في كتابه المثير للاهتمام (المعانقات) يتناول إدورادو غاليانو فكرة هامة تخص الإعلام والتلفزيون وتأثيرهما علي الناس، فيروي حكاية عن معلم جاء إلي الصف ومعه دورق ضخم، وقال للتلاميذ إنه مليء بعطر فواح، وأريد أن أري مدي إدراك كل واحد منكم لنوعية العطر وطريقته بالشم، وقوة إدراكه وتأثير الروائح عليه، وطالب أن يرفع التلاميذ أياديهم حالما يشمون العطر، وأزال السدادة بمشقة مفتعلة، وبعد لحظات بدأت الأيادي في الارتفاع.
وهنا استأذنت تلميذة ذكية استاذها بأن تفتح الشباك، فالجو كثيف برائحة عطر غامضة بدأت تنتشر وتعبق بسرعة في انحاء الغرفة، وهنا مرر الاستاذ الدورق الضخم علي جميع أنوف الطلاب ليختبروه مباشرة، ويجدوا أن ما يشمونه هو ماء من الحنفية.
ربما الحكاية توصّف بعض ما تحاول به قنوات تمريره لمشاهديها، ولكن ليس لها رغبة الأستاذ بأن يكتشف جمهورها أن ما يشمونه يوميا من الأخبار والبرامج المنوعة والغناء الرث ما هو إلا رائحة تشبه تلك الرائحة التي التقطها صنع الله إبراهيم منذ سنوات وللأسف لا أحد يشم - نقصد لا أحد يقرأ!
ثقافة الإرهاب
وما زلنا في كتاب (المعانقات) الذي ترجمه أسامة اسبر، فيروي إدواردو غاليانو عن الاستعمار بأنه واضح المعالم، يبتر دون تنكر، ويمنع من الفعل ويحرم من الوجود ويقتل دون حساب، ويهجر دون نأمة من ضمير أو شلعة من شفقة، ويبتكر كل الوسائل الممكنة لجعل حضوره مرئيا لا لبس فيه، ولكنه يمنحك شرف مقاومته، وعنفوان رفضه، الشرف والعنفوان كلمتان خطيرتان في هذا الوقت الخالي منهما، وليس بسبب الاستعمار علي كل حال.
ولكن ثمة سلطة لا مرئية، تتسلل إلي الوجدان عن طريق ثلة من نشرات الأخبار، وأفلام زمان، وعبقرية نيشان، وهديل اللهجة المائعة واللغة المشبعة بالتفاهة الشرسة التي تفتك دون رحمة وتتسلل بلا جيوش ولا أباتشي ولا صواريخ عابرة للقارات ولا أقمار صناعية حائرة. تسلل عبر أكثر الوسائط الخطيرة في حياتك المعصرة لتقنعك أن الفلاحة قدرك، وأن العجز طبيعتك، وأنه ليس من الممكن الكلام وليس من الممكن الفعل، وليس من الممكن الحياة.
فهذا الصندوق العجيب الذي صار حضوره لا يقبل الجدل في المنزل، ربما من حسناته، كما يقول (غاليانو)، بعيدا عن الشاشة العالم ظل غير جدير بالثقة، وخاصة أن التلفزيون يعرض ما يحب أن يحدث، التلفزيون ذلك الضوء الأخير الذي ينقذك من الوحدة والليل.
پألا لا يجهلن أحد علينا
حدث في إحدي المحطات الفضائية الكبري أن مذيعة سألت المنتج ومعد الفترة الإخبارية عن الضيوف الذين ستحاورهم، فأجاب المنتج والمعد مازحا: سيكون معك أبو جهل من أرض الحجاز وأبو لهب من لندن.. وبدأت الفترة الإخبارية، وفي الأثناء سألت المذيعة المنتج: لماذا تغير الضيف؟ فالموجود أمامي علي الشاشة وفي الورق ليس أبا لهب ولا أبا جهل؟
طبعا انفجر الجميع بالضحك الصاخب، وشعرت المذيعة بأنها تعرضت لعملية خداع كبيرة، واحتجت بشدة علي هذه المزحة السمجة لدي الإدارة.
الحادثة حصلت بالفعل، وهي معروفة لدي الوسط الإعلامي في محطة عربية متقدمة لا نريد ذكر اسمها ولا اسم المذيعة، بل نريد التركيز عليها كمثال عن جهل بعض الإعلاميين العرب بأبسط قواعد المعلومات العامة، فالمشتغلون بالهم الإعلامي والثقافي تسرب بينهم سرب كبير من الجهلة والأدعياء وأنصاف المثقفين والمدعين والموظفين الرسميين ممن لا تحتمل قدراتهم العقلية أكثر من مساحة التلقين، ولا يعدو حضورهم سوي أداة لنطق ما يكتبه ويعده ويحضره الآخرون. ومن طرائف مذيعي (النصف كم) أنهم يظنون أن علي جميع من يلتقيهم أن يبادر إلي مدح حضورهم.. إلي توصيف قدراتهم وبراعتهم.. إلي التعامل معهم وكأنهم من يصنع الأحداث ويبهرجها ويتلوها. من طرائف بعض المذيعين والمذيعات العرب، أنهم قادمون من ثقافة (التلقيط).. يعني من كل موضوع فكرة، ومن كل حديث معلومة، ومن كل جلسة موضوع.. وهم توقفوا عن مزاولة القراءة إن كانوا يقرأون بالأصل وتفرغوا للنميمة علي الزملاء، وكسوا عقولهم ثقافة العطالة والكسل والحسد.
ثقافة الإعلان
التمويه بشكله المثير للاستفزاز، الزيف المغموس بواقع آخر، العتمة الباهرة التي تنقض علي بصيص نور، النفاق بحضوره المبرر، الوقت وهدره مقابل شاشة فضية مخادعة، العواطف المستوردة حتي من الدراما التركية.. ويجري التحضير للدراما الإيرانية قريبا.. و70 مليون أمي عربي.. يشاهد أكثرهم التلفزيون يوميا. كيف يمارس التلفزيون التضليل، ولماذا يجب أن يعرف الناس أنهم ضحايا؟ فمعظم محطات الترفيه والأسرة والفنون والزواج والصحة والاقتصاد التي تبث من فضاءات النايل والعرب سات أثبتت الباحثة جيهان البيطار من خلال دراسة أجرتها حول أخلاقيات الإعلان أن:
%93 من الإعلانات تستخدم السيدات،%73 منها يتم تقديمها من خلال حركة المرأة.
وأكثر من النصف يحتوي إثارة في المضمون، يعني الوصول إلي قرار الشراء عن طريق تحريك الغريزة البدائية، وهذه الحلة التي تصفها الدراسة تظهر خطورة الإعلان علي منظومة القيم، وطريقة التلقي، وتسليع الذائقة، حيث يتم بشكل ممنهج تدمير فضاء المدن البصري، وهو ما حدا ببعض الباحثين إلي تسميته بالتلوث البصري.
لا قانون ناظما للإعلان، ولا ذائقة لدي بلديات المدن العربية لتعرف كيف تنقي فضاء مدنها وتهتم لأشياء تظن أنها لا تستحق الاهتمام.
الاعلان بأنواعه كافة دخل المنطقة العربية بشكل كبير، ونجد مؤسسات عالمية كبري تمركزت بالمنطقة وأوصلت المدخول الإعلاني للمليارات، ووظفت كوادر عالمية تبني ثقافة جديدة تسيطر علي الروح والنظر والبصر الآني، ومعظمها كوادر غير عربية تري العرب من زوايا خاصة، تثبت عليهم العطالة والكسل والاستهلاك والاحتفاء بالغرائز.
المشكلة هي أن الإعلانات تنصب بلا هوادة علي الشريحة التي تنفق أكثر، والبلد الذي يتحول مواطنوه إلي أرقام في عمليات الاحصائيات، فالمواطن السعودي بالنسبة للمعلنين هو فوق التسعمائة دولار شهريا، يصرفها علي الاستهلاك، بينما تتراجع قيمة المواطن السوري إلي ما دون الستين دولارا، والصومالي إلي تحت العشر دولارات، لذلك لا أحد يعبأ بإخراج دعاية تلفزيونة تتكلم باللهجة الصومالية،پفكان قدر المواطن السعودي خاصة والخليجي عامة أن تحاصره الإعلانات في كل مكان، تلاحقه حتي علي هاتفه الشخصي، تعده بجنات الاستهلاك، تتكالب حول حياته ولا ينقذه منها حتي شراؤه لها، وارتسمت للخليجي صورة نمطية واحدة مستمدة من شكل الزي التقليدي، وإنفاق الأموال بلا هوادة علي الملذات والأهواء، فيقوم المروجون وصانعو الإعلانات بحشر امرأة ممشوقة مكتنزة مع ابتسامة غامضة، ونظرة شغوفة في معظم الإعلان المطبوع الموجه للسعودية والخليج.
قد يبدو الموضوع عاديا وغير قابل للاهتمام، ولكن أخلاقيات الإعلان مستمدةپأيضا من المعلنين أنفسهم، تشبه طريقتهم في الحياة والتفكير، تتوضح رغباتهم المكبوتة والمحشورة والمتوارية في قاع مشاريعهم. توجه رسالتهم إلي شريحة تستسهل كل شيء وقابلة للاستهلاك غير عابئة بالمواصفات ونوعية المواد المستخدمة، وهذا حديث له شجون، فإذا كانت ثقافة الإعلان بدأت تثير كثيرا من اللغط حولها حتي من كبار القائمين عليها في المنطقة العربية، نري فضاءات المدن العربية المنظمة منها والفوضوية تحتشد بكمٍ لا يحتمل من الخلطة البصرية المؤذية روحيا ونفسيا لمزاج السكان، لنجد الحياة رويدا رويدا تتخردق بواسطة الصور الزائفة المفتعلة، تكرس اللحظة والآني والعابر عبر أشياء ناصعة تذوب بسرعة ويثبت اثرها في الذاكرة القريبة التي تسارع للشراء حين الطلب.
طبوش
من طرائف الإعلان في التلفزيون السوري المعروف بقدرته الفائقة علي بث أشهر إعلانات العلكة واللبان أن إعلانا تجاريا لماركة (شيبس) اسمه طبوش قد ساهم علي عكس كل إعلانات كوكب الإرض بإفلاس صاحبه و تسكير معمله، فنجح الإعلان بشكل ساحق لم يتوقعه حتي صاحب المنتج، فوقع عقودا لتوريد بضاعته وفشلت خطوط إنتاج معمله بتزويد طلبات عملائه، فقاضوه وأدي الضغط الكبير لإفلاسه قبل أن يبدأ بتوريد منتجه للسوق، فكانت أغنية الإعلان والشخصية التي تمثل به تجتاحان المدن السورية بينما لم تنزل الشبس الموعودة إلي الأسواق!
مذيعون قادمون من ثقافة التلقيط ومذيعة فوجئت بعدم ظهور ابو جهل....فادي عزام
القدس العربي
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية