أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

من خلف الزجاج .... سعاد جروس

اسم الهند له سحر خاص في ثقافتنا الشرقية, فكما هي بلاد الآلهة والمعابد والحرير التوابل, كذلك هي بلاد المهاتما غاندي قائد ثورة «اللاعنف» والتحرر السلمي. وكما هي بلد البذخ والغنى الفاحش فهي بلد الفقر المدقع. وبين هذا وذاك هي الآن بلد النمو الاقتصادي والتكنولوجيا الصاعدة. ومن طرف آخر, وبكل المعاني هي بلد التناقضات العجيبة!!
زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى الهند شكلت فرصة للنظر نحو الشرق وإعادة الوصل, بين جغرافية الحضارات الممتدة على طول طريق الحرير, سعيا إلى توازن بات ضرورة ملحة لمواجهة اختلال الاجتياح الغربي العاصف.
في الهند سنواجه عالماً لسنا غرباء عنه, فكلنا بالبؤس شرق, وهو ما لمسناه فور الوصول الى مطار نيودلهي فجراً قبل وصول الوفد الرئاسي بيومين, فالحفاوة الاستثنائية التي حظي بها فريق الصحفيين على متن الخطوط السورية, ظل تأثيرها ساري المفعول لغاية الوقوف أمام نافذة بيع خطوط الهاتف الخلوية, حيث أمضينا ساعة من الملل والاستغراب, بشرنا بما هو آت, حيث لم يكتف البائع بأخذ العديد من الصور لجوازات السفر, بل التقط صوراً شخصية للمشترين, في إجراءات روتينية أمنية معقدة وغير مفهومة, ولم ننته قبل أن نغرق في عرقنا في ظل أجواء خانقة.
قشة النجاة التي تعلقت عليها العيون, كانت سمسار التاكسي الذي انتشلنا من قدر البخار ليرمي بنا في ليموزين مكيفة, مضت بنا عابرة طرقات عريضة تظللها أشجار وارفة على الجانبين انحنت بكل إجلال لتغتسل بمطر الصباح الغزير, وليبدو المنظر من خلف زجاج السيارة, وكأنه عبور إلى الجنة بكامل بهاء خضرتها ومائها, تممتها الوجوه الحسنة التي استقبلتنا في فندق تاج محل, ولا مبالغة إذا قلنا إنه واحد من قصور ألف ليلة وليلة ببنائه المترف بالزخارف والرخام الملمع, وشذا العطور والزهور الموزعة بأناقة في أرجائه كافة, زاد في فخامتها فن إلقاء التحية الهندية لدى عاملي الفندق بهز الرأس وضم الأكف نحو الصدر, حتى ليظن المرء أنه في أحد المعابد التاريخية, فكل تفصيل في الفندق مدروس بعناية ليهب الزائر شعوراً بالسلام والهدوء. وحيث بالإمكان التخفف من كل الهموم, ماعدا واحداً هو الفاتورة التي ستدفع مقابل كل هذه الفخامة والحفاوة, والتي اسهمت السفارة السورية مشكورة في جعلها محمولة بتسهيل الحصول على حسم خاص.
من النافذة الواسعة للغرفة في الطابق العاشر, تراءت منطقة السفارات, التي تعتبر من أرقى أحياء نيودلهي, تحيط بها الأشجار الخضراء, وأخفت بين جنباتها أبنية فخمة على الطراز الإنكليزي, كانت أشبه بجزر وادعة, وقيل أن سر كثافة الأشجار يعود إلى قرار اتخذته رئيسة وزراء الهند الراحلة أنديرا غاندي يقضي بمنع قطع أي شجرة. حيال هذا المنظر, ترحمنا على روح أنديرا التي لفت أكتاف المدينة بشال من السندس الغض جعلها من أجمل المدن, رغم شقائها, إذ لم يفلح هذا الشال الأخاذ في إخفاء مشاهد بائسة كانت بانتظارنا بمجرد الخروج من الفندق في اتجاه الأسواق الشعبية والمطاعم والبارات وسط نيودلهي, نمني النفس بتنشق هواء نقي بعيداً عن هواء المكيفات والروائح العطرية, إلا أن أول جملة سمعناها من سائق التاكسي هي «لا تفتحوا نوافذ السيارة», لم نسمع الكلمة وفتحنا النافذة لتهب علينا رياح ساخنة آتية للتو من الجحيم مشبعة بالرطوبة ومدعومة بالبعوض وخلطة من الروائح الغريبة المنفرة, تختلط فيها روائح مفرزات الجسد البشري المنقوع بالتوابل, مع روائح الأرض بعد المطر, لا تفتأ تفوح من كل حدب وصوب في المناطق الشعبية, لتغدو الفنادق والامكنة الراقية الفردوس المرتجى كل لحظة, حاولنا خلالها مقاومة مشاعر النفور بالاستسلام لإغراء التسوق في بحر من المشغولات الهندية اليدوية, وتجربة متعة المساومة مع بائعين شطار لا يفتقدون المودة والدماثة كوسيلة إقناع حُسمت نتائجها غالباً لصالح البائع.
في زيارة لمدة خمسة أيام, كنا سياحاً وانطباعاتنا بلا شك كانت سياحية, ومع ذلك فثمة ملاحظات أقرب إلى الاستفهام منها إلى التعجب, حين تروى حكايات عن الاقتصاد الناهض للهند ولا نرى انعكاسا لذلك في الشارع, عدا الطرق المنظمة والقصور الفارهة المعزولة البعيدة عن مرمى النظر, إذ لم تقع العين في الشارع العام والمناطق المكتظة على شخص متوسط الحال, إن لم نقل ثرياً, ولم نلمح سيارات فخمة أو حديثة لأي من أباطرة المال وكأنهم يعيشون في بلد آخر أو لهم مناطقهم الخاصة بهم, أو ربما متنكرون, أو وهو الأصح أنهم اقل من أن يروا بالعين المجردة, حتى في المطاعم الفخمة وأمكنة السهر, لم نر سوى قلة قليلة من الشباب وندرة من النساء, على الضد من عاداتنا في عشق المظاهر والسهر وشم الهوا.
وكما قيل لنا, أن جنة الهندي منزله, يوفر فيه كل ما يحتاج اليه حتى ولو كان مسرحاً للرقص, كي لا يضطر للخروج إلى الامكنة العامة, في عاصمة تخلد إلى النوم عند التاسعة مساء, وتعج بالمتسولين منذ ساعات الصباح الأولى, لتبدو رغم اخضرارها متعبة منهكة, ويكفي التأمل في وسائط النقل العامة لنكتشف التدرج الطبقي للمجتمع من الفقير إلى الأشد فقرا. فالتاكسي ليست أقل شقاء من التوكتوك €مركبة بثلاث عجلات€ وهذه ليست أفضل حالا من الدراجة النارية, والأخيرة ليست أحسن من الدراجة الهوائية. أما الباصات, فحدث ولا حرج, القاسم المشترك بينها صور الآلهة الهندية الكثر تتصدر لوحة القيادة... بإشارة لا تخفي نفسها عن ترعرع التدين في أعماق الفقر, لتكون المعابد واحات سلام يؤمها الجميع طلبا للأمل, فيما تشد جماهير غفيرة من الشباب الرحال إلى وراء الحدود بحثاً عن لقمة العيش.
التنمية في هذا البلد نموذج للتنمية الصاعدة في دول العالم الثالث عموما, التي تصيب طبقة صغيرة تحصد النصيب الأوفر, فتزيد في رخائها رخاء, وفي بطرها بطراً, وبالمقابل يزيد عمق الفجوة مع طبقة بائسة تتسع ويتفاقم فقرها إلى حد العدم, مع كل ما يمثله ذلك من تخلف اجتماعي وانغلاق يعجز أمامه أي تقدم علمي أو اقتصادي.
في الهند ننظر إلى مستقبلنا ونتساءل عن مصير فقرائنا ومآل أغنيائنا, ونسأل أي الطرق نسلك لنحقق نمواً حقيقياً لا وهمياً, نتساءل ونحن نرى مجتمعاً أنهكه الفقر, زاده الانفتاح العولمي تفككاً والبشر تفتتاً.
...والأكثر إيلاما مدينة لا يمكن التمتع بجمالها إلا من خلف الزجاج. 






الكفاح العربي
(110)    هل أعجبتك المقالة (104)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي