحهم إلى السائقين : كيف يسوقون ويصعدون إلى هذا الجسر ، و كان السائق يردد بصوت جهوري :
- حاضر يا أفندم .. علم يا أفندم .. قبل أن يكمل الضابط حديثه فلما سألته عن ذلك فيما بعد قال لي :
- إن كثرة التدريبات تجعلني أعبر القناة وأنا مغمض العينين ..
تم عبورنا ونحن نهتف : الله أكبر .. وجنود المشاة الذين سبقونا عشرة أيام يحيطون بنا .. اللواء بدباباته داخل سيناء .. منظر مبه.. يستقبلوننا ويصافحوننا بحرارة .. ترجل الكثير من الجنود وغادروا المركبات لدقائق يقبلون الأرض ثم يعودون مسرعين إلى أماكنهم ..
في عربتنا وقف السائق يسري وفتح المنفذ الذي يعلوه أطل منه وعاد استقر مكانه وكلنا خرجنا فوق العربة نهلل ونحى المشاة في جو يفوق الأعياد في انطلاقة الروح الطفولية لدى اصطياد اللحظات البريئة .. كانت الأرض غير متماسكة ولذلك كثر الغبار كنت أعجب كيف يستطيع يسري وغيره من السائقين العمل في مثل هذا المناخ الغريب0 تقدم الموكب وتجمع في نقطة بعد القناة مع جنود المشاة الذين كانوا في الخمسة كيلوا مترات المحاذية للقناة .. قضينا نهارا كاملا وليلا كاملا استعدادا للصباح وما سيجري فيه .. كان اتجاهنا نحو ممر متلا الذي يبعد حوالي ثلاثين كيلو مترا عن القناة ..
جاء الصباح .. تقدم اللواء الثالث المدرع في وضح النهار.. ظللنا متقدمين دون أن نرى جنديا إسرائيليا واحدا حتى وصلنا إلى قرب الممر قبل الظهر .. كنا قد ابتعدنا عن مجال دفاعنا الجوي وبدأت تنهال علينا الصواريخ .. ليست أمامنا دبابات لنهاجمها ولكن الطائرات كانت تطلق الصواريخ على مدرعاتنا من مسافة بعيدة 00
وما بين الحين والحين نتوقف وننتشر ثم نعود ثانية ..
جاءت طائراتنا لتتصدى تقدمنا وليس بيننا وبين ممر متلا سوى مسافة بسيطة تبادلنا القصف الشديد وعلى مقربة نصف كيلو متر من الممر حصرنا قواتنا لنعرف عددنا بالضبط 00 وإذا بقائد اللواء بروحه الطاهرة مع الشهداء .. أما جسده فمتفحم في الدبابة ..
كنا ننظر لهذا الرجل وكأنه من جيل الصحابة أو من القادة الإسلاميين الأوائل 00 لم يكن من الذين يرهبون الأهوال بل كان يقتحمها وفي أيام انتظارنا للعبور كان متوترا جدا لأنه لم يعبر .. كان يتمنى أن يكون أول الفاتحين أو أول الشهداء .. لهذا كانت دبابته في المقدمة دائما 00
بكيـــته كثــــيرا ... لا يمكــن أن أنســـاه أبدا ...
كنت قد تقدمت إليه بطلب للحصول على إجازة لمدة شهر لدخول امتحان الدراسات العليا في شهر يوليو 73 وذلك عن طريق قائد السرية وقد طلبني بالتليفون وأخبرني أنه صدق على إعطائي هذا الشهر لأنه لا يستطيع أن يقف في طريق العلم .. وشجعني ..
بكيته كثيرا وترحمت عليه أكثر ..
مشكلة مع صاحب الأرض
نام عبد المنصف في تلك الليلة بعد أن استعرض شريط حياته استعراضا كاملا .. توقف عند خطبته لسلوى، وقال للسقف : لقد تسرعتُ !
إذا كنتُ قد تباطأتُ في يوم من الأيام مع زينات حتى حدثت الفجوة بيننا بسبب تقاعسي عن زيارتها في المستشفى وهي في حاجة لتلك الزيارة .. فإنني قد تسرعت مع سلوى حين ارتبطت بها .. ها هي تنجح وتدخل كلية الحقوق أسبوعين قبل الحرب وتعود إلى البندر، وأذهب إليها ونقضي أوقاتا طيبة معا لكن شيئا في داخلي يتذمر أحيانا أو يتردد أو ينكص على العقبين !! لم أعد أفهم نفسي 00 قطعا لم أعد أفكر - ظاهريا - في زينات ، ولكنها - باطنيا - تتحكم في أعماقي ، وعندما قلت لها : لقد نويتُ أرتبط ، ولم تحزنها المفاجأة ، لمت نفسي لأنني أخبرتها 0 صرت ألوم نفسي كثيراً هذه الأيام.
- من سعيدة الحظ ؟
- لا تعرفينها 00
- لابد أن تكون أكمل وأجمل فتاة كي تستحقك !!
دخلتُ قوقعة الصمت حتى لا أقول لها إنها تذبحني !! لملمتُ جراحي ووجهت سفينتي إلى المرسى الجديد ، ويوما بعد يوم تتفتح الزهرة ا
أمامي ، أراعيها وأواليها بالري والدفء حتى يملأ عطرُها حياتي فهل أتهم نفسي بالتسرع ؟ قلت لها : عندي قطعة أرض مساحتها مائتان وخمسون مترا مربعا في قريتنا سنبني عليها عش المستقبل .. وحدثت مشكلة بيني وبين البائع ؟ إذ كنت قد أعطيته مائة جنيه مقدماً، وأعطيته بالفعل بضعة شهور ولكني توقفت عندما دفعت خلو رجل لصاحب الشقة التي استأجرتها قرب المدرسة 0 بعد ثلاثة أشهر ذهبت إلى محمود شاكر الذي اشتريت منه الأرض لأعطيه خمسة وأربعين جنيها دفعة واحدة فقال لي : ليس لك عندي أرض ! ؛ لأنك لم تحترم الاتفاق 0 لقد توقفت عن الدفع ثلاثة أشهر كاملة .
- وهذه هي ال45 جنيها المتراكمة عليّ 0
- لا 0 ليس لك عندي أرض 00 سأرد لك فلوسك ..
- أهذا معقول ؟ أنت رجل عسكري ..
- ولهذا أحترم الكلمة وأحترم الاتفاق !!
- قل إنك طمعت في الأرض ، أو عرض عليك أحدهم مبلغا أكبر .. ألا يريدها خالك البشراوي ؟! الذي يقول : لو أستطيع شراء البلد كلها ما ترددت لحظة واحدة ويقول : لماذا لا نتصالح مع اسرائيل ونحل مشاكلنا وديا فذلك أفضل ؟! لقد فكرت ذات مرة أن أطلب من المسئولين أن يحضروا لي " أتر " جولدا مائير 00 شرابها أو منديلها أو إيشاربها لأعمل لها عملا يجعلها تأتي إلى هنا راكعة على ركبتيها وتقول : سماح يا أسيادنا 00 تعالوا خذوا أرضكم !!
يومها قاطعه محمود شاكر ليوقظه:
خالي !! دع عنك أحلام اليقظة هذه وقل لي حتى متى ستظل تمارس عملك الممقوت هذا ؟
- حتى يعود ابني بالسلامة .. أخشى أن أتوقف الآن فيصيبه ضرر!
- إنك تصر على الهزل إذن .. ولكني أعود بك إلى الجد .. يا خال .. أما يكفيك الذي أنت فيه من عز ؟ إننا الآن نتدرب تدريبا رهيبا لننتصر فاترك هذه الضلالات 00 لماذا لا تتبرع للمجهود الحربي يا خال؟ إن أم كلثوم تطوف الدول العربية من شرقيها لغربيها من أجل المجهود الحربي.
الحقيقة أن محمود شاكر لم يكن يريد أن يعطى الأرض لخاله لأن أم محمود قالت له قبل أن تلقى ربها :
- هذه الأرض محرمة على خالك !.
عندما باعها لعبد المنصف كان في أمس الحاجة إلى المال .. وعندما تحسنت الحال رأى أن يستعيدها ما دام المشتري قد أخل بأحد الشروط. قال حسن بليح :
- سأدلك على من يستطيع السيطرة على هذا الشخص 00 هناك من يستطيع أن يأمره فيمتثل ؛ لأن له عليه أفضالا كثيرة : عبد الستار حجازي ولا أحد غيره !
وقابلوه عندما جاء في إجازة ، وعرض عليه الموضوع كأنما يأمره قال لمحمود : خذ الفلوس واترك له الأرض! فامتثل دون نقاش . لكن ماذا فعل محمود شاكر على الجبهة ؟ سنرى!
محمود شاكر
رقيب متطوع : الجيش الثاني الميداني .. اللواء الرابع مشاة ميكانيكي ، كتيبة 213 دبابات ..
مدفعجي دبابة على مدفع 150مم لتحطيم الدشم الكبيرة والقواعد الحصينة للعدو :
عبرنا القناة من جوار كوبري الفردان الذي دمرته اسرائيل في 67 .. عبرنا على الكباري التي أقامها سلاح المهندسين وقد حاول الطيران المعادي عرقلة مرور الدبابات ولكن صواريخ سام 7 قامت باصطياده وتمكن سلاح المهندسين من إصلاح العطب في الجسر وبالفعل عبرنا حوالي الساعة الثانية بعد منتصف الليل 0 وصلنا في ظلام الليل الداكن وعلى الفور قمت بالتنبيه على المعمر برفع الغطاء من على جهاز الرؤية الليلي لكشف العدو في الظلمة الداكنة 0 كانت دبابتي 52أ .. وقمت فعلا بالتعامل مع العدو .. وكان قائد الكتيبة هو العقيد شفيق متري سيدراك { من قرية أبو حنا } من السهل ضرب الدبابات الإسرائيلية لأنها دبابات محجمة 00 أما دباباتنا فهي مثل خوذة الجندي لا تؤثر فيها الطلقات إلا إذا ضربت بصاروخ SS ذلك الذي يتتبع اللهب.. تقدمنا وكسبنا أرضا في القطاع الأوسط وكانت دبابات العدو تتحاشانا وتفر من أمامنا وذلك من شدة وعنف الضربات التي كنا نسددها عليهم .. كنا قبيل بدء العمليات قد صرفنا بطانية مليئة عن آخرها بالتعيين القتالي لكل طاقم دبابة 00 وخلال الحرب كنا نتحين أي فرصة لتناول علبة من التعيين القتالي لنواصل القتال 00 لا شاي ولا تسخين أكل 00 ليتني فقط أجد فرصة لأفتح علبة وآكل ثم أستأنف العمل 00 كنا ممتلئين بالفرحة لأن العبور له طعم والنصر له حلاوة لا مثيل لها 00 عيني على جهاز التليسكوب لمشاهدة دبابات العدو والتعامل معها في أية لحظة .. إلى أن جاء اليوم الخامس للقتال .. كانت الدبابات قريبة من بعضها كأنها أفيال تتصارع بخراطيمها ! ..
مرت بعض دباباتهم على بعض الحفر التي بها جنود المشاة فغلى الدم في عروقنا وصرنا نضربهم بعنف .
وفي معركة جوية سقط طيار إسرائيلي أمام دباباتنا وكم كنت أتمنى أن تستحقه الدبابة ولكن تم أسره وتسليمه إلى العقيد سدراك حدث انفجار رهيب في دبابتنا إذ أصيبت بصاروخ SS حاولت إنقاذ الحكمدار الملازم أول أمين الأعرج ولكني لم أستطع لأن النار كانت قد أكلت ملابسي فخلعتها وامتلأ جلد يدي بالفقاقيع المؤلمة ... خلعت الهلمد الذي أضعه على رأسي فتسببت حديدة الربط بحرق رقبتي من شدة سخونتها ..
أصبحت عاري الجسد .. حتى الحذاء خلعته خشية أن يشتعل المطاط ويلتصق بجسدي وكانت الطلقات الكثيرة الموجودة في التقفيصة تتفجر داخل الدبابة 0.. وكان هذا أصعب من ضرب الدبابة من الخارج .. كانت في حالة اشتعال .. كان بها علبة تشحيم كبيرة وخزانات وقود على ظهرها وتنكات تموين .. كل ذلك ساعد في عملية الاشتعال وأجذب الضابط من يديه ولكنه لا يتحرك معي .. لقد فارق الحياة .. كان مكانه في أعلى الشكمان00 وعند الانفجار سقط على أرض الدبابة من على الكرسي .. نسيت حروقي وحاولت معه فلم أستطع فوضعت يدي على عيني كي لا أرى المنظر وقررت ان أبقى إلى جواره حتى استشهد بعد أن يئست من فتح الفتحة السفلى لوجود الطلقات المتفجرة التي حدثتك عنها .. وقفت على الكرسي ولأن يدي قد امتلأت بالفقاقيع فقد أمسكت بأكرة الفتحة العليا بكل صعوبة ، تحاملت على نفسي وفتحت وقفزت على الأرض وأنا عريان .
وطئت الأرض كأنني خرجت من الجحيم كم اشتقت ليد حانية تمسح حروقي الكثيرة لكن يد العدو هي التي تعاملت معي فأصابني أحد الرماة في ساقي برصاصة فوقعت على الأرض 00 يدي ملتهبة ورقبتي كذلك ساقي بها طلقة أو أكثر لا أحد يسعفني وأنا بين الدبابات لا أدري أين أتجه والمعركة على أشدها .. الضرب من الطرفين في قسوة الحديد الذي لا قلب له .. لقد كنت في أول دبابة .. استطعت بتوفيق الله أن أسحب نفسي من المكان وأخذت أسرع الخطى باتجاه القناة 00 لم أشعر بالتعب ولا بالحروق ولا بالرصاصة التي في ساقي .. كنت أريد أن أعيش .. أن أرى الأهل 00 أن أقول لهم انني ضربت العدو أياما وحطمت دباباته وتحصيناته وأننا أسرنا طيارا من هؤلاء المغرورين وعدت اليكم بوسام في يدي وآخر في رقبتي .. ورصاصة في ساقي !! انطلقت في الصحراء مبتعدا عن حقل الموت أو ميدان الانفجارات 00 في طريقي لمحت أحد أفراد قوات الإنزال التي تذهب خلف خطوط العدو 00 نادى علي فاتجهت إليه 00كان ضخما جدا 00 عملاقا 00 تنبهت إلى أن ساقه كانت مقطوعة إلى جانبه ..
- تعال يا دفعة .. لماذا أنت عريان هكذا ؟! خذ ملابس.. أنا سأغطى بالتراب بعد قليل !!
- لو أستطيع يا أخي أن أحملك على كتفي ما ترددت لحظة واحدة ..
- كان الله في عونك 00 يكفي ما تحمله من حروق وإصابات 00 أنا أموت مطمئن النفس لأنني قدمت شيئا لوطني 00 اذهب انت 00
ودعته بدموع حارة وطلبت من الله أن يكون في عونه وأن يبعث إليه من يعود به 00 وصلت إلى الشاطيء القناة كأنني وصلت إلى الجنة 00 ناديت على أفراد أحد طواقم قوارب المطاط 00
- أنت وحدك أم معك أحد ؟...
- معي زميل مصاب ...
الطيران المعادي كان نشيطا يتحين الفرصة للانقضاض صعد إلي اثنان من القارب 00
- أين من معك ؟
- إنه ملقى هناك .. أشرت إلى الإتجاه على مسافة كيلو متر أو أكثر قليلا 00 قال أحدهما :
- تعال .. ونزل معي ، لم يأت الثاني ففهمت أنه سيتجه لإحضار الجريح نزلنا .. أمسكني من بطني وحملني ووضعني في القارب 00 لا أدري كيف حملني هذا الفتى متحاشيا حروقي 0! وعندما وصلنا كانت هناك نقطة طبية .
في خندق تحت الأرض حضر طبيب وأعطاني حقنة فلم أحس بشئ 00 نقلت بعد ذلك إلى المستشفى العسكري بالاسماعيلية ولكن الطيران قصف المستشفى لحظة وصولي فتم نقلنا في عربات بها سرر أحدها فوق الآخر إلى مستشفى الحلمية العسكري 00 هناك قال لي ضابط دكتور بالمستشفى : أنت قادم من أرض المعركة.. أنت بطل. هنا في المستشفى طيار اسرائيلي جريح نعالجه وهو الذي كان يقصفنا. نرى ماذا يفعلون مع أبنائنا الجرحى إذا وقعوا في أيديهم؟!. يا دكتور ، لقد أطلق أحد جنودهم النار فأصاب ساقي رغم أني لا أحمل حتى ملابسي!
وكانت السيدة جيهان السادات تأتي يوميا إلى المستشفى وتقدم لنا الكلمة الحلوة والهدية البسيطة
وفي المستشفى الذي بقيت به أكثر من شهرين تذكرت إلهام ابن خالي .. ووالده بسام .. ترى ماذا يفعل بسام في ضيوف قرية القاضي ذوى العربات الفارهة ؟! أم أن ذلك توقف في فترة الحرب ؟..
وأنت يا عبد الستار حجازي. ترى كيف تواجه الأحداث وأنت دائما تقول :
- لم نحضر هنا إلا لكي نموت !
صوت عبد الستار حجازي
بعد أن حصلت على البكلوريوس عملت أخصائيا اجتماعيا بالوحدة المجمعة 000 التحقت بالخدمة العسكرية في يوليو 68 وتخرجت في كليه ضباط الاحتياط ومدرسة المدفعية بألماظة في أول مارس 69 حيث ألحقت على سرية المدفعية المضادة للدبابات عيار 85مم التابعة للواء 112 مشاة- الفرقة 16 الجيش الثاني الميداني وكان اللواء المذكور في قطاع بور سعيد ويحتل مواجهة تبدأ من بور سعيد شمالا حتى الكيلو 20 جنوبا :
وفور توجهي إلى سرية الم0د0 { المضادة للدبابات } أرسلني قائد السرية لأحل محل قائد الفصيلة الملحقة على الكتيبة 35 مشاة التي تحتل منطقة رأس العش وهي في الجانب الشرقي من قناة السويس جنوب بور فؤاد بحوالي عشرة كيلو مترات وكانت هناك مواجهة مباشرة ما بين قواتنا وقوات العدو التي تحاول هدم دفاعاتنا والتقدم لاستكمال احتلال سيناء 000
وصلت ليلا إلى الموقع المتقدم المذكور فصافحت الضابط أحمد وسيم السيد الشامي مصافحة لقاء ووداع ؛ لأنه عاد إلى قيادة السرية في بور سعيد في نفس العربة التي جئت بها إلى الموقع 00 وعليّ الآن أن أمارس عملي كملازم ثان وقائد للفصيلة ؛ فاستدعيت الشاويش حسن سليمان وأخذت تمام الأفراد والمعدات وأطلعت على مهمة الفصيلة وكانت مكونة من مدفعية 85مم وتفحصت الخريطة لأتتبع الأهداف المرصودة والمكلفين بضربها00
- هل اشتبكتم مع العدو يا حسن في الفترة الأخيرة ؟
- لا يا أفندم .. نحن لا نريد كشف مواقعنا كي لا يرصدنا العدو ويضربنا بالطائرات ..
- نحن موجودون هنا لكي نموت .. احفظ عني هذه الجملة.. وأرفض الجبن بأية صورة من الصور ..
وفي الفجر .. بعد ساعات من هذه الأمسية .. أمرت أفراد المدفعية باحتلال أماكنهم وكشف المدافع ووقفت أنا في نقطة قيادة وأصدرت أمرا بتدمير الأهداف المرصودة والتي لم تدمر من قبل..
وكانت تلك كفاجأة كاملة ...
وبعد أن ضربنا أهدافنا الموكلة إلينا .. وكانت عبارة عن مزاغل المدفعية ماكينة ورشاشات نصف بوصة بعضها خاص بالدبابات التي لم تكن في وضع الضرب 00 فلقد كانت دبابات العدو تضرب بعد أن تغادر حفرتها ثم تعود بعد الضرب مباشرة إلى الحفرة إذن الدبابات ليست في المنطقة التي تضرب منها ولكنها تعود خلف المساطب !...
استدعاني النقيب سمير رياض { استشهد فيما بعد } وتعرف علي وقلت له إنني الضابط الجديد فحياني وشكرني لأنه سمع صوت المدفعية الملحقة عليه منذ مدة وهي صامته لم تشتبك فقلت له إنني رهن إشارتك ومستعد للتعاون وتنفيذ أي أمر .. توالت الإشتباكات بعد ذلك .. أصبح لدى أفراد المدفعية روح معنوية عالية بعد أن انكسر حاجز الخوف لديهم فأصبحوا يتسابقون على من منهم سوف يشترك ويضرب 00
في شهر يوليو 69 كثف العدو غاراته الجوية على الجبهة المصرية فاستطاع تدمير مواقع كثيرة لنا ودمر الساتر الترابي الذي كان بيننا وبينه وحدثت خسائر في أفراد المشاة وأفراد المدرعات الملحقة على سرية المشاة التابعة للكتيبة 35 وأصبح الموقع شبه منهار وتشتت أفراد المشاة الباقون والتقيت أيامها بالنقيب عادل عبد الجواد برغش من دمنهور حيث كان ضابطا بكتيبة المشاة المذكورة وقال لي :
- نحن أشجع منهم ألف مرة ولكن سلاحهم أقوى !
ما زالت الغارات مستمرة .. لمدة خمس عشر يوما منذ شروق الشمس وحتى الغروب والطائرات تدك .. حتى انهار الموقع بأكمله .. ويشهد الله أن الأفراد تحت قيادتي لم يصب أحد منهم بسوء وكذلك المدافع التي كنا نتفنن في إخفائها .. أمرت الأفراد بالنزول إلى مياه القناة والتعلق بالشمندروه فليس هناك أفضل من ماسورة طويلة في الماء يتعلق بها الجنود فلا يظهر منهم إلا رؤوسهم وقت الغارة أما باقي أجسامهم ففي الماء ..
لم أكن أفعل مثلهم بل بقيت في الملجأ لا أغادره ، نائما على سريري أثناء الغارات0 حدث أن سقطت عبوة ألف رطل على مسافة خمسين مترا من الملجأ فخرج الطين من باطن الأرض وأغلق مدخل الملجأ بعد أن كسر بابه وأظلمت الدنيا .. كان معي راديو ترانزيستور مفتوحا على إذاعة القرآن الكريم لكنه سكت ولم ينطق .. أسلمت أمري لله .. كانت الساعة الحادية عشرة صباحا عندما حدث ما حدث وفي العاشرة ليلا استطاع جنودي أن يزيحوا الطين عن باب الملجأ فطلعت إليهم وأنا أضحك لكي لا أبدو مهزوما أمامهم !0 فسرت ذلك لنفسي بأن القائد المهزوم يهزم من معه !! كانت مهمتنا في هذه الفترة العصيبة الاستعداد للقتال المتلاحم مع دبابات العدو حينما تحاول التقدم لاحتلال موقعنا في رأس العش ..
كنت واثقا أن تمهيد الطيران هذا سيعقبه هجوم أرضي لاحتلال الموقع والتقدم إلى بورفؤاد 0 كانت أياما صعبة 00 استعنا بالتعيين الجاف الذي كان معنا ، وكان بعض الجنود يصطادون الأسماك ليلا من القناة 00 أما الشرب فكنا نشرب من مكعب ماء حجمه متر ورغم أني رأيت به فأرا نافقا أخرجناه بعصا إلا أننا كنا نحس بطعمه في فمنا مثل العسل ! ..
بعد انتهاء الغارات بثلاثة أيام - وكان الموقع قد انقطع الاتصال به تماما عن القيادة في بور سعيد - حضر إلى الموقع بعض الجنود من قيادة المدفعية أرسلهم العقيد السيد جمال لمعرفة ما إذا كنا ما نزال على قيد الحياة 0 عند وصول الجنود إلى الموقع لم أقابلهم إلا بعد أن ارتديت ملابسي مكوية نظيفة ؛ لأنني كنت حريصا على أن تظل الروح المعنوية عالية 00
- السيد قائد المدفعية يريد سيادتك لمقابلة سيادته ..
اصطحبت أحد جنودي معي وتوجهنا سيرا على الأقدام إلى مركز القيادة في بور سعيد على مسافة عشرة كيلو مترات .. سلمت على قائد المدفعية وعلى الخبير الروسي الذي كان معه وأحسن القائد استقبالي وأعطاني ترفيها عبارة عن كمية من البسكويت ومعجون حلاقة وفوطا للعساكر ..
قضيت ليلة واحدة في بور سعيد وقالوا لي :
- ستذهب إلى سرية الهاون 82 مم التي استشهد قائدها وهي ملحقة على كتيبة صاعقة يقودها الرائد عبد العزيز ثعلب .. أعطيت الترفيه للجندي الذي كان معي ليعود به إلى زملائه وطلبت منه أن يبلغهم تحياتي فردا فردا 00 وصلت إلى موقعي الجديد ليلا سيرا على الأقدام وهو يقع على مسافة عشرة كيلو مترات جنوب بور سعيد على حافة القناة 00 اضطررت أثناء ذهابي أن أمشي ليلا في الظلام في مصرف من المصارف لكي لا أظهر للعدو فيصطادني0 دخل عود من تلك النباتات البرية المدببة في أنفي فتدفق الدم .. كنت وحيدا لا أملك سوى كلمة السر وتمكنت من الوصول فوجدت الضابط قائد الموقع ملازم أول محمد أصلان الذي قال لي :
- الأوامر التي وصلتني تقول إنك أنت قائد السرية .. وعلى هذا فأنت الذي ستتوجه إلى نقطة الملاحظة الأمامية..
أرسل معي أحد الجنود للوصول إلى مركز الملاحظة وهو عبارة عن خندق على حافة القناة تحتل به كتيبة الصاعقة بقيادة الرائد عبد العزيز ثعلب الذي قدمت له نفسي وتناولت معه طعام العشاء .. قال لي وهو يقدم لي كوب شاي بعد الوجبة التي عوضتني كثيرا عما بذلته من جهد :
- الذي كان هنا قبلك كانت نقطة ملاحظته فوق شجرة .. اكتشف العدو مكانه وضربه 00 ابحث لك عن نقطة ملاحظة أخرى يا بطل 00
فضلت أن أقود الضرب من الخندق نفسه دون أن أظهر للعدو0 كنت قد تسلمت خريطة موضحا عليها قواتنا وقوات العدو والأهداف الموكلة للتعامل معها من جانب سرية الهاون 82مم التي سأقودها ..
وفي نفس الليلة ..
كنت متضايقا مما أصابني طول الطريق . كان أنفي ما يزال يؤلمني ومع ذلك صممت على الاشتباك مع العدو ، وضعت خطة إزعاج بحيث لا أجعل أفراد العدو في النقطة القوية الموجودة بالكيلو 10 ينامون أو حتى يخرجون من ملاجئهم .
كان لنقطهم القوية رسم كروكي يوضح ملاجئ أفراد المشاة ومرابض المدفعية ومساطب الدبابات ومزاغل المدافع 16 بوصة 00 لاحظ أن عندنا نحن في سرية الهاون 6مدافع وأن هذه المدافع خلفي بمسافة 3كيلو مترات وخلف سواتر بحيث لا يراها العدو ، أما أنا ففي نقطة الملاحظة الأمامية وهناك رؤية مباشرة لأهداف العدو .
قمت بتغيير بيانات المدافع بحيث كل مدفع يضرب مكانا حساسا مختلفا داخل النقطة القوية للعدو حتى لا أمنع أفراده من تنفيذ الخدمة الليلية ولا يؤدون عملهم الروتيني ..
وهكذ.. تم إمطار مواقع العدو في الكيلو 10 بوابل من دانات الهاون ..
ضربت علينا في هذه الليلة المدافع نصف بوصة ما يقرب من نصف مليون طلقة ؛ فهم لايعرفون من أية جهة تصدر أوامر المدفعية ! كنت أعطي هذه الأوامر وأنا داخل حفرة في بطن الخندق !!..
نسيت أن أقول لكم أنني عندما كنت في رأس العش كانت هناك نقطة ملاحظة تركها الضابط تحت وطأة كثافة غارات الطيران .. أو ربما لأنه أصيب فغادر المكان . المهم أنني تسللت إلى نقطة الملاحظة هذه بالنهار والكل مختبئ واتصلت بالموقع .. كان موقع هاون160مم وهذه المدفعية مؤثرة على دبابات العدو وتحصيناته .. وبمجرد أن كلمت الموقع { وهو موجود بالكرنتينة } ظنوا أنني ذلك الضابط فعرفتهم بنفسي وسألوني :
- هل تستطيع سيادتك إدارة نيران المدفعية ؟!
- بدون شك لأنني ضابط مدفعية ..
وبالفعل .. تم الاشتباك مع العدو فجأة 0 تمكنت قوة هذا الموقع من تدمير ثلاث دبابات لأن الهاون 160مم عيار ثقيل وله خاصية اختراق الحصون والدشم الخرسانية 0وهناك طلقات مزودة بطابة خاصة باختراق الدروع وتسمى الحشوة الجوفاء وتستخدم لتدمير الدبابات ..
وهكذا .. استمرت حرب الاستنزاف ..
خسرنا فيها معدات ومنشآت واستشهد الكثيرون ولكننا أثبتنا وجودنا وقاومنا وسببنا خسائر فادحة للعدو وقلنا له : لن تهنأ على أي انتصار. !
كان العقـيد عادل يسري يثق فيّ ثقـة كبيرة .. وأثناء التجهـيزات في المنطـقة الابتـدائية للهجـوم حصلت على جـائزة { ترموس } من قائد اللواء لأنني تمكنت من الصعود بالمدفع عيار 85 مم إلى أعلى تبة رملية حيث صنعت طريقا من الدبش والحجارة كمجهود شخصي لم أكلف به ورأى ذلك العقيد يسري قائد اللواء وكافأني على ذلك ..
وكنت أرى العقيد دائما يرتدي القميص النصف كم ويمشي بخطوته المميزة وبعد كل بضعة خطوات يضرب قدمه في الأرض وكأنما ليوقظ النيام !! رجل رياضي شهم منطلق كالسهم جرئ في الحق وفي ساعة الجد لا يعرف أحداً ..
حدث أنني كلفت عسكري المراسلة أن يوقظني في الصباح الباكر حتى أحضر طابور الصباح وكنت قد وصلت في الليلة السابقة متأخرا بعد الاجازة .. لكن الذي حدث هو أنني استيقظت من تلقاء نفسي وكان الطابور قد انتهى !.. ناديت على الجندي فلم يرد فذهبت إلى ملجئه فوجدته نائما ناديته فاستيقظ وخرج يتثاءب يده على فمه يصدر صوتا مزعجا .. وجدت يدي تمتد على وجهه ولطمته لطمة قوية على أذنه دون قصد !!00
هذه أول مرة أفعل فيها هذا مع انسان !! وهذا خطأ لكنه حدث فقد كنت حريصا كل الحرص على طابور الصباح ..
أغمي عليه وتمدد على الأرض .. حاولت أن أسعفه فسقيته شربة ماء جعلت الأمور تسير من سئ إلى أسوء 00 يبدو أن قطرات الماء دخلت إلى رئتيه .. شعرت بالجنود يتابعون الموقف خلسة فتركته وعدت إلى مكاني لأحضر شيئا .. عدت فلم أجده 00 حملوه وساروا به مباشرة إلى مكتب قائد اللواء عادل يسري الذي استدعاني وعنفني بشدة وقسوة لم أعهدها منه كان وجهه غير وجهه ، وصوته غير صوته .. ولأنني أعرف أنه لا يحيد عن الحق وأدرك أيضا أنني غلطان .. تحملت عنفه وقسوته بصدر رحب
- يا أفندم أنا مستعد أتحمل نتيجة خطئي ..
أصدر أوامره بأن ينقل الجندي إلى مستشفى القصاصين للعلاج .. تم ترقيع طبلة أذن الجندي اما أنا فقد أعطاني العقيد عادل يسري خمسة عشر يوما حجز وقشلاق وهذا يعتبر جزاء شديدا بالنسبة لضابط.. لم أعترض وأكبرت الرجل واحترمته .. وبعد عودة الجندي قلت له إن لك عندي حقا فسامحني قال لي : أنا الذي أخطأت أولا .
عندما تم التحضير للحرب عقد اللواء اجتماعا للضباط وأعلن فيه أن الحرب وشيكة .. أخذنا أوامر بتجهيز المنطقة الابتدائية للهجوم على الضفة الغربية للقناة مباشرة حتى جاء السادس من أكتوبر ..
طلبني قائد اللواء في حوالي العاشرة صباحا بحضور المقدم مدحت أحمد ابراهيم قائد مدفعية اللواء الذي أتبعه 00 كلفني بقيادة وحدات السيطرة أثناء فترة العبور فاجتمعت بالضباط وقمنا بتنسيق تعاون بالتأثير المنظور 00 فمثلا عندما أرفع السلاح إلى أعلى بيدي اليمنى فمعنى ذلك أنني سأعطى أمرا وعليهم الانتباه 0 وإذا وجهت السلاح أمامي فمعناه : سيروا وتقدموا 00 وهكـــذا....
بينما نحن في المنطقة الابتدائية في انتظار ساعة الصفر فوجئنا بعبور الطائرات المصرية بأعداد كبيرة وبارتفاع منخفض ودخولها في عمق سيناء فأدركنا أن الحرب قد بدأت ..
بعد دقائق هدرت المدفعية فيما يسمى بالتمهيد النيراني لتطهير الأرض أمام أفراد المشاة التي ستعبر بالقوارب المطاطية ..
ركبنا القوارب في الموجة الثالثة حوالي الساعة الثانية والنصف بعد الظهر .. وما إن وصلنا إلى الشط حتى دوى صوتنا : الله أكبر ..
صعدنا الساتر الرملي على سلالم الحبال والخشب بارتفاع عشرة أمتار 00 كل فرد معه شدة القتال ، وجركن ماء به لتران من المياه ، وكوريك ليحفر به ، وسلاحه الشخصي ، والذخيرة ..
كنا نرتدي جاكيت من المشمع الذي به قطع من الاسفنج { جاكيت نجاة } حتى لا يغرق الفرد في مياه القناة إذا وقع من القارب أو من الساتر .. وصلت إلى أعلى الساتر 00 كان الجندي الذي يمسك بالسلم قد أصابه التعب ، أمسكت السلم مكانه ليصعد الأفراد 00 أفراد معهم معدات ثقيلة من أفراد الإشارة فغصت حتى أعلى الركبتين في رمل الساتر حتى صعد جميع الأفراد وأخرجوني !..
أعطيت لقائد اللواء تمام عبور الوحدات وأنها أخذت أوضاعها النسبية على الأرض في انتظار الأوامر 00
بدأنا نتحرك 00 وصلنا إلى مسافة خمسة كيلو مترات داخل سيناء بالقرب من بئر المرة أمر قائد اللواء بالتوقف عن التحرك ..
طبعا كنا نتحرك سيرا على الأقدام حاملين أثقالنا ، من وقت لآخر نلجأ إلى التوقف والحفر في الأرض للوقاية من طلقات مدفعية العدو التي كانت تنزل عشوائيا 00 عندما نرى طلقة تنزل كنا نحفر 00 كل واحد يحفر لنفسه حفرة ثم 00 نتحرك من جديد 00
أقول 00 أمرنا قائد اللواء بالتوقف حتى يرتاح الأفراد وانتظارا للمعدات الثقيلة من عربات وخلافه التي كانت ستعبر من فوق الكباري التي يجري تركيبها على القناة 00 وبالفعل وصلت العربات والمركبات حوالي الساعة 12 ليلا ولكن قائد اللواء أمرها أن تنتظر خلف القوات بمسافة كيلو متر تقريبا 00 كان يوجد دبابة قيادة اللواء وعربات جيب للضباط وكذلك عربات مصفحة ولكن سيادته أمر أن يسير الجميع على الأقدام 00
مع انبثاق النور من الشرق في صباح اليوم الثاني للحرب استأنفنا المسير .. أثناء التوقف للراحة على احدى التبات استدعاني قائد اللواء وكلفني بمأمورية خاصة :
- تم التقاط إشارة استغاثة من بعض أفراد الصاعقة المصريين خلف خطوط العدو كما تعرف 0 وعليك مهمة إحضارهم 00
بكل دقة أخذ يحدد لي مكانهم على الخريطة 0 ابتسم لي ابتسامة حازمة !! ولو كان المقام يحتمل لسألته :
- أهذه ابتسامة حربية يا أفندم ؟!
أحضر لي عربة مصفحة وسائقا عملاقا .. سألته :
- من الصعيد ؟
توجهنا لإحضار أفراد الصاعقة المذكورين 00 وعندما أقتربت من الحد الأمامي لقواتنا من المشاة فوجئت وأنا في العربة بالملازم أول عبد الفتاح مشرف ابن قريتنا يأتي إلىّ مسرعا ويصافحني بحرارة وقال لي :
- أنت تسير في اتجاه خاطئ 00 هنا آخر قواتنا وأنت تتقدم نحو العدو 00
- أعرف أنني أتقدم نحو العدو وأعرف أيضا أنني لا أسير في اتجاه خاطئ 00اطمئن 00
- إذن فهي مهمة خاصة ؟ أمعك ماء ؟ أطمع في جرعة واحدة 00
- واحدة يا عبد الفتاح ؟! وإياك أن تزيد 0 وأعطيته الجركن الصغير الذي كان معي فأوفى بوعده ولم يزد عن جرعة واحدة 00 ودعته وهو يتمنى لي التوفيق في مهمتي 00 تقدمت العربة إلى ما خلف خطوط العدو باتجاه التبة التي يختبئ فيها أفراد الصاعقة 00
وصلت إليهم في خلال ساعة 00
لقد كانوا مختبئين يراقبون في صمت ويستعدون للطوارئ 00 تعرفت على التبة عندما شاهدتها على الطبيعة 00 نزلت من العربة وبدأت أصعد التبة 00 لمحتهم 00 فوجئت بأحدهم يظهر وعلى رأسه طاقية غير عسكرية مثل تلك التي يشتريها الأولاد من المولد 00 عرفت أنهم من عساكرنا صعدت إليهم مسرعا 00سألته عن الطاقية التي على رأسه، قال إنها هدية من أمه يتفاءل بها . وسألته إن كان ثمة مصابون، واطمأننت عليه 00 ثم نقلته إلى العربة التي كنت قد أوقفتها في مكان غير ظاهر 00 وكانت معنوياتهم مرتفعة جدا لأنهم حققوا بكل دقة ما كلفوا به 00 الحمد لله لم يتعرض لنا أحد أثناء العودة فوصلنا سالمين حيث أسلمتهم لقائد اللواء 00 كنت سعيدا أنا الآخر لإنجازي هذه المهمة ..
قضينا ليلة أخرى على تبة الطالية واستأنفنا المسير صباح اليوم الثالث للحرب 00 مشينا والمعدات خلفنا على بعد كيلو متر واحد 00 وكان العقيد عادل يسري في قمة النشاط 00 أوامره حازمة 00 يعجبني هذا النمط من الرجال:
- ضرب مدفعية 0 ارقد واحفر ..
- انهض تقدم ..
لهجته لن أنساها ما حييت ستظل طريقته في التعامل مع الحروف في ذهني إلى الأبد 00 ويصحح مسار القوات على الأرض :
- لليمين مل 00 للشمال مل !00
أو : التبة التي تراها أمامك الآن اجعلها أمامك دائما 00
وكانت الأوامر تبلغ إلى الوحدات الفرعية عن طريق وحدات السيطرة ورئيس العمليات 00
فاتني أن أذكر أن فصيلة من كتيبة الفهد { صواريخ المالودكا } كانت في حراسة قائد اللواء وكان قائدها اسمه الملازم السيد خفاجي من صا الحجر 00 قد دمرت هذه الفصيلة أربع دبابات من الاحتياطي المحلي للعدو { كان عند العدو إحتياطي محلي واحتياطي تعبوي } قبل وصول هذه الدبابات لاحتلال مساطبها على الساتر بمسافة كيلو متر تقريبا بحيث تتحرك عندما تصدر لها الأوامر بذلك وتصعد إلى مساطبها فوق الساتر 00 ولم تمكنها فصيلة الفهد من ذلك ودمرتها 00
ركبنا العربات لنكسب أرضا أكثر ولكننا نزلنا من العربات مرة ثانية بأمر القائد حتى نعبر تبة { أبو وقفة } راجلين لأن العربات لا يمكنها أن تصعد هذا الميل حتى تتجنب الميل أما نحن فنصعد على الأقدام 00 كان العدو يكمن في الميل الأمامي للتبة بحوالي سبع دبابات 00 وعندما ظهرت قواتنا على أعلى التبة فتحت دبابات العدو النار علينا وكانت لحظة عصيبة لأن أفراد المشاة فوجئوا ولكنهم استأنسوا الصدمة سريعا وتم الاشتباك المتكافئ مع الدبابات 00 وأصيب قائد اللواء العقيد عادل يسري في ساقه وكان الظلام قد خيم وتبعثرت بعض القوات بعد إخلاء قائد اللواء الذي حاول وقف نزيف الدم بالرمل !! هكذا يقوم هذا الرجل العظيم بإسعاف نفسه حتى نقله بعض أفراد الصاعقة 00
تمكنت فصيلة الفهد وأسلحة الضرب المباشر الأخرى من تدمير جميع دبابات العدو التي هاجمتنا في هذه المنطقة 0 لقد أشعلت إصابة العقيد عادل يسري نارا في صدور جنودنا فكانوا يضربون العدو ضرب انتقام مضاعف !
حل محله المقدم محمود المليجي رئيس العمليات حتى أحضر العقيد عبد الباري حسين عبد الباري رئيس الأركان من مركز القيادة الخلفي 00 كنت أنا أسير خلف قائد اللواء وعلى اليسار بمسافة خمسين مترا تقريبا أحمل جهاز إشارة R-108 بدلا من الجندي محمود على قلج - من دمنهور - الذي كان ضمن الطاقم الذي يعمل معي لتوصيل الأوامر باللاسلكي كنت أعرف هذا الجندي الحاصل على ليسانس الحقوق وكان يؤدي امتحانات في الدراسات العليا كان من الذين يفضلون القراءة على أي شيء آخر 00 لم يكن قويا في تكوينه الجسماني بما فيه الكفاية وقد قطعنا مسافة طويلة في هذا اليوم 0 كانت ساقاه لا تكادان تحملانه حملت الجهاز بدلا منه وكان ثقيلاً يقارب وزنه الثلاثين كيلو جراما 00 عندما وقع التصادم مع العدو كان محمود قد ارتاح شيئا ما فتناول الجهاز مني 00 أمرته أن يتجمع هو ومن معه بالخلف كان الظلام قد بدأ يخيم تماما 00
انطلقت بأقصى سرعتي التي قللها التعب باتجاه احتياطي الفرقة من صواريخ الفهد المحملة على عربات مصفحة 0 كانوا يسمونها كتيبة البردم ، وصلت إلى قائد الكتيبة وكان اسمه المقدم عبد العزيز الدريني 0 قال لي منفعلا
- ما الموقف قدام 00 ؟
فأعطيته صورة للموقف وافترضت أن لواء من دبابات العدو المتمركز في منطقة الماليز بسيناء والذي كان يعتبر احتياطيا تعبويا للعدو هو الذي واجهنا وأن بعض دباباته قد دمرت وهناك احتمال لوصول الباقي منها إلى موقعكم في خلال ساعة أو أقل 00
على الفور جمع الضابط قادة الفصائل ووجه قواته بالطريقة التي اتفقنا عليها لمواجهة تقدم دبابات العدو 000
بالفعل 00 اخترقت 17 دبابة الحد الأمامي لنا 00 { المشاة } ولكن تمكنت من تدمير هذه الدبابات كتيبة المقدم عبد العزيز الدريني ..
بعد ذلك وفي نفس الليلة عدت إلى مكاني على تبة أبي وقفة وتمكنت في ساعة متأخرة من الليل من تجميع الأفراد بالتعاون مع رئيس عمليات اللواء عن طريق طلقات الاشارة الملونة ..
حضر الجندي محمود على قلج بجهازه لينضم إلى زملائه 0
مكثنا على تبة أبي وقفة التي كانت على خط رأس الكوبري الذي كنا مكلفين بالوصول إليه 0 ولم نتحرك بعدها للأمام 00 قمت منذ وصولنا إلى التبة بعمل رئيس عمليات الضرب المباشر وغير مباشر في اللواء 112 مشاة حيث أن رئيس العمليات الرائد نادر أحمد رزق قد أصيب وأخلى للخلف وأمسكت عمله 00 كنت آخذ تمامات الوحدات بعد كل اشتباك أو غارة جوية وأبلغ به جميع الوحدات المقاتلة التابعة لواء 112 هذه بعض بلاغات التمام التي وجهتها إلى المستوى الأعلى : تمام. الفصيلة الموجودة بقيادة اللواء 112 مشاة الكتيبة 35 فهد القوة 37 فردا بقيادة الملازم أول سيد خفاجي. الذخيرة 119 صاروخا والباقي منها 15 صاروخا.
- الفصيلة الملحقة على كتيبة 34 القوة 37 فردا ، 3شهداء منهم 2 حكمدار وقائد الفصيلة اسمه ملازم أول أحمد حجازي، مصاب.
- الفصيلة الملحقة على الكتيبة 36 مشاة القوة 37 فردا الموجودة 1 طاقم فقط وباقي أفراد الفصيلة ما بين تائه وشهيد 0 الحكمدار موجود واسمه تهامي محمد أحمد
قبل السادس من أكتوبر بأيام كنت قد أعددت حقيبة خاصة بي بها أشياء تصلح في الأوقات الصعبة 00 مثل :
زجاجة كولونيا كبيرة ، لفة أوراق تواليت ، علب برشام مطهر للزور ، عدد 2 أوفرول مكوي ، عدد2 غيار داخلي، أوراق بيضاء وأقلام فلوماستر ونظارة شمسية كنت اشتريتها ب15 جنيها وحافظة نقود بها 50 جنيها حيث كانوا قد أعطونا شهرا اضافيا ، هذه علاوة على أوراق شخصية 00
والحقيبة موجودة بالعربة التي بها محطة اللاسلكي R- 104 موبيل ستيشن وكان بالعربة جنديان هما رفعت بطرس حافظ ، وصابر غالي 000 وبعد وضع العربة في حفرة بتبة أبي وافية سقطت عليها دانة مدفعية عيار 155مم وكنت أدير الجهاز الذي بالعربة بريموت كنترول بسلك من مسافة 150مترا فاشتعلت العربة بما فيها 00و { قدر ولطف } اذ أن الجنديين المذكورين بعد أن حفرا الحفرة وأصابهما التعب والارهاق أمرتهما بالراحة قليلا فلم يصبهما أذى عند انفجار العبربة 00
كان بالعربة صندوق ذخيرة 9مم فاندفعت الذخيرة تخرج طائشة إلى كل اتجاه ،و لم أتمكن من الاقتراب من العربة حتى احترقت تماما بكل ما فيها وكان معنا أجهزة اتصال أخرى كثيرة مثل الذي مع العريف محمود قلج وغيره 00 وأذكر أنه قبل أن تفقد هذه العربة ،و عندما فقد العقيد عبد الباري حسين عبد الباري صوته لكثرة ما أعطى من أوامر00 أعطيته بعض الحبوب المطهرة للزور التي كانت بالحقيبة 0 0ونفعت !
أثناء الاشتباك مع دبابات العدو كنت أوجه شفهيا قائد أحد أطقم الفصيلة فهد ، وأقوم أحيانا بتعديل إتجاه اللونشر الذي ينطلق من عليه الصاروخ حتى يكون في الاتجاه الأكثر احتمالا لتقدم دبابات العدو 00 وقد سهل هذا على ذلك الطاقم أن يدمر أكبر عدد ممكن من الدبابات 00 وبلغ من شدة إعجابي بدقة تصويب هذا الطاقم أنني أعطيت أفراده السبعة الترفيه الذي حصلت عليه 00 كنت أحس أنهم أولى به مني 00 ! والترفيه كان علبة لحم رومي محفوظ تعطى لكل ضابط وتزن حوالي خمسة كيلو جرامات 00
أعطيتهم علبتي 00
رغم اشتعال الحرب فإنني كنت دائما أقول لمن يسألني عن الحال :
صبرا 00 الحرب لم تبدأ بعد !!
حيث كنا متوقعين ضربا بالكيما والغازات السامة وأشياء أخرى أكثر خطورة 00 والحمد لله كنا مستعدين 00
بعد غارة بالقنابل العنقودية وكانت تنزل في صندوق خشبي كبير لا ينفتح إلا على مسافة معينة من الأرض وينشر ما به من دمار 0! كنا نتابع الصندوق وهو نازل ونحن في حفر الدفاع السلبي 00 يدوي الانفجار فيصم الآذان لفترة لا نكاد نسمع فيها 00 يقول لي أحد الجنود :
- هل الحرب لم تبدأ بعد يا افندم ؟
- ارفع صوتك فأنا لا أسمعك !
كانت إحدى فصائل الفهد من الكتيبة 35 هي إحدى الوحدات الفرعية المكلفة بالدفاع عن قيادة اللواء 00 كانت هذه الفصيلة مكونة من ثلاثة أطقم 00 كل طاقم يتكون من حكمدار وستة افراد مشاة 00 استطاعت هذه الفصيلة في المدة من 8الى 22 أكتوبر من صد وتدمير دبابات العدو التي كانت تقوم بهجمات مضادة حيث بلغ ما دمره اللواء 112 أكثر من 24 دبابة كان لكتيبة فهد حظ أوفر في تدمير عدد كبير من هذه الدبابات 00 وحدث عصر أحد الأيام بعد وقف اطلاق النار أن حضر وفد صحفي يرتدي أوفرولات عسكرية ، توجه إلى السيد قائد المدفعية فوجههم إلى - بعد أن رحب بهم - باعتباري القائم بعمل رئيس عمليات مدفعية اللواء 112 للضرب المباشر وغير المباشر بعد إصابة القائد الأصلي الرائد نادر أحمد رزق 0 قابلت الوفد الصحفي وأطلعتهم على الدبابات المدمرة وكيف تم تدميرها 00 وأشدت إشادة تامة بأحد أطقم فصيلة الفهد بقيادة حكمدار محمد عبد العاطي - عريف مؤهلات متوسطة من مركز منيا القمح - وحضر عبد العاطي وطاقمه لاجراء بيان عملي أمام الوفد وكيف كانوا يصيبون الدبابات ..
في اليوم التالي من هذه المقابلة فوجئت بإشارة تطلب حضور عبد العاطي إلى معسكر الجلاء بالاسماعيلية لتكريمه ، بعد يومين أو ثلاثة أقيم احتفال ضخم حضره رئيس الجمهورية وتسلم فيه عبد العاطي نجمة سيناء فأسعدني ذلك 00
مرت أيام لم أر فيها عبد العاطي إلا بعد أن عدنا إلى الضفة الغربية ، أثناء تواجدي بالاسماعيلية فوجئت به يحضنني وكانت نجمة سيناء مدلاة على صدره 00 وأقسم - بشهامة - أن يسقيني عصيرا من محل مشهور هناك تصادف وجودنا قربه ..
نترك نجمة سيناء تتمايل على صدر عبد العاطي ونعود إلى أيام القتال 00 وأحد الأوقات الصعبة 00
بعد إحدى الغارات الجوية انقطع خط الاتصال مع سرية الهاون 120مم بقيادة النقيب سامي الصياد فطلبت من الفرد الخاص بإصلاح الأعطال الخاصة بالخطوط التليفونية أن يتتبع الخط لإصلاحه 00
ذهب هذا الفرد ولم يعد00 فطلبت من عريف مؤهلات عليا محمود علي قلج أن يترك جهاز اللاسلكي وأن يتجه إلى موقع سرية الهاون الكائن على يمين تبة أبي وقفة في الوادي وعلى ما يقرب من ثلاثمائة متر 00 كان جنديا شجاعا فامتثل للأمر دون تردد 00 ذهب وعاد وهو يرتجف من هول ما رأى 00 كنت أريد أن أعرف منه تمام السرية بعد الغارة الجوية 00 أن يقدم إلي إحصاء الموجودين والشهداء والجرحى وخسائر المعدات والأسلحة والذخيرة 00 لكنه عاد والرجفة تسيطر على بدنه 00 شخطت فيه :
- بطل دلع يا عريف ! مالك تهتز هكذا ولا تتماسك ؟!
- اعذرني يا أفندم 00 أنا لا أخاف من الموت ،و على استعداد تام للاستشهاد الآن 00 لكني لا أحتمل منظر الدماء والأشلاء ..
أشفقت عليه 00 تركت مكاني وتوجهت بأقصى سرعة إلى سرية الهاون .. وهالني ما رأيت 00 جثث متناثرة 00 مدافع والعة بالنابالم 00 قائد الموقع النقيب أسامة قد استشهد نتيجة إصابته بشظية كبيرة اخترقت جسده نتيجة لانفجار ردئ لإحدى القنابل 00
الانفجار الردئ شظاياه كبيرة ولا تنتشر على مساحات واسعة 00
الأفراد الباقون بعضهم جالس يبكي على رفاقه الذين استشهدوا ، البعض الآخر يحاول اسعاف زملائه ودفن الشهداء00
شجعت الجنود حتى أرفع معوياتهم وقلت لهم : يا بخت الذين لقوا ربهم مرتدين قمصان دمائهم!0 لا تبكوا! إننا لم نجئ إلى هنا إلا لكي نموت0 واعلموا : من يحرص على الموت توهب له الحياة0
ما أصعب أن ترى شخصا تحبه وتعتز به يتطاير أشلاءً أمام عينيك !! لكنها الحرب 00
عدت مسرعا لأعطي التمام للقيادة الأعلى لعمل التعويض اللازم للأفراد والأسلحة والذخير.. كنت حريصا على الإبلاغ السريع حتى يتم التعويض السريع ..
في يوم ، بعد أن دمر العدو المنطقة الإدارية الخاصة بنا وتعذر الحصول على الماء كلفني قائد اللواء بإحضار ماء من نقطة مياه مواجهة لمدينة الاسماعيلية 00 ركبت عربة زل وكان معي سائق يدعى محمد عكاشة من بور سعيد ، امتلأت العربة بالجراكن الفارغة ، وجندي يدعى محمد على ركب مع الجراكن في الخلف توجهنا إلى نقطة المياه على بعد 12كم من الحد الأمامي من تبة وقفة وكانت خلف اللواء 16 من الفرقة 16مشاة وبالقرب من الاسماعيلية { كان قد تم توصيل ماسورة مياه نقية من الغرب إلى الشرق عبر القناة لإمداد الجيش الثاني بالمياه } وبجانب نقطة المياه تلك كانت توجد نقطة إسعاف لتجميع المصابين
المهم 000 توجهنا بالعربة إلى نقطة المياه وعندما كنا نمر بجوار إحدى التباب رأيت سرية الإستطلاع الخاصة باللواء 112 متوقفة في شكل رتل 000 وحضر قائد السرية يجري عندما لمحني فوقفت وسلمت عليه ووصفت له الطريق الذي عليه أن يسلكه للوصول إلى الحد الأمامي 000 بينما نحن نتحدث أغارت علينا طائرات العدو فقفزت من العربة ونمت على وجهي في الرمل وأصابت الطائرات بعض عربات الاستطلاع وأشعلت فيها النيران 0
بعد الغارة سمعت صوت استغاثة فوجدت الجندي محمد علي { مدرس ابتدائي من شبين الكوم } يقول : إلحقني يا أفندم 0
فتوجهت إليه فوجدت ساقه مقطوعة نتيجة شظية 000 كان منبطحا مثلنا على الأرض ولكنه أصيب 000 تطلعت إلى ساقه المقطوعة في أسى واكتئاب 000 حتى العربة طار غطاء الكبوت نتيجة الضغط الجوي الذي أحدثته القنابل 00 رباط الميدان الذي معي لا يصلح لوقف نزيف الجندي 00 تلطخت بالدماء وأنا أحاول إيقاف نزيفه كان معنا حصيرة من المشمع مخصصة للغازات 000 أخذتها وربطت بها ساقه المقطوعة من فوق الركبة 00 ربطت الحصيرة عليه وربطت بالرباط الشاش فوق الحصيرة حتى تمنكنت من إيقاف النزيف كان الجندي محمد على يتحدث بكلام يقطع القلب 0
قلت للسائق محمد عكاشة :
- هيا نحمله
كان السائق ضعيفا هزيلا كلما همّ أن يرفعه معي فإنه " ينخ " استخدمنا غطاء الكبوت كنقالة وحملنا الجندي المصاب عليه حتى الآن لم أحضر الماء
كان على أن أوصل الجندي إلى النقطة الطبية الموجودة بالخلف على بعد عشرة كيلو مترات من المكان الذي أصيب فيه 0 احترت : هل أحضر الماء أم أذهب بالجندي الجريح ؟
قررت أن أذهب أولا بالجندي إلى النقطة الطبية 00 كنا المغرب 00 وصلت إلى النقطة الطبية ثم عدت إلى نقطة الماء وملأت الجراكن وكان الليل قد خيم تماما والظلام أمسى حالكا 00 كنت انوي العودة على آثار عجلات العربة ولكن الظلام أخفاها ومع هذا استطعت العودة بتوفيق الله
كانت تلك أيام صعبة ولكن حلاوة النصر كانت وما تزال في فم الروح 0 إن شراسة العدو ووحشيته جعلت انتصارنا عليه أبهى وأعظم فلا قيمة لانتصار على عدو سهل ضعيف 0
عبرنا وقدرنا وحررنا وانتصرنا وهذا ليس بالشئ القليل ..
فتوجهت إليه فوجدت ساقه مقطوعة نتيجة شاظية 000 كان منبطحا مثلنا على الأرض ولكنه أصيب 000 تطلعت إلى ساقه المقطوعة في أسى واكتئاب ... حتى العربة طار غطاء الكبوت نتيجة الضغط الجوي الذي أحدثته القنابل.. رباط الميدان الذي معي لا يصلح لوقف نزيف الجندي 00 تلطخت بالدماء وأنا أحاول إيقاف نزيفه كان معنا حصيرة من المشمع مخصصة للغازات 000 أخذتها وربطت بها ساقه المقطوعة من فوق الركبة 00 ربطت الحصيرة عليه وربطت الرباط الشاش فوق الحصيرة حتى تمنكنت من إيقاف النزيف كان الجندي محمد على يتحدث بكلام يقطع القلب .
قلت للسائق محمد عكاشة :
- هيا نحمله
كان السائق ضعيفا هزيلا كلما همّ أن يرفعه معي فإنه " ينخ " استخدمنا غطاء الكبوت كنقالة وحملنا الجندي المصاب عليه حتى الآن لم أحضر الماء
كان على أن أوصل الجندي إلى النقطة الطبية الموجودة بالخلف على بعد عشرة كيلو مترات من المكان الذي أصيب فيه . احترت : هل أحضر الماء أم أذهب بالجندي الجريح ؟
قررت أن أذهب أولا بالجندي إلى النقطة الطبية .. كنا المغرب .. وصلت إلى النقطة الطبية ثم عدت إلى نقطة الماء وملأت الجراكن وكان الليل قد خيم تماما والظلام أمسى حالكا 00 كنت أنوي العودة على آثار عجلات العربة ولكن الظلام أخفاها ومع هذا استطعت العودة بتوفيق الله
كانت تلك أياما صعبة ولكن حلاوة النصر كانت وما تزال في فم الروح 0 إن شراسة العدو ووحشيته جعلت انتصارنا عليه أبهى وأعظم فلا قيمة لانتصار على عدو سهل ضعيف 0
عبرنا وقدرنا وحررنا وانتصرنا وهذا ليس بالشئ القليل 00
صوت فؤاد خضر
في الخامس من سبتمبر 73 ، أمرت بأخذ سلاحي ومهماتي والتوجه إلى موقع أمامي يسمى موقع الكباش كان معدا لتحتل فيه السرية عندما يحين الهجوم الكبير00 هكذا ابتعدتُ عن السرية واستـلمت الموقع الفاضي 0بعد أيام صرت أشاهد قوات كثيرة تأتي من الخلف، من عبيد والجفرة وأماكن كثيرة ، وتم استدعاء الاحتياطي الذي كان قد سرح ؛ حتى أن قوة السرية أصبحت أكثر من سبعين فردا؛ فصار على كل مدفع 7أفراد وقد حضر الجميع وهم يظنون أنها مجرد تجربة للاستعداد ولكن المنطقة صارت تعج بالقوات وتجمعت أعداد هائلة من المدافع والدبابات وجميع أنواع الأسلحة مباشرة على شاطئ القناة 00 نزلت إجازة24 ساعة وعدت بعد أن تزودت بعطر الأهل والأحباب وكنت أميل إلى العزلة فابتعدت بقدر المستطاع عن السرية وأفراد السرية 00 جاء شهر رمضان المبارك وأبدع اللواء 12 في التعيين بطريقة لم يسبق لها مثيل من كنافة وقطايف ولحوم جيدة وبكميات وفيرة ، وكنت آخذ تعيين 5أفراد مؤمدين بالفوج 36 حتى أتخمت من كثرة الطعام، وكنت أذهب يوميا إلى السويس 00 بعد هذا تحركت السرية ثانيا إلى قيادة الفرقة السابعة ،و لكثرة العدد استغنوا عني تماما 00 ثم تحركت إلى شئون الفرقة قريبا من الشط 00
بدأ يوم 6أكتوبر بداية عادية ، والحقيقة أني لم أكن أصدق أبداً أن الحرب ستقوم! حتى سمعت بعد الظهر بساعتين تقريبا أعدادا كبيرة من مدفعية الميدان تزمجر وتهدر؛ فخرجت من المبيت وصعدت إلى مكان مرتفع لأستطلع ما يحدث 00 كانت جميع المدافع تضرب ضربا متتاليا ومن جميع الأعيرة ، وبعد فترة شاهدت أسراب السوخوي والميج متجهة إلى الشرق وتابعـتها وهي تلقي قذائفها فوق المواقع الاسرائيلية ، قلت : الدور الآن على الفانتوم ! سوف يظهر لاشك لينتقم !00 لاشك أن جنودا سيعبرون بعد ذلك ناحية الشرق 0أمسكت قلبي بيدي عندما تذكرت ما قاله ديان عن مواسير النابالم التي ستشوي حتى السمك الذي في القناة ! انتظرت قدوم الفانتوم حتى ظهر !! ولكن صواريخ سريعة جدا اتجهت نحو الفانتوم وفجرته !00 وبكل بساطة لم يستطع هذا الجبروت أن يضرب ولا أن يهرب !! كانت هذه الصواريخ تتجه يمينا ويسارا حتى تدمره !! لا مهرب ولا ملجأ للفانتوم حتى لو هبطت هذه الطائرات رأسيا ينزل خلفها هذا الصاروخ لدرجة أن طيارا نزل بطائرته في القناة فنزل الصاروخ وفجر الطائرة على سطح الماء !
قررت ترك الموقع والعودة إلى مكان السرية الأصلي لأحضر خوذتي فإصابة المخ لا علاج لها، ولكني بقيت مكاني لأشمت في هذا الطيران اللعين الذي كثيرا ما قتل إخوانا كانوا أعزاء علينا ، ودمر مواقع مدفعية كنا نحرسها 0دمرها أمام أعيننا ونحن نضرب عليه ولا نصيبه بل ينصرف سالما تاركا دخان المواقع والجثث وحسرة في قلوبنا كانت مُرة ؛ فنحن مكلفون بحراسة هذه المواقع من الطيران وها هي تضيع ونحن لا نستطيع سوى أن نجمع أشلاء إخواننا من دشم مدافعهم 00 ها هو الزمان يتغير أيها الفانتوم اللعين ،و اليد الطولى لنا ! تسقطون بأيدينا وأمام عيوننا ومما أبهجني أو قل أطفأ النار التي كانت تحت رماد صدري أن الطيارين كانوا يحترقون داخل هذه الطائرات فلم يقفزوا بالبراشوت بل كانوا يتناثرون في الانفجار !00
أخذت البندقية وشنطة الذخيرة وتوجهت إلى مكان السرية الأصلي 00 وأنا في طريقي كانت صيحات تلاحقني : ارجع يا دفعة! إلى أين أنت ذاهب؟ قد تصيبك دانات المدفعية!وصلت إلى مكان السرية فلم أجد الخوذة ، ووجدت كمية تعيين قتالي فأخذتها ورجعت 00 وفي الطريق شاهدت عربة تنطلق منها كمية صواريخ دفعة واحدة ،و جريت بأقصى سرعة مسلما ساقي للريح حتى عدت إلى موقعي بعد الغروب 00 وفي الليل خرجت إلى ظهر التبة لأرقب ما يحدث 00 الليل بطوله والمدافع تضرب وكنت معجبا جدا بمدفع 204مم 00 عند الفجر سكتت المدافع وبدأتُ أسمع تحرك قوات كبيرة نحو الشرق ، وفي الصباح شاهدت طوابير طويلة من المدرعات والعربات المجنزرة والدبابات تتجه نحو القناة ، وتمر وسط عزبة الشلوفة إلى المعبر 00 ومر هذا اليوم دون أن تضرب المدفعية؛ فقد أدت دورها في التمهيد ثم بدأت تتحرك إلى الأمام 00 وفي هذا اليوم 7/10 حضر قائد الفوج 74 وعاين المكان لتحضر إحدى السرايا وتضرب طلقتين ليرصد اليهود ذلك، ثم تنسحب السرية عائدة إلى مكانها ؛ فقررت ترك المكان والعودة إلى ملاجئ موقعي لأني كنت أفضل البقاء في ملاجئ قريبة من المطبخ !! وكان موقعي يبعـد حوالي 500 مترا فقط ولكن تحصينه أفضل 00 حملت البطاطين وكميات التعيين والبندقية والذخيرة وسبع صفائح مياه إلى موقعي تاركا هذا المكان للصواريخ التي ستدكه !!
كانت السرية مكلفة بحراسة شئون الفرقة السابعة عند الكيلو 20 على طريق الاسماعيلية السويس فأيقنت أني سأستدعى للانضمام إلى رجال المدافع؛ فقد كنت خبيرَ الطاقم الرابع وتم تجديد المدفع بالكامل بمعرفتي أنا في ورش ألماظة كما تذكرون ولكثرة الأفراد استغنوا عني مؤقتا 00 مر يوم ويومان وثلاثة ، وعلمت بعدها أن السرية عبرت إلى الضفة الشرقية فهل تصدقون أنني تألمت أشد الألم لذلك ؛ فقد كنت العمود الفقري للطاقم الرابع في جميع اشتباكاته وتمارينه لضرب النار وتدريبه 00 لمت نفسي أشد اللوم فقد كان المفروض أن أذهب أنا إلى السرية إذ كنت أعرف تماما أين هي 0 وحتى بعد أن عبرت كنت أعرف أين هي من سائقي عربات الفوج التي كانت تمر علي ؛ ولكني بقيت حيث أنا ، واعتبرت نفسي قائدا للموقع الخالي ؛ ولم أكن أعرف ما يضمره لي القدر فقد قاسيت أضعاف ما قاسى من كانوا على المدافع 0
في يوم 20 أكتوبر وحوالي الساعة الخامسة سمعـنا صوت طلقتين من مدفع رشاش وشاهدنا عربة مدرعة تسير بجانب السور السلك المجاور للألغام فنزلتُ حفرة دفاع وفككتُ أمان البندقية وسادت حالة هرج ومرج بين الجنود المحيطين بي ، فقد كانوا جنودَ استطلاع ومعهم أجهزة بصرية ولاشأن لهم بمدافع أو مدرعات ، وكانت هذه العربة المجنزرة تسير في هدوء مشبوه00 حقا إنها كانت عربة نصر صفراء مدرعة ولكنها مريبة !! ووقفت العربة وتوجه إليها ضابطٌ وبعضُ الجنود ، وتحدث الضابط إلى ضابط كان بداخلها وسأله :
- هل أطلقتم هاتين الطلقتين ؟
- نعم 00لأننا شككنا في عربة جيب فإذا هربت نطاردها ..
وفعلا كنا شاهدنا عربة الجيب.. ثم تحركت المدرعة حتى وصلت تبة قريبة ثم عادت فسأل الجنود الضابط :
- هل شاهدت كارنيه ذلك الضابط ؟
- لا 0 لم أشاهده 0 ولكني سأفعل ..
فوقفنا أمام المدرعة وتقدم الضابط وسأل :
- هل معك كرنيه؟
- معـــي ...
أخرج من جيبه كرنيها بينما وقف جنديان فوق المدرعة يتظاهر أحدهما بتراخ مصطنع بينما يده على مقبض الرشاش المثبت فوق المدرعة ويستطيع حصدنا في الحال 00 بينما أخرج الجندي الثاني علبة سجائر مصرية وتعمد أن نراها 00 ثم تحركت العربة ونحن في حيرة من أمرنا !! الصورة مختلطة تماما 00
وفي يوم 22/10 ضرب الطيرانُ السرية الثالثة المجاورة لي وكانت 100مم دفاع جوي ضربا مباشرا 00 وحوالي الساعة الخامسة سمعت ضوضاء أتية من ناحية الغرب ظننتها دباباتٍ مصرية قادمة من القاهرة 00 شاهدت هذه الدبابات تطلق مدافعها وهي متقدمة 00 ومرت القذائف من فوق رأسي متجهة إلى قواتنا في الشرق ، ولاحظنا أن كواشف طلقات رشاشات هذه الدبابات بنفسجية بينما كواشف السلاح الروسي حمراء فأيقنت تماما أنها دبابات أمريكية تستخدمها اسرائيل 00
أخذت بطانية وزمزمية والبندقية وشنطة الذخيرة ونزلت حفرة دفاع عميقة فلا سبيل لي إلى مواجهة دبابة ، بل وترسب في نفسي الوهم أني هالك لا محالة تحت الجنازير الأمريكية الثقيلة 00 فخرجت من الحفرة وجريت بأقصى سرعة والطلقات تملأ الجو من حولي ولكنها كانت مرتفعة 0 نزلت خندق مواصلات عميقاً كان يصل بين التبة وترعة الاسماعيلية حيث قابلت بعض الجنود وأخبروني أن اليهود يقتلون كل من يجدونه في طريقهم وأنهم لا يأسرون سوى المدنيين 00 ولكن أحدهم قال لي إن أحد الضباط أخبره أن هذه دبابات هاربة وتحاول العبور والعودة قبل وقف إطلاق النار حتى لا نأسرها بمن فيها وتهلل وجهنا بشرا وسرورا لهذه المعلومات لأن الإنسان أحيانا يصدق ما يميل مع هواه 00
وفي الساعة السابعة سمعنا عن وقف إطلاق النار ورجعت إلى المبيت وأنا في أسعد حال حيث انتهت الحرب ونحن والحمد لله عبرنا وثأرنا وأسقطنا الفانتوم المرعب وإن كانت أحداث الأيام الأخيرة تحاول ان تنغص عليّ أفكاري0 خلعت الأوفرول ولبست البيجاما الميري وولعت اللمبة وتخيلت ابنتي سامية تنط الحبل أمام الملجأ 00 قررت أن أتخيل أنني في البلد - سخنت علبة أرز باللحم المفروم وعلبة مكرونة وعلبة فاصوليا بها قطعة لحم وعلبة بلوبيف وتناولت وجبة ممتازة ثم شربت كوبا من اللبن وبعده كوبا من الشاي وفتحت علبة سجائر 00 وبعد أن كانت البندقية في يدي باستمرار استعـدادا للدفاع عن النفس ضد الكوماندوز وضعـتها إلى جواري ولم أعد أخشى إلا ذئاب الجبل؛ولذلك وضعت بضع صفائح فارغة فوق بعضها البعض حتى إذا أوقعها الذئب انتبهت إليه وأفرغت فيه خازنة بأكملها00
نمت هذه الليلة هادئ البال ولم أكن أعلم أن الحال سيكون غير الحال 00 أصبح الصباح فاستيقظت وأزحت الصفائح من على باب الملجأ وسمعت صوت خنزير يمر فوق التبة تماما من جانب موقعي وظننت أنها مجنزرة أتت لسحب ما بقي من مدافع س3 فخرجت لتوديعهم قبل رحيلهم وهرعت إليهم بالبيجاما والصندل فلا وقت لارتداء الزي العسكري؛ كنت أريد أن أساعدهم في تجهيز مدافعهم للتحرك 000
مشيت حتى اقتربت وأنا شبه نائم أو قل شبه متيقظ فشاهدت الجنود فوق المجنزرة شعورهم طويلة ودققت النظر إلى أوفرولاتهم فإذا هي خضراء وبنصف كم !! تنبهت تماما 00 هذه مجنزرة إسرائيلية هاربة وواجبي أن أتعامل معها 00 هذا ما يمليه علي ضميري 00 رجعت وأحضرت البندقية ودمي يغلي وتوكلت على الله وأطلقت الرصاص 00 هم مشاة وعددهم ستة وأنا مدفعجي ووسطهم مدفع رشاش مثبت على المجنزرة ومع هذا أطلقت الرصاص عليهم 00 وقبل نفاذ الذخيرة التي بالخزنة لمحت دبابة يتقدمها مدفع 105مم تصعد من الجهة المقابلة فقفزت من أعلى التبة وتدحرجت حتى وصلت الأرض ونهضت مسرعا إلى الخندق، رأيت بعض جنودنا وفي أيديهم أسلحة صغيرة مثلي ، وفاجأني أحدهم :
- أين كنت الليل الفائت ؟..
- كنت نائما !..
- نائما في أية داهية ؟ هل أنت الذي ضربت منذ قليل ؟ ألم تسمع مكبرات الصوت التي تنادي طول الليل : سلم نفسك !!
- لست جبانا 00 لقد واجهتهم بخازنة كاملة ...
- من أدراك أن تصرفك صواب ؟ هل تلقيت أوامر من أحد ؟!
- وكيف نتلقى هذه الأوامر ونحن في هذا الوضع الغريب ؟! فلنتصرف من تلقاء أنفسنا !
- ربما تكون هناك خطة لا نعلمها والأفضل أن نلتزم الصمت والحذر ولو مؤقتا 00
ألقيت نظرة على الضفة الشرقية فوجدتها هادئة ؛ فقررت أن أعدو باتجاهها00
كنت أعرف من وصف السائقين مكان سريتنا وآليت على نفسي أن أنضم إليها لنكون يدا واحدة بدلا من تشتتي هذا0 لابد من عبور القناة مهما حدث 00 ثمة كباري وسترات للعوم أعبر بها ببساطة ، وبالفعل عبرت حقل ألغام من أقرب ثغرة ، وفي إحداها وجدت بندقية نصف آلية ملقاة على الأرض وبعض البيادات وكان معنى هذا واضحا؛ فواصلت العدو بسرعة ، وكانت دبابة باتون تصعد التبة من جهة الغرب وتعمل بكل مدافعها فنزلت من ناحية الجنوب بينما وصلت الدبابة إلى أعلى التبة 00
جريت واثنان غيري 00 ومدفع الدبابة الضخم يصوب علينا ونرى نزول الدانات على الأرض وانفجارها ولا نصاب، بل على قيد الحياة نبقى ، وجدنا حفرة عميقة نزلنا فيها والمدفع يتحرك إلى اتجاهنا ، ولو استعملوا رشاشا نصف بوصة لاختلف الأمر 00 وكان في الحفرة بعض قنابل الدخان ونحن وسطها فقال أحد الجنديين لزميله : ألا تريد أن تدخن لك قنبلة؟ويبدو أن جندي الدبابة قد ظن أننا متنا فلم يتابعنا بعد ذلك 0وعند الظهر هدأ الجو تماما وجاء الليل فقررنا الموت جوعا وعطشا أفضل من مرور جنازير الدبابات فوق عظامنا !00 ولكن ذئاب الجوع عندما عوت في بطوننا عصر اليوم التالي قرر أحدنا الذهاب إلى السويس بينما قررت أنا العودة إلى موقعي الأصلي الذي به ثلاث صفائح مياه ، 85 علبة خضار ولحم فضلا عن الراديو ودستة حجارة وقلت :
- عن طريق جهاز الراديو سأقف على حقيقة الوضع وأتدبر أمري على مهل 0
كان لابد من خروجنا بحلول الظلام 0 شاهدت دبابة تتحرك وتقف في الطريق الذي سنمر منه بين تبة مرتفعة وحقل ألغام فغيرت رأيي وقلت : سأتجه أنا الآخر إلى السويس00
خرجنا 000 وزحفنا حتى نزلنا خندق مواصلات يصل إلى السكة الحديد التي تربط بين السويس والاسماعيلية ، ووصلنا إلى قرية صغيرة على ترعة الاسماعيلية حيث وجدنا حقل ذرة فأكلنا بعض الحبات الطرية الخضراء ، وقال صبري :
- لو كان يمكن لأعواد الذرة أن تُـمَص مثل أعوادالقصب ؟!
شربنا من ترعة الاسماعيلية وابتعد عنا شبح الجوع إلى حين 00 مشينا في اتجاه قناة السويس على شاطئ الترعة وسط ظلام دامس ونحن لا نعرف ماذا أمامنا !! واصلنا السير ومواسير بنادقنا تتقدمنا فربما نضطر للاشتباك مع العدو وإن كنت قد تعهدت لمن معي ألا أبدأ بالضرب إلا إذا كان ذلك هو رأيهما أيضا 00 واتفقنا أن نسير على الجانب الغربي للترعة عندما رأينا أحد الكباري عسانا نستطيع أن نختفي إذا واجهتنا قوة معادية كبيرة 00 وعلى حين غرة دوى انفجار كبير 00 لاشك أنه صادر عن مدفع دبابة وكانت تضرب مشعلا مضيئا وليس بيننا وبينها سوى مائتي متر فارتمينا على الأرض حتى هدأ نور المشعل واتفقنا على الرجوع !! لقد كنا نتجه قطعا نحو الدبابة ولا نراها 00 رجعنا واقتربنا من قرية رأينا بها جذوعَ نخلٍ متوهجة كانت سقيفة لأحد المنازل 00 تقدمنا وتوغلنا بين البيوت المتهدمة فشممنا رائحة لا تطاق ! رائحة الإنسان عندما تبتعـد عنه الحياة بمسافة أيام !! رجعنا ولم نستطع التقدم، وعثرنا في أحد الملاجئ على ثلاثة بطاطين كانت تمثل لنا ثروة كبيرة ؛ حيث تحجب عنا برد الليل 0 وأصبح الصباح عندما تنفس اليوم الخامس والعشرون من أكتوبر فإذا بنا تماما تحت التبة 32 وفوقها موقع للعدو، ومع هذا خرج زميلاي إلى حقول الذرة فاضطررت للذهاب معهما ، ودخلنا قرية بها عدة منازل ، وصعدنا التبة المجاورة ، وتلفتنا فرأينا جنديا مصريا يجري وهو مصاب بعدة طلقات في كتفه وساقيه ، وعلمنا أن اليهود يقتلون كل من يجدونه في الملاجئ حتى ولو كان أعزل ؛ فقررت أن أترك الاثنين الذين يتصرفان دون روية واخترت طريقي 00
كان ثمة قناة جافة تخرج من أحد الحقول وتمتد في الصحراء ، عميقة وبها هيش طويل ، فنزلت في هذا الهيش ، وكان معي زمزمية ماء وكوزان من الذرة ، وتحركت بسرعة حتى عثرت على مكان يخفيني تماما 0 قامت الدبابات بحصد المصريين الموجودين في حقول الذرة بلا رحمة ؛ إلا أن بعض الأفراد تمكنوا من النجاة ومنهم صبري شاهين أحد الجنديين السابقين وكانوا جميعا ينوون التوجه غربا في اتجاه القاهرة عبر الصحراء 0 ما إن انطلقوا إلى حيث يريدون حتى فتحت عليهم نيران كثيفة فحصدت معظمهم ، لكن صبري تمكن من النجاة واستطاع أن يعود إلى البلد ، وعندما علم أهل زوجتي بمجيئه وقال لهم إنه قابلني وحكى لهم أحد المواقف التي تعرضنا لها 00 أيقنوا أني انتهيت0
قطفت عشرة كيزان ذرة وملأت زمزمية ماء وقررت العودة إلى موقعي الأصلي 0 إذا لم تخني الذاكرة فإن به ثلاث صفائح ماء وخمسة وثمانون علبة خضار وكمية كبيرة من الذخيرة 0 والراديو ودستة حجارة وكل ما أحتاج إليه لأطول فترة ممكنة حتى أتدبر أمري على مهل !! وكان الموقع الأصلي يبعد عن هنا أربعة أو خمسة كيلو مترات0
بحلول المساء { 26 / 10 } نزلت إلى خندق مواصلات عميق ليوصلني إلى ما تحت التبة التي بها موقعي مباشرة0 أخذت أتحرك في حذر شديد حتى قطعت مسافة كبيرة وها أنذا الآن لا تفصلني سوى أقل من ساعة عن المكان الذي أقصده ، وهذا صوت راديو ينبعث في هدأة الليل 0 الكلام ليس لغتنا وليس لغة أوروبية أعرفها 0 إنها العبرية إذن 0 كان صوت الراديو في هذه اللحظة أشبه بخنجر مسموم يغوص في جرح قديم ! تسمرت مكاني 0 تواريت قدر المستطاع حتى سمعت موتور دبابة يدور وتحركت هذه الداهية بجوار التبة 32 0 كانت تقف بين الخندق وحقل الألغام وأشهد الله أني تمنيت في هذه اللحظة لو كان معي ما أفجرها به وأموت لفعلت 0
نحن الآن صباح عيد الفطر وبدلا من الكعك والبسكويت كان معي بضع حبات من الذرة ما تزال مرشوقة في الكولحة ، أما زمزمية الماء فخاوية 0 نزلت الخندق الأخير في تمام الساعة الواحدة بعد نصف الليل - لأن يوم العيد لم يحدث فيه تقدم يذكر - وجدت نفسي في منطقة غريبة كل الغرابة ؛ فقررت وقف هذه المهزلة فقد ضللت الطريق ولابد من قضاء النهار هنا لأحدد مكاني ثم في الليل أنطلق ، ومعنى ذلك قضاء يوم بأكمله بلا ماء ولا زاد 0 وبالفعل عرفت في النور أين أنا ، وعند الظهر شعرت بالضعف يدب في أوصالي بشكل مخيف 0 إنه الموت البطيء يقترب مني ولكن قربي من موقعي أعطاني الأمل 0 حوالي الساعة الثانية بعد الظهر مرت دبابتان بجواري تماما 0 وتوقعت أنهما تمشطان المنطقة بحثا عن صيد تقضيان عليه ؛ فانتابني تيقظ شديد وصحوة هائلة لكنهما لم ترياني 0 عند الغروب سمعت هدير مجنزرتين تسيران بين الخندق الذي أنا فيه وحقل الألغام ، وكانت هناك عبارة هامة تلاحقني :
- لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآني !
وفيها إشارة إلى موقف ديني عظيم 0 كنت أتحصن بهذه الجملة الخالدة 0 القصد: كان على المجنزرة الواحدة صفان من الجنود يضعون أيديهم على أرجلهم مثل التلاميذ المؤدبين 0 كنت أراقبهم من فتحة صغيرة جدا تكفي عيني أو ماسورة البندقية 0 كنت واثقا أنني لو أستطيع أن أنشن على هؤلاء وأحصدهم بدقة لفعلت ، لكن الصحوة التي في روحي لا تمنع يدي من الارتعاد ؛ لعدم وجود الزاد وللعطش الذي يكوي الفؤاد 0 ثم إن زميلي الذين افتقدتهما حذراني أن أتصرف منفردا 0 عندما خيم الظلام بدأت أزحف 0 لم يكن الزحف بسيطا هذه المرة بسبب وجود كشاف ضخم كثيراً ما يمسح المنطقة فإذا سطع نوره تجمدت مكاني وأحسست بالضعف الشديد 0 حتى البندقية لم أعد أقدر على حملها 0 وضعـتها على كتفي أولا ثم علقتها متقاطعة على ظهري حتى لا تسقط ، ومع هذا فلا تعجبوا إذا قلت لكم إنني انتفضت ومشيت على وجه الأرض وليحدث مايحدث! 0 كانت أرض بلادي تناديني وتجذبني إليها جذبا 0 لو وضعت جسدي عليها لرحت في إغفاءة قد لا أصحو منها أبدا في هذه الحياة الدنيا 0 لفت نظري أماكن مبيت كثيرة ، اتجهت إليها وفتشتها 0 عثرت على جركن أبيض مليء حتى آخره بالماء فجلست بجانبه وتحسست جسده الجميل 0 يا لك من تكوين خلاق سيعيد إليّ الحياة ! لكني لن أشرب كثيرا كي لا أموت 0 عثرت على علب بقسماط أكلت منها بعض الأعواد 0 شربت وأسلمت نفسي للنوم على الأرض ناسيا أن أتغطى 0
في الصباح وجدت نفسي بين علب بقسماط كثيرة وقنبلة يدوية حمدت الله أن يدي الطائشة في الظلام لم تمس حلقتها 0 لاحظت ثغرة يمكنني المرور منها عندما أواصل الرحيل0 شاهدت في هذا اليوم أنواعا من العربات بعضها بثلاث عجلات ، موتوسيكلات فوقها مظلة في منتهى الجمال ، وأتوبيسات فخمة وعربات مدرعة 0 بعد أن انتهيت من دراسة ما حولي رحت أفتش في هذه الملاجئ 0 عثرت على خازنات من الصاج أفضل من التي معي لأن التي معي فبر وعرضة للكسر 0 قمت بتنظيف البندقية تماما وملأت ثلاث خازنات بذخيرة جديدة وواصلت البحث 0 عثرت على علبة فلفل أسود وكرتونة بقسماط ومخلاة أخذت منها مهمات جديدة كأغيرة لي 0 والجركن والبندقية وبضعة أكياس ذخيرة 0 بحلول الظلام بدأت في تحويل هذه الأشياء إلى مخزن ذخيرة كنا نحن قد حفرناه في بطن تبة وأمامه كومة رمال، والحقيقة أننا كنا نجد صعوبة لنتعرف على مكانه في الأيام العادية فارتحت لهذا المكان ووضعت به كل هذه الأشياء 0 تركت كل شئ ماعدا البندقية وخازنتين خوفا من الذئاب ، وزحفت إلى الكنز الذي يتعلق أملي به 0 كنت أربط بطانية في سقف بابه فدخلت وأسدلت هذه البطانية وولعت لمبة الجاز وبحثت أولا عن الراديو فلم أجده 0 وجدت الحجارة فقط 0 نظرت إلى صفائح الماء فوجدتها مقلوبة كلها فأحسست بالفجيعة 0 فتشت عن الطعام فوجدته كما تركته 0 كاملا 0 ثلاثة وثمانون علبة طعام وكمية كبيرة من البقسماط وأكثر من مئة قرص وقود وثلاثون علبة كبريت وأربع بطاطين جديدة 0 كانت مهماتي كاملة 0 قمت بنقل كل هذا إلى مخزن الذخيرة في أقفاص وكراتين وأمسكت شيكارة فارغة طبقتها أربعا وكنست بها المخزن وفرشت ووضعت ثلاث قطع من الزلط ، في وسطهم وضعت قرصين من الوقود في هذا المخزن للإنارة 0 لا تقلقوا فلو أشعلت كلوبا في هذا المخزن ما رآه أحد 0 سخنت علبة فاصوليا خضراء بها قطعتا لحم 0 وعلبة مكرونة باللحم المفروم وعلبة أرز وعلبة بلوبيف وأكلت كل هذا بالهناء والشفاء 0 صنعت كوب شاي وفتحت علبة سجائر وأشعلت واحدة 0 خرجت وأحضرت عددا من الأقفاص التي كنت أحضر فيها الفاكهة من السويس ووضعتها بعضها فوق بعض ؛ فسددت باب المخزن وموهته لدرجة أنه لو حدث تفتيش دقيق جدا لن يتصور أخبثهم أن هنا أحدا 0
أكلت ، شربت، شبعت، حمدت الله ؛ فقد ابتعد عني شبح الموت جوعا على الأقل لمدة أسبوعين 0 فرشت بطانية 0 جعلت من المخلاة مخدة وتغطيت بثلاث بطاطين ونمت نوما عميقا وذهني صفحة بيضاء 0
أصبح اليوم قبل الأخير من أكتوبر فقمت مبكرا ونظرت في المرآة - كانت ضمن الموقع الأصلي وجلبتها - فوجدت أمامي منظرا مرعبا ؛ فشكلي أصبح مخيفا ومنفرا، طال شعري الأشعث وغارت عيناي 0 أحضرت معجونا معطرا من المخلاة وحلقت ذقني 0 غسلت وجهي وبللت شعري وسرحته ، غسلت وجهي بالكولونيا ؛ فعندي منها الكثير 0 فتحت علبة مربى وتناولت قطعتي جبن مثلثات وباكو بقسمات وكوب لبن مجفف وكوب شاي أعدتته على الأقراص 0 دخنت وقررت الراحة التامة لمدة يومين على الأقل قبل أن أبدأ و أفكر ماذا أفعل ، كل هذا وصوت الدبابات والمدرعات حول التبة من كل ناحية في حركة مستمرة ، والغريب أني كنت في غاية السعادة 0 أما العدو فلابد أن يغادر هذه الأرض وأنا واثق أن السادات يخطط ليوقعه في شر أعماله 0 لن يتركهم هكذا؛فهو أشد منهم دهاء وفطنة 0 يكفي أنه ضحك عليهم وخدعهم وعبر وفعل ما أراد 0 وإذا كنت أنا لا أستطيع بمفردي أن أواجههم فهل الجيش المصري الجبار لا يستطيع ؟ أنا متفائل وحريص على الحياة لكي أحتفل بالنصر0 صدقوني 0 بعد كل هذا الكفاح ضد الضياع أتمسك بالحياة لأشهد يوم انتصارنا ، وأشمت فيهم كما سبق وشعرت بالشماته في الفا نتوم اللعين 0 لكني أستحضر وجهه وأعاتبه فقد سمح لهم بالعبورإلى الغرب 0 أم خدعوه ؟
في الساعة الرابعة سخنت علبة خضار وأكلتها بالبقسماط وكانت كافية لإشباع فرد 0 بحلول الظلام شددت بعض الأقفاص إلى الداخل ودفعت بعضها إلى الخارج صنعت كوب شاي وأخذت البندقية وقلت أخرج لأستنشق الهواء وأتفرج على المعتدين عن كثب ؛ فالطائرات تحوم باستمرار وتلقي فوانيس جميلة تظل حوالي ربع ساعة ثم تلقي غيرها ،وثمة باعث ضخم قريب مني جدا يرسل ضوءه الجبار إلى مسافات بعيدة وماكينة كهرباء تعمل له خصيصا 0 صعدت على التبة زاحفا لأحدد الأماكن التي فيها إضاءة لأتجنبها ساعة أتحرك ليلا ، وفعلا حددت منطقة يسودها الظلام طوال الوقت ،وكنت أعرفها جيدا ، كانت مسطحة ومستوية 0
مر اليوم الخير من أكتوبر عاديا لا شئ فيه سوى الراحة، وبحلول الظلام كان اليومان اللذان حددتهما لراحتي قد انتهيا ؛ فتوكلت على الله وأخذت البندقية وبدأت الزحف نحو صهريج المياه ، وكنت أعرف أنه دائما مملوء بالماء ، وكان علي في هذه الليلة إحضار أكبر عدد ممكن من جراكن الماء 0 انتظرت حتى هدأت الفوانيس وانتصف الليل وزحفت على يدي وركبتي حتى وصلت إلى الصهريج فوجدته مقلوبا وجافا 0 تلقيت الصدمة بثبات ؛ فالترعة موجودة وسأصلها : لكني لكي لا أعود خالي الوفاض قررت البحث في ميس الضباط وملجأ قائد اللواء وملجا أركان حرب عسى أن أجد شيئا ينفعني في هذه المحنة 0
نزلت درجات سلم ملجأ القائد حتى وصلت إلى بابه وأشعلت عود ثقاب 0 وجدت أمامي مباشرة وتحت خطوتي التي كدت أخطوها جثة جندي مصري فاردا ذراعيه 0 وجهه على اليمين والطلقات لاشك نائمة في صدره 0 أشعلت عودا آخر 0 تبينت حوالي عشر جثث أخرى لابد أن أصحابها غادروا الحياة وهم يقاومون بضراوة 0 ربما أصابوا كثيرا من المعتدين ، لكن العدو يحرص على تجميع قتلاه 0 تعمدت عدم محاولة التعرف على هؤلاء فقد كنت أعرف كثيرا من الجنود في هذه المنطقة ولو تبينت ماهية أحدهم سيختل توازني وتفلت مني السيطرة على أعصابي .
دخلت أحد الملاجئ وكان به ثلاث غرف 0 وجدت لمبة جاز فأشعلتها بعد أن أغلقت الباب وركنت البندقية وفتشت الملجأ 0 عثرت على أكثر من سبع زمازم معظمها به أكثر من نصفه ماء 0 وأكثر من عشرين علبة خضار وأقراص فيتامين وبقسماط وعلب مربى ومرتبة ومخدة 0 جمعت كل هذا ، وحوالي الفجر كنت قد حولت ذلك كله إلى المخزن وسددت بابه وموهته ونمت حتى الصباح 0 ضاع أملي في المياه التي كانت في موقعي الأصلي وفي الصهريج ولم يبق سوى ثلث جركن ماء وعدد من الزمازم قليل ولذلك يتحتم إحضار ماء من ترعة الاسماعيلية بأي شكل 0
لم يكن ذلك سهلا 0 الزحف حوالي خمسة كيلو مترات والتجمد تماما عند إسقاط المشاعل ومع ذلك أخذت أحسبها :
ثلاثة أيام ذهاب وثلاثة أيام عودة تحتاج سبع علب خضار ، وماء يكفي الذهاب فقط وبطانيتين أتقي بهما برودة الصحراء ليلا 0 أدخلت ثماني زمازم في الحزام منها خمس فارغة وتركت زمزمية سعة اثنين وثلاثة أرباع لتر في المخزن فربما تسوء الحال وأضطر للعودة الأسيفة 0 وفي الساعة الرابعة أكلت ، ثم وضعت السبع علب خضار والثلاثة أمشاط كبريت والسبع أقراص وقود ، وملأت بقية شنطة كمامة فارغة بالبقسماط وملعـقة لآكل بها الخضار ، وتلفعت بالبطاطين ، ووضعت خازنتين في جيبي البنطلون ، وانتظرت حلول الظلام 0
إلى أن حل 0 خرجت والزمزميات في الحزام وشنطة على كتف والبندقية على كتف ، وتلفعت بالبطاطين وخرجت إلى الخندق 0 الأماكن العـميقة أمشي فيها قائما معتدلا ، والوسيطة أقطعها منحنيا ، والمرتفعة أزحفها زحفا 0 وضعت علامات أحدد بها المكان الذي أصعد منه عند العودة كي لا أضل الطريق 0 عند تفرع الخندق وضعت علامات تحدد طريقي بتقطيع وجه كمامات ومكتفات ووضعها بطريقة معينة ، واصلت التحرك ومن ثم السكون التام لدى ظهور المشاعل 0 عند الفجر انتابني التعـب ؛ فتخيرت جزءا من الخندق به أغطية سويتها ووضعت شيكارة رمل كمخدة وتغطيت بالبطاطين ورحت في النوم حتى الصباح فقمت واستطلعت المكان ؛ فإذا بي بجوار سلك حقل الألغام وتماما في مواجهة قاعدة الصواريخ المحتلة ، وبيني وبينها الحقل والطريق فقط 0
في الساعة الرابعة أكلت ثم وضعت علبة خضار سليمة وقرص وقود وفتاحة على جانب الخندق وذلك لحين العودة حيث أنتويت أن أقضي ليلة هنا لو كان لي عمر وعدت فأجد طعام ذلك اليوم 0 بحلول الظلام خرجت وواصلت الرحيل ، ووصلت إلى برج خرساني 0
نمت حتى الصباح 0 استيقظت وعاينت المكان ، واستحسنت الإقامة في هذا البرج 0 الساعة الرابعة أكلت علبة خضار وتركت أخرى سليمة وقرص وقود وفتاحة وعلبة بقسماط للعودة 0 بحلول الظلام خرجت إلى الخندق وواصلت المشي والزحف تجاه الترعة حتى وصلت ذلك الموضع الذي اندفعت فيه الدبابة ، وكنت قد قضيت فيه ليلة كاملة بجانبها وعندما تنبهت لم أصدق أني ما زلت حيا 0 المهم أنني وجدت بطانية كنت قد تركتها في ذلك المكان في تلك الليلة المشئومة 0 ونمت 00
في اليوم التالي 4نوفمبر لاحظت أن الجنود الاسرائيلين من مواقعهم المتباعدة يتبادلون الإشارات بطلقات النصف بوصة كالتلغراف 0 الساعة الرابعة سخنت علبة خضار وأكلت ، وبحلول الظلام واصلت التحرك تجاه الترعة حتى وصلت إلى مخزن القنابل الذي اختبأنا فيه يوم 23/10 وكذلك 26/10 0 قضيت بقية الليل ، وجاء يوم خمسة نوفمبر فاستطلعت ما حولي ، وكان هذا هو اليوم الفاصل ؛ فبعده سأدخل القرية إلى الترعة مباشرة 0 أكلت وشبعت ولم أترك شيئا لأني سأحضر ماء وطعاما من القرية والملاجئ المجاورة لترعة الاسماعيلية 0 بحلول المساء خرجت من هذا المخزن 0 ماذا كان معي ؟ أقول لكم:
ثماني زمزميات فارغة في الحزام فضلا عن البندقية ، وخازنتان في جيبي البنطلون ؛ و كان يتحتم على المرور من خط معين أدخل منه إلى القرية وعلى جانبيه توجد مواقع معادية لو انحرفت يمينا أو يسارا سأقترب من أحدها 00 هانت 00 ليس أمامي سوى ثلاثمائة متر فقط لكني لمحت راكية نار ضخمة تحت تبة سوداء قريبة من الخندق ، كان لابد من المرور بجوار هذه الراكية 0 جلست أنتظر أن تطفأ وفكرت في أمرها 00 بقيت أكثر من ساعة أفكر في أمر هذه النار 00 أخيرا كان لابد أن أتقدم فلا سبيل إلى العودة ؛ فالماء قد انتهى والعودة إلى أين ؟ تقدمت والبندقية تتقدمني ، قبل أن أدرك هذه النار بقليل انطفأت0 جلست على الأرض تجاه مكانها أتنصت فلم أجد إلا الصمت المطبق 00 حتى الآن لم أعرف سر هذه النار 00 ولا أظنني سأعرف 00
تقدمت ، وعبرت السكة الحديد ، دخلت القرية في وقت متأخر من الليل0 كان المنظر مخيفا 00 منازل متهدمة وجثث متعفنة 00 الوحشة تسري مع هواء الأسحار ، تحوم حواليك قبل أن تتغلغل داخلك !! ها هو الضيق ينتابك والطيور السوداء ترفرف حول قلبك حتى تكاد تختنق 00 تخيلت سامية ابنتي نائمة الآن في حضن أمها فتحدثت إليهما أشكو غربتي وحيرتي وأقول : انظرا ما فعله الأعداء بجنودنا في الثغرة المشئومة 00 وكذلك بمن تبقى في القرية من مدنيين أشم الآن رائحة تحلل أجسادهم وأتخيل أناسا أخاطبهم وأحذرهم :
- إياكم أن تنسوا !!
فتشت في الملاجئ حتى عثرت على جركن جديد وبعض الزمزميات ، بكل هدوء نزلت إلى الترعة من مكان مناسب ، ملأت الجراكن ، وكل هذه الزمزميات بقللت بالماء ورصصتها في أحد الملاجئ كنت أحولها في قفص ،وضعت الجركن في جاكتة أوفرول بزنط حتى لا يظهر لونه الأبيض في الليل 0 ملأت الحزام بثماني زمزميات كبيرة واثنتين صغيرتين ، جمعت عددا من علب الخضار وأقراص الوقود ،و بقسماطا كثيرا ، وضعت ذلك في شنطة كمامة أخرى ، وعلقت الشنطتين على كتفي الأيسر،والجركن في يدي اليسرى بينما يمناي تقبض على البندقية ؛ فبالإضافة إلى الذئاب ثمة أعداد كبيرة من كلاب متوحشة أو قل صارت متوحشة بعد أن أكلت مالا أريد أن أقول!! ولولا أنها دائمة النباح لكشفتني إذا كانت تعوي بسبب وبدون سبب !00
كان الحمل ثقيلا ولكنه أملي في النجاة !00
اجتزت القرية وخرجت إلى الصحراء حاملا كل هذا ..
أجلس وأتحرك حتى وصلت إلى مخزن القنابل وتنفست الصعداء .. رصصت أمامي عشر زمزميات صغيرة وزمزمية كبيرة ،و جركن ماء مملوءاً،و عددا من علب الخضار لم أعبأ بها فعندي منها الكثير 00 وصلت إلى مكان ظننته آمنا ، وقررت الاحتفال بهذا الإنجاز الرائع بوجبة فخمة إضافية ؛ لأنني في الأيام الخيرة كنت أتناول وجبة واحدة يوميا ..
ونمت راضيا عن نفسي 00
صحوت صباح السادس من نوفمبر وقد قضيت ليلة ما كان أشدها إرهاقا لي في أولها وأسعدها لي في آخرها 00 صحوت على صوت جنزير دبابة يمر بجانب المخزن من جهة الشرق فلم أعره اهتماما لكن بعد حوالي نصف ساعة شاهدت دخانا كثيفا يتجه إلى داخل المخزن ورائحة كاوتشوك يحترق 00 مما زاد الأمر خطورة أن عربة معادية ظهرت قادمة بسرعة وفرملت أمام المخزن المجاور للذي أنا فيه وقفز منها حوالي ستة جنود وجدوا إحدى قنابل الدخان تماما كالتي عندي في المخزن وفجرها أحدهم فأخذ الدخان يخرج منها بغزارة ، لو دقق أحدهم النظر فيما حوله للفت نظره المخزن الذي أنا فيه ، وفي الحال قفزت إلى ذهني العبارة الخالدة :
- لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنى !!
فككت أمان البندقية واستأنست الخوف تماما 0 انتظرت أن يتجهوا نحوي فأظهر أمامهم فجأة فاتحا عليهم نيرانا كثيفة وأشفي غليلي منهم 00 وركبوا السيارة فلم يعمل الموتور فنزلوا ثانية ودفعوها حتى دارت فركبوا مسرعين واتجهوا نحو التبة 32 0
هل كان الواجب يقتضي أن أخرج إليهم وأتعامل معهم بمعنى أن أقتلهم وأقتل ؟ لقد كنت في هذه الآونة أتمسك بتلابيب الحياة وأثق أنهم مطرودون مطرودون 00 من أدراني فربما تتاح لي فرصة لأقتل منهم ما تطاله بندقيتي وفي نفس الوقت أعيش 00 يا رب 00 ليس كثيرا على أن أعيش حتى أرى فيهم يوما كالذي رأيته في الفانتوم اللعين!
مع هذا فإنهم سيأتون 00 لقد ذهبوا لإحضار عربات للاستيلاء على القنابل الموجودة بالمخزن ، لاشك أن المخزن الذي أنا فيه هو الخطوة التالية والمواجهة أكيدة فلم العجلة ؟! المواجهة أكيدة ومن المحال أن أكون صيدا سهلا لهم 00 وأخذت أنتظر 00 مرت ساعة وساعتان وثلاث ولم يعودوا 00 وفي الساعة الرابعة سخنت علبة خضار وأكلت0 وبدأت أستعد لمغادرة هذا المكان بأن أضع الزمازم الثمانية في الحزام والشنطة التي بها الزمازم على كتف،و الجركن في اليد اليسرى 00 وهكذا 00 وبحلول الظلام ، وبقوة خرافية عبرت الطريق ومشيت بمحاذاة حقل الألغام ونزلت إلى الخندق 00 ما أن نزلت إلى الخندق حتى عجزت تماما عن التحرك بهذا الحمل فقد كانت البطاطين على رقبتي ومع انحنائي تعرقل سيري 00 لقد كنت أجري بكل ذلك وأنا أستشعر الخطر 00 أما في الطمأنينة فالأمر يختلف 00 وضعتها على أرضية الخندق ثم تحركت بالجركن فقط ، ووضعته على مسافة ثم عدت إلى المكان الذي أضع فيه علبة الخضار 00 وكان هذا إنجازا ضخما 00 أسلمت نفسي للنوم 00
وفي الصباح استطلعت المكان من حولي ، كان كل شئ على ما هو عليه : الدبابات فوق التبة 32 وعند سفحها من ناحية الجنوب والمنطقة هادئة في هذا المكان ،و قررت الإقامة في البرج الخرساني لأن له منفذين إذا هوجمت من أحدهما أخرج من الآخر ،و له ثلاث عيون سددتها بالشكائر وتركت فتحة صغيرة تكفي لإخراج ماسورة البندقية وظللت طوال اليوم أسمع وأرى 00 والحقيقة تمويه هذا البرج كان رائعا 00 في الساعة الرابعة سخنت علبة الخضار التي كنت قد تركتها وأكلت وبحلول الظلام تحركت هذه المرة بالزمزميات والبطاطين والبندقية وتركت الجركن وواصلت حتى وصلت إلى البرج الخرساني ، ثم خارت قواي فلم أستطع الرجوع لإحضار الجركن 00 ونمت حتى الصباح 00
ظللت نهار 8/11 أراقب التحركات الإسرائيلية ، وفي الساعة الرابعة سخنت علبة الخضار التي تركتها وأكلت ، وبحلول الظلام قررت إحضار الجركن 00 وفعلا أحضرته ..
في هذه الليلة رأيت أن أكمل البقية المتبقية من الليل في مكان أستطيع منه مراقبة موقعي الأصلي خوفا من أن يكون العدو قد أحتله فأدخل عليهم ليلا 00 وفعلا أخذت زمزمية ماء وعلبة خضار وقرص وقود وعلبة كبريت وفتاحة وبطانيتين لقضاء يوم إضافي في مراقبة الموقع من زاوية أخرى ، وحددت تبة قريبة وتوجهت إليها في الهزيع الأخير من الليل ، وفوجئت بمجموعة من الكلاب تقترب مني شيئا فشيئا حتى صرت أراها وأستطيع أن أحدد عددها الذي يزيد على خمسة وعشرين كلباً 00 كان يتقدمهم كلب ضخم ؛ فأمسكت حجرا وقذفته ، ثم حجرا آخر وخرجت من الخندق والكلاب تزفني ! وصلت إلى الموقع الذي حددته وساقاي تهتزان 0
أشعلت بضعة أعواد من الثقاب ولكني لم أجد شيئا ذا قيمة 00 انتظرت حوالي ساعة 00 لابد من خروجي إلى مكان أستطيع منه مراقبة موقعي الأصلي0 خرجت مندفعا لأطارد أحد الكلاب المتبقية فقذفته بحجر ثم وضعت ثلاث شكائر رمل على باب الموقع بحيث لا يرى من يمر أمامه ما بأرضيته،ووضعت علبة الخضار ،و البقسماط والبندقية والخازنتين ، ونمت هذه الليلة وأنا لا أعرف أن قذف الحجر أثناء الليل سيجلب لي مصائب أثناء النهار !00 أصبح صباح 9/11 وعند أول ضوء فوجئت بعربة صغيرة تقف أمام الملجأ الذي أنا فيه 00 نزل أربعة جنود في يد كل منهم بندقية وكانوا يتلفتون يمينا وشمالا بذعر شديد،وراحوا ينظرون داخل الملاجئ 00 { كان بالموقع أكثر من عشرين ملجأ } 00 فككت أمان البندقية وتخلصت من الخوف وانتظرت دخولهم بعد أن فتشوا الملجأ الذي بجانبي،وصوب أحدهم بندقيته نحو برج مراقبة خال وضرب عليه طلقتين ثم قفزوا جميعا إلى عربتهم وعادوا من حيث أتوا0
لمت نفسي لأني لم أطلق عليهم النار 00 ولكنني بررت موقفي بنفس التبريرات التي لا تقنعني أنا لو تأماتها في ظروف عادية،والتي حدثتك عنها فيما سبق00 في تمام الساعة الرابعة تناولت طعامي المعتاد 00 في الليل كرهت القمر كراهية لها ما يبررها ؛ فالمواقع المعادية قريبة جدا مني والقمر ساطع يتألق كأنه يعتقد أنه يمتعنا بضيائه وماذا أفعل ولابد من الخروج 00 استأنفت الزحف حتى وصلت إلى الخندق ونزلت حتى المكان الذي تركت فيه علبة الخضار ، ونظرت إلى الساعة فلم أجدها في يدي وكانت ميزان حياتي 00 فتشت عنها بالخندق كنسا بكلتا يدي حتى يئست 0 تنبهت إلى ما أنا فيه فلابد من إحضار حاجياتي بأكملها هذه الليلة من مخزن الذخيرة 00 وصلت فعلاً وعبأت كل شئ في مخلاة 00 أكثر من مائة علبة خضار وخمسين علبة كبريت وأكثر من مائة قرص وقود وعشرات الفتاحات الجديدة وعلب جبن مثلثات ،و سردين محفوظ ،و بواكي عجوة وكرتونة بقسماط كاملة ،و ثلاث ملاعق صغيرة ،و إبرة خياطة ،و عدة حلاقة ،و زجاجات كولونيا ،و شيكارة ذخيرة وزمزمية الماء التي تركتها 00 وجهزت عشاء فخما وأكلت ثم شربت كوبا من الشاي كبيراً 00 جمعت كل شئ في مخلاة جديدة وكرتونة وقفص وبدأت في ترحيلها إلى الخندق على مراحل وبجهد جهيد وصلت بكل هذه الأشياء إلى المحطة الأولى وحزني شديد لفقد الساعة 0
في الصباح كدت أطير من الفرح 000
لقد وجدت فقيدتي ملقاة عند أول الخندق ؛ ففرحت بعودتها سالمة إلى معصمي 0 وبقدوم الليل بدأت في تحويل كل هذه الأشياء إلى البرج الخرساني 00 قضيت اليوم في مراقبة ما حولي ، ونمت مبكرا 00
استيقظت فجر 12/11 ، وفي همة ونشاط قمت بتحصين البرج ؛ بوضع شكائر رملية حوله ، وقمت بترتيب أشيائي .
لاحظت أني أعيش في عالم آخر 0 في زنزانة عجيبة أو سجن انفرادي غريب 0 منذ كم من الأيام لم أكلم أحدا من الناس ، ولم ينطق لساني حرفا واحدا ؟ 0 في تمام الرابعة كالعادة سخنت علبة خضار وأكلت ثم قلت أتحدث إلى نفسي قليلا لأسمع صوتي :
كيف حالك يا فؤاد يا خضر ؟ لعلك بخير ! أما زلت على قيد الحياة ؟ هل تحس للحياة طعـما ؟ أما كان الأجدر بك أن تقتل منهم ولو جنديا واحدا وليكن ما يكون؟! أنت الآن كالمحكوم عليه بالإعدام لكنها مسألة وقت 0 هل أنت واثق أن الحكم لم ينفذ بعد ؟ كل الثقة فأنا انتهيت لتوي من الأكل وأقوم الآن بإعداد الشاي وفي يدي علبة سجائر هل لك في سيجارة ؟
اكتفيت بهذا الحوار المسموع واطمأننت أن صوتي مازال كما تركته منذ أسبوعين تقريبا !
صباح اليوم التالي فتحت ثلاث فتحات في الشكائر التي أموه بها البرج ، وكان أن انبثقت في رأسي فكرة تحفزني لدخول قرية الشلوفة والعيش مع من فيها 00
كان لي أصدقاء في هذه القرية : صاحب محل بقالة ،و صاحب مطعم متواضع جدا كان بيته منعزلا وأمامه مصطبة فجهزت له هدية أدخل بها عليه : فانلة صوف جديدة تماما ، زجاجة كولونيا ، خرطوشة سجائر ، دستة أمواس حلاقة ، علبتان كبيرتان من مربى التين .. لم أنس أن آخذ زمزميتين وعلب خضار وأربعة أقراص وقود فربما ساء الحال. من يدري ؟ وفي تمام الساعة ال { كما تعرفون ! } سخنت ما تعرفون ثم أكلت 0 لم أخرج في أول الليل بل انتظرت حتى تمام الحادية عشرة وحمدت الله الذي سلبني الراديو أن أعاد إلي الساعة الضائعة 00 ماذا كنت سأفعل بدونها ! 0 نزلت إلى الخندق ومشيت باطمئنان هذه المرة وقد علقت على كل كتف شنطة ، وخازنتان في جيبي البنطلون ،و علقت السونكي في الحزام 0 وصلت إلى السكة الحديد واجتزتها 0 تخيرت مكانا بجوار القرية دخلت منه 0 حددت مكانا لن تبرح صورته مخيلتي مدى الحياة : ثلاث نخلات قصيرة حولها هيش طويل وقناة تمر في الوسط 0 اختفيت تماما انتظارا لطلوع النهار فأتوجه إلى منزل صديقي صاحب المطعم 0
قبل الشروق سمعت أصواتا على الترعة فظننت بعض الفلاحين يتوضأون لصلاة الصبح 0 أرهفت سمعي فسمعت ولم أفهم فعرفت أنهم الأعداء 0 أمعنت في الاختفاء وانتظرت خروج أحد من الأهالي 0 نساء او حتى أطفالا فلم يخرج أحد 0 أشرقت الشمس فشاهدت بطا ودجاجا يغادر القرية فاستبشرت خيراً 0 مرت ساعة وساعتان ولم يخرج أحد يئست تماما واللحظات تمضي متثاقلة بطيئة ترسف في أغلال 0 خلف القرية التبة 32 وهي مرتفعة جدا وعليها موقع للعدو والوضع الطبيعي أن يوجد بالموقع جندي مراقبة بنظارة ميدان ورغم كل هذا وفي وضح النهار زحفت ووصلت أول منزل 0 كان الباب مفتوحا فلم أجد أي أفراد لكن المنزل به أثاث وبصل معلق على الجدران 0 خرجت ودخلت منزلا آخر وثالثا ورابعا فوجدت الحال متشابها لا جثث ولا آثار دماء على الأرض ولا في الشارع فما الذي حدث ؟ حتى المنزل المنعزل ذهبت إليه ودخلت منظرة كبيرة لها باب منفصل خارجي فتأكدت تماما أن الأهالي تركوا بيوتهم وأرضهم 0
ماذا أنتظر ؟
في تمام الساعة الرابعة أكلت كالعادة !
في هذا اليوم قررت مغادرة المنطقة ولو حتى كان الجيش الأمريكي نفسه هو الذي يمنعني 0 قضيت بها ست سنوات وأعرف عن ظهر قلب طرقاتها ومدقاتها وجبالها ومرتفعاتها وبمقدرتي التسلل عبر هذه القوات مهما كانت مفتوحة العينين 0 هكذا شجعت نفسي !
بانتهاء نهار 14/11 وبحلول الظلام رميت الهدايا التي كنت أحملها لصاحبنا فلا داعي لها ولم أجازف بالذهاب إلى الترعة لملء الزمزميتين بل عبرت السكة الحديد وخرجت إلى الصحراء 0 توجهت إلى البرج الخرساني الذي تذكرونه وقضيت الليلة 0 نهضت مبكرا وشمرت عن ساعد الجد وفي هذا اليوم فطرت مربى وجبنة وبقسماط وكوب لبن وكوب شاي ورحت أجهز معدات اختراق الصحراء : أكبر كمية أكل وماء ممكنة وجهزت الآتي :
بطانية جديدة ثبت عليها المشمع بالإبرة والخيط حتى إذا حدث وأمطرت السماء لا أبتل وإذا اضطررت للظهور في الصحراء مرة أخرى تموه مكاني ، فانلة صوف وزنط 0 قمت بتثبيت أزرار الأوفرول جيدا 0 بيجامة كستور 0 طاقية صوف 0 ثماني زمزميات في الحزام 0 شنطة كمامة بها زمزمية كبيرة 0 ثلاث عشرة علبة فول وعدس مركز مربى وبلوفيف لأن حجمها أصغر من حجم علب الخضار 0 عشرة أقراص وقود 0 عشرين فتاحة 0 عشرين علبة كبريت وملعقتين صغيرتين 0 لم أستطع حمل أكثر من هذا 0
طوال مدة عزلتي كنت أراقب تجمعات القوات المعادية 0
عبرت أولا الطريق الموصل بين الكيلو 25 والترعة ثم طريق الاسماعيلية السويس ثم اجتياز قيادة الفرقة السابعة المهجورة 0 بعد يومين سأخرج إلى الصحراء تاركا خلفي أعداء بلادي وكلي ثقة أنهم مطرودون مطرودون 0 وعندما يكون النجم القطبي على يميني يكون اتجاهي صحيحا 0
في الحادية عشرة مساء قررت قضاء الليل في أحد مواقع المشاة المهجورة 0
قضيت نهار اليوم التالي 16/11 في مراقبة الخط الذي حددته للتسلل منه 0 سأجتاز الليلة القادمة أكبر تجمع للعدو في المنطقة 0 في تمام الرابعة أكلت 0 بحلول الظلام قطعت المرحلة الثانية وهي أكبر وأخطر مرحلة حيث اضطررت لاجتياز خور عميق يبلغ طوله حوالي كيلو متر وعرضه نصف طوله وعمقه عشرون مترا 0 تحملت النزول فيه واجتيازه ضمانا للأمان 0 مررت وسط سبعة أو ثمانية مواقع معادية حتى أصبحت أرى طريق الاسماعيلية السويس وعنده تبدأ المرحلة الثالثة والأخيرة 0 وهي بعون الله سهلة 0 لقد بذلت مجهودا مضنيا تلك الليلة وعند الفجر كنت في غاية الإرهاق ؛وضعت هذا الحمل الثقيل عن كاهلي واسترحت قليلا 0 من وضع المجأ عرفت أنه بجوار ميس الضباط فقررت البحث هنا عن وجبة جيدة قبل اليوم الأخير لمغادرة مواقع الأعداء 0 بالفعل وجدت وأكلت علبة فولوبيف وخضار باللحم 0 ألقيت نظرة على الملاجئ المحيطة بي 0 دخلت أحدها 0 كان مخزن مهمات 0 لبست غيارا جديدا وكان الفجر قد لاح عندما عدت إلى أدواتي ونمت طويلا .
صحوت وأنا عاقد العزم على قضاء النهار هنا إلى أن يحل الظلام لآخذ مهماتي كاملة وأنهي المرحلة الثالثة متوجها إلى محافظة الشرقية .
لكن ما كل هذه التحركات التي أحس دبيبها ؟ إن أعدادهم تتكاثر 0 بندقيتي معي وثلاث خازنات من الصاج مليئة بالرصاص 0 أعدادهم تتكاثر 0 يبدو أن خطتي ستتغير 0 ستتغير تماما 0 يروحون ويجيئون فوق تراب أرضنا 0 استحضرت التاريخ كله من اللاوعي 0 البطولات والفتوحات التي زرعت فينا منذ عهد الكتاتيب 0 استحضرت آيات من كتاب الله 0 أمسكت بندقيتي بقوة ووجدتني أقبلها 0 لم يعد لي الآن من هدف سوى المبادأة 0 أقتل أكبر عدد منهم ثم يخترقني الرصاص من كل جهة فلا أحس بألم 0 ألقيت ابتسامة على الكومة التي كنت أعددتها للعودة المتسللة 0 اتسعت ابتسامتي إذ قارنت بين حياتين إحداهما زائلة 0 انتظروا 0 ستنشق الأرض عني وزخات الرصاص تنهمر عليهم من بندقيتي 0 قلت لها وهي في حضني أنت الآن أغلى من كل هذا العالم 0 لا تخونيني !إن ثمني غال جداً ومعاناتي غالية جداً 0 أقل من عشرة منهم لا يشفي غليلي 0 تعالي 0 وحملتها 0 سنبدأ الزحف السريع الآن 0 بسرعة! لقد تأخرت كثيراً
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية