أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

ما لم يقله السفير شيرر في دمشق وما لم نقله نحن.... مازن درويش

خلال زيارته "الماراتونية" الأولى إلى دمشق ضمن برنامج الدبلوماسية العامة التابع لوزارة الخارجية الأمريكية، جال السفير الأمريكي السابق ديريك شيرر، أستاذ الدبلوماسية والعلاقات الدولية في جامعة اوكسيدنتال بكاليفورنيا على العديد من المؤسسات غير الحكومية في سوريا ابتداء من المركز الثقافي الأمريكي مرورا بجمعية العلاقات العامة ومركز الشرق وجريدة الوطن وكلية العلوم السياسية بجامعة دمشق وانتهاء بالمركز السوري للإعلام وحرية التعبير. وتحدث في هذه المؤسسات بصبر وإخلاص كبيرين عن الانتخابات الأمريكية وعن التغيير الذي ستشهده السياسة الأمريكية في مقاربتها لقضايا المنطقة واستشف بعض الملامح الأولية لهذه السياسة، وانتقد السفير شيرر إدارة الرئيس الحالي جورج بوش وسياستها الخارجية بشكل صريح ولاذع بكل جملة قالها وفي كل مكان حل به أهلا ووطأه سهلا - حتى أني اعتقدت جازما - أن الإدارة الأمريكية التي اختارته لهذه المهمة لا تعلم حقيقة مواقفه منها ولا تعلم أيضا أنه من الأعضاء البارزين في الحزب الديمقراطي المعارض والمنافس لها، وأنها سوف تقوم فور عودته إلى الولايات المتحدة بطرده من الجامعة التي يدرس فيها، وحتى أنها - الإدارة الأمريكية - لا بد سوف تسوقه إلى القضاء العسكري - الأمريكي طبعا - بتهم وهن نفسية الأمة الأمريكية وإضعاف الشعور القومي الأمريكي ونشر أخبار كاذبة تسيء إلى صورة أمريكا في الخارج. خصوصا أن حديثه كان علنيا وباللغة الانكليزية الفصحى وبحضور مجموعة من المواطنين الأمريكيين الوطنيين من العاملين في المركز الثقافي الأمريكي التابع لوزارة الخارجية الأمريكية. إلا أن ذلك لم يحصل - حتى الآن على الأقل - على الرغم من مضي أكثر من اسبوع على عودته وعلى الرغم من كل ما قاله السفير شيرر في دمشق.

و خلال الحوارات التي دارت مع السفير شيرر، قلنا نحن أيضا "إعلاميين ومثقفين ونشطاء في المجتمع المدني ومواطنين سوريين"، الكثير عن سوء وغباء وانحياز السياسة الأمريكية خصوصا تجاه شرقنا الأوسط الصغير وصببنا على السفير شيرر ما في جعبتنا من مشاعر عدائية تجاه الإدارة الأمريكية الحالية - حتى كدنا ننسى أو نسينا أنه هو شخصيا لا يتحمل مسؤوليتها -.

- ما قاله السفير شيرر في دمشق يحمل في طياته أملا في انخفاض حدة التوتر الذي تشهده المنطقة وربما حلولا أقل تكلفه لحالة انسداد الأفق السياسي الذي تعاني منه الإستراتيجية الأمريكية الحالية، تقوم على أساس الاعتراف ببعض المصالح الحيوية لدول وأنظمة المنطقة بعيدا عن منطق الفوضى الخلاقة.

ولكن ما لم يقله السفير شيرر في دمشق - وقاله في ندواته ومحاضراته ومقالاته في الولايات المتحدة - أن التغيير هو حاجة أمريكية داخلية بالدرجة الأولى، حتى أنه قد تم تداول هذه الكلمة - التغيير Change- خلال فترة الانتخابات التمهيدية للحزبين الديمقراطي والجمهوري أكثر مما تم تداولها في أي مرحلة من المراحل المفصلية السابقة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية. ليس على اعتبار أنها شعار حملة الانتخابات التمهيدية للسيناتور باراك اوباما فحسب، بل أيضا لأنها "الولايات المتحدة" لم تكن في يوم من الأيام في حالة من التخبط وعدم التوازن الأخلاقي والسياسي كما هي عليه اليوم.

في مقال للسفير Derek N. Shearer بعنوان: Change That Really Matters)). مجموعة من المؤشرات الأساسية على هذه الحالة الاستثنائية التي وصلت إليها أمريكا منها انخفاض نسبة المقترعين في أمريكا حيث لم تتجاوز نسبة التصويت في الانتخابات الأمريكية السابقة على سبيل المثال 35% والأسباب المباشرة لذلك تتعلق بمستوى الدخل والتعليم وتهميش شرائح واسعة من المجتمع الأمريكي حيث أن النظام الانتخابي الحالي في الديمقراطية الأمريكية لا يشجع النصف الأسفل من السكان على ممارسة حقهم في الانتخاب وهو ما يعتبره السفير شيرر (وصمة عار وطني).

كذلك هو الحال بالنسبة إلى عدد العمال المنتسبين إلى الاتحادات والنقابات المهنية في الولايات المتحدة حيث لا تتجاوز نسبتهم 12% وهي أدنى نسبة من أي دولة صناعية أخرى في العالم ومرد ذلك إلى ضعف سلطة النقابات وعدم المساواة والاستنزاف الممنهج لهذه النقابات والحرب المفتوحة عليها كل هذا بتواطؤ ضمني وعلني بين الشركات الكبرى والحكومة الأمريكية.

وأيضا أمريكا اليوم تعاني من أزمة جوهرية تكمن في ضعف المجتمع المدني وهذا ما دفع العديد من الخبراء إلى قرع ناقوس الخطر تجاه الانخفاض الحاد والمتسارع في المشاركة المدنية لدى المواطن الأمريكي بكل ما يحمله ذلك من إشارات استفهام حول التحولات التي يشهدها مفهوم المواطنة لدى المواطن الأمريكي وصولا إلى العقد الاجتماعي الأمريكي ذاته ومدى قابليته للاستمرار.

ما لم يقله السفير شيرر في دمشق أنه حتى في أسوء كوابيسه الاقتصادية - منذ عهد الرئيس رونالد ريغن- التي عبر عنها في كتبه وفي مقالاته مثل challenge Economic Democracy وNew Social Contract وPublic Control of Public Moneyو على الأخص في محاضرته في الجامعة الكاثوليكية في تشيلي عن " العولمة والتجارة " لم يكن يتخيل أن تأتي إدارة أمريكية تسمح قيمها الفكرية وممارساتها الاقتصادية لمسؤول أمريكي مثل آلان غرينسبان حين كان على رأس عمله أن يقول بتبجح:(لندع رغيف الخبز يذهب إلى من يستحقه)، تساءلت يومها ببلاهة في مقال كتبته(1): هل تستحق ابنتي انانا رغيف الخبز؟!! حتى جاءت أزمة الغذاء الحالية لتجيب على سؤالي.

ما لم يقله السفير شيرر في دمشق وقاله في محاضرة له داخل الولايات المتحدة بعنوان:

America's Role in the World Post 9/11" " ضمن سلسلة محاضرات السلام العالمي والأمن وحقوق الإنسان التي أقامتها مجموعة هامة من المعاهد ومراكز الدراسات الأمريكية على رأسها "UC Institute for Global Conflict and Cooperation ". (خلال إدارة بوش فٌقدت السلطة الأخلاقية لهذا البلد).

وبالفعل لم يسبق في التاريخ أن خسرت أمة بالسرعة وبالطريقة التي تخسر فيها الأمة الأمريكية اليوم قيمها الأخلاقية والحضارية، لدرجة تجعلني أعتقد أن رفاة الآباء الأوائل الذين أسسوا الولايات المتحدة ستبحث عن أرض أخرى تدفن فيها إذا استمرت الأمور في أمريكا على هذا الانحدار المذهل - ولكن حتما لن تكون هذه الأرض إحدى بقاع شرقنا الأوسط الصغير-.

- ما قلناه نحن لم يتجاوز- في معظمه - فشة خلق عابرة أمام مسؤول أمريكي عابر، خفضت إلى حد ما وربما إلى حين، من المشاعر العدائية تجاه الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنها أيضا أحدثت خلخلة حقيقية في الصورة النمطية لراعي البقر الأمريكي الشرير والمتوحش.

ولكن ما لم نقله نحن " إعلاميين ومثقفين ونشطاء في المجتمع المدني ومواطنين سوريين " - لم نسارع يوما للركوب في القطار الأمريكي السريع أثناء عبوره المدوي لأراضي الشرق الأوسط الكبير، ولم ولن يستطع حتى أكثر الأجهزة الأمنية السورية وطنية في أي يوم من الأيام أن يتهمنا بأننا نخطط للمجيء على دبابة أو حتى على دراجة هوائية أمريكية وذلك فقط بسبب إدراكنا الذاتي العميق لعدم جواز فصل الديمقراطية عن المصلحة الوطنية وأن انهيار السقف الوطني لأي دولة لن يخرج من تحته أي منتصر سوى الخراب وحده -.

ما لم نقله نحن أثناء وجود السفير شيرر في دمشق ونقوله اليوم من دمشق وبعد ذهابه، أننا نتابع الانتخابات الأمريكية وتطوراتها بشكل متواصل وكل دقيقة بدقيقة، أكثر من متابعتنا للانتخابات في دولة جزر القمر الشقيقة... وأخواتها، وذلك بسبب إدراكنا المضمر والمعلن أن الولايات المتحدة الأمريكية هي قاطرة الشد السياسية والاقتصادية الرئيسية في العالم حتى يومنا هذا وإلى المدى المنظور على أقل تقدير، وبناء عليه لا توجد إمكانية لحل المشاكل الأساسية حتى تلك الناتجة عن السياسات الأمريكية سواء في المنطقة أو في العالم إلا من خلال دور ايجابي وفعال للولايات المتحدة الأمريكية ذاتها.

ما لم نقله نحن أنه لا حاجة لإنفاق أموال المواطن الأمريكي على برامج تعمل على تحسين صورة أمريكا في الخارج وخصوصا تلك البرامج من نوع الزائر الدولي أو قناة الحرة فنحن لنا مصلحة حقيقية في أن تكون صورة أمريكا في أحسن أحوالها وسنعمل بصدق من أجل ذلك ولكن حتى نستطيع ذلك يجب أن تستعيد الولايات المتحدة الأمريكية قيمها السياسية والحضارية التي قامت عليها والتي أرساها الآباء الأوائل تلك القيم التي تجلت بالتعديل الدستوري الأول ومبادئ وليسن ومواقف جون كنيدي.

ما لم نقله نحن هو ضرورة وجود حوار مدني، سوري- أمريكي، غير حكومي، جدي وعميق، يؤسس لإمكانية قيام فهم متبادل بين الطرفين ينعكس بشكل ايجابي على علاقات المجتمعين السوري والأمريكي ويؤثر في السياسات الحكومية للبلدين. وكخطوة أساسية في سبيل ذلك يجب على المؤسسات المدنية الأمريكية ومنظريها أن تعود بمفهوم الإرهاب إلى حدوده الطبيعية وهو كونه شكل غير أخلاقي للصراع السياسي بعيدا عن التشخيص الفردي والقومي والديني الحاصل حاليا وعلينا نحن أن نفصل فصلا مطلقا في نظرتنا وتعاطينا مع الولايات المتحدة بين مستويين. مستوى السياسات والمصالح والإدارات الأمريكية ومستوى المواطن الأمريكي الذي نشترك وإياه بالهم الإنساني العالمي وبالقيم الإنسانية الحضارية الواحدة.

ما لم نقله نحن أننا كنا ومازلنا نردد منذ زمن بعيد، ما عاد وقاله لاحقا سيناتور ايلنوي باراك اوباما في حملته التمهيدية لخوض الانتخابات الأمريكية: (يجب على واشنطن أن تتغير وفي العمق).

نعم من أجلنا نحن ومن أجل السلام والديمقراطية والتنمية في العالم أجمع يجب على واشنطن أن تتغير وفي العمق، وأن نجاح السيناتور اوباما باستقطاب الشباب الأمريكي ودفعهم على الانخراط في الحياة السياسية الأمريكية بقوة من جديد خلف شعار التغيير بمضامينه السياسية والأخلاقية يجعلنا حقا نتفاءل بإمكانية الانتقال من كلينتون العولمة وبوش العولمة الأحادية... إلى أمريكا العولمة التشاركية.

(ملاحظة: هذه المقالة تعبر عن وجهة نظر كاتبها فقط ولا تعبر عن أو تتعارض مع، وجهة نظر أي مشارك في الطاولة الحوارية التي أقامها المركز السوري للإعلام وحرية التعبير مع السفير ديريك شيرر حول دور الإعلام في الانتخابات الأمريكية في مقر المركز بدمشق تاريخ 29/5/2008).

(107)    هل أعجبتك المقالة (92)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي