فرض النظام على السوريين خلال عقود أن يدركوا بالفطرة هامش الحرية النظري المتاح لهم ويضعوا طوعا حواجز لأنفسهم لا يتجاوزونها بأي حال، فعندما كنت تسأل صحفيا أو سياسيا، لماذا لا يستفيد من هامش الحرية المتاح أمامه ويعمل بانفتاح أكثر يجيبك بأن شرطيا مزروعا في رأسه يمنعه من ذلك.
إذا كان البعث بعد انقلاب 8 آذار 1963 قد طرح ثالوث وحدة حرية اشتراكية لإعطاء شرعية للحكم، فإن نظام الأسد عمل منذ انقلاب 16 تشرين الثاني الأبيض عام 1970 على فرض ثالوثه الخاص عبر "تابوهات" حرم الاقتراب منهأ، وهي الرئيس والجيش والطائفة، والعارفون بطبيعة نظام الأسد يدركون استحالة القول بسقوط النظام قبل تفكيك هذا الثلاثي المقدس وإسقاطه وتخليص السوريين من آثاره وتأثيراته التي يبدو أنها لا تزال مستمرة رغم كل ما حدث في البلاد.
أحد الأصدقاء أمضى ثلاثة عشر عاما في سجون الأسد الرهيبة من تدمر إلى صيدنايا قبل أن يتم العفو عنه بموجب ما يسميه النظام "مكرمة من الأب القائد"، وفوق ذلك فرض عليه التوقيع على برقية شكر للقائد على اعتقاله وتعذيبه وتشويهه من أجل همسة في أذن صديق له تلاها ابتسامة منهما خلال وجودهما في ندوة القطعة العسكرية التي كانا يخدمان فيها، وفقط لأن حافظ الأسد كان يظهر في خطاب له على التلفزيون في نفس الوقت.
منذ استيلائه على السلطة اتضح أن الأسد يريد أن يكرس نفسه زعيما وقائدا وليس مجرد رئيس أو حاكم للبلاد، وظهر ذلك من خلال البروباغاندا الضخمة والممنهجة التي تم اتباعها من قبل وسائل إعلامه، ومؤسسات الدولة المختلفة التي فرضت تمجيد الرئيس كقائد ومن ثم تحويله لرمز ممنوع الاقتراب منه والحديث عنه أو انتقاده، وصولا لاعتباره "تابو" مقدسا، وباتت صوره وتماثيله منتشرة في كل مكان على مساحة البلاد.
التطور المهم الذي طرأ بعد ذلك، هو إطلاق شعار قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد، والذي كان أول من نادى به علنا عضو مجلس الشعب الشهير دياب الماشي، فأشار الأسد لبقاء الماشي عضواً دائماً في المجلس مقابل ذلك؛ ولم يجرؤ أحد على السؤال عن كيفية تحقيق الأسد للأبدية وهل يعني ذلك الإيمان بأشياء غيبية تخص بقاءه مدى الحياة أو استمراره خلال الحكم من خلال أبنائه، أوتقمص روحه في جسد آخر كما اعتقد البعض من طائفته بعد الإعلان عن وفاته.
بعد القائد الرمز الأسد الأب انتقلت وراثة التابو للابن واستمر السوريون يتعايشون معه كأشد الأمور خطورة عليهم، ويتحاشون الاقتراب منه، لأنهم يدركون تماما حجم الكارثة التي ستحل بهم جراء ذلك.
ثاني تابوهات النظام المحرمة هو الجيش الذي حوله الأسد من جيش وطني لجيش يضمن بقاءه في السلطة بشكل رئيسي عبر إحداث تغيير جذري في بنيته وتركيبته وعقيدته القتالية، وتخلى الأسد بشكل علني عن خيار التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل وطرح شعار سلام الشجعان وفتح المجال أمام كبار الضباط وعناصر الجيش والأمن للدخول في شراكات اقتصادية ضخمة مع التجار والصناعيين، وممارسة نشاطات التهريب والممنوعات عبر الحدود بكافة أشكالها ليضمن الأسد ولاءهم للنظام، وقام بإفراغ الجيش من ضباطه الوطنيين الأكفاء ودمج الباقين ضمن منظومة الفساد، ولم يعد أمام الجيش أي مهام قتالية محتملة بعد أن تم طرده من لبنان عام 2005، وكان يجب عليه الانتظار حتى 2011، ليقوم بالدور الذي رسم له بالفعل وهو قمع الشعب السوري المنتفض.
يشكل الحديث عن الطائفية أو مجرد تناولها بأي طريقة ثالث التابوهات المحرمة الكفيلة بإيقاع الرعب بالسوريين، وقد استطاع النظام بحنكة الربط بين علمانيته ومنعه لظهور الطائفية في المجتمع، ونال استحسان الغرب ودعم العلمانيين جراء ذلك، رغم أنه كان يقوم بممارسات طائفية خطيرة من حيث جعل البنية الأساسية للجيش والأمن من أبناء الطائفة العلوية وتسليمهم فوق ذلك المناصب الرئيسية والحساسة في البلاد مع حرصه على تمثيل نسبي لباقي الطوائف والمكونات وخاصة في مجلس الشعب والمجالس المحلية.
تضعضعت رمزية وقدسية القائد الرمز بعد الثورة من خلال الشتائم التي كان يطلقها المتظاهرون وإحراق صوره وتحطيم تماثيله، ومقابل ذلك لم تنجح المعارضة في إبراز قائد لصفوفها تتوحد خلفه، وربما يكون النظام قد ساهم بذلك عبر حملات التشكيك والتشويه التي مارسها بحق المعارضين وساهم الناشطون أنفسهم فيها بقصد أو غير قصد.
أطلق المتظاهرون شعار "اللي بيقتل شعبو خاين"، ردا على ما يقوم به الأمن والجيش من تنكيل بالمدنيين، وجرت عمليات انشقاق كبيرة وتشكل الجيش الحر، لكنه لم يستطع أن يتحول لجيش وطني كبديل لجيش النظام بسبب حالة الاستقطاب الإقليمي، ومن ثم دخول كتائب مرتبطة بالقاعدة مارست العنف والتطرف على الجيش الحر نفسه، وبات تنظيم داعش القوة الكبرى التي تواجه النظام، ما جعل الداعمين والأصدقاء يفكرون بتدريب عناصر من الجيش الحر لتشكيل نواة لجيش وطني جديد، بينما أوغل النظام في تقديس جيشه عبر فرض البوط العسكري كشعار على المؤيدين يتم وضعه فوق الرؤوس وإقامة النصب التذكارية له في الساحات.
وظف النظام الطائفية بشكل كبير خلال مسار الأحداث لخدمته عبر الزج بأبناء الطائفة العلوية في أتون المعارك وإقناعهم أن ما يجري معركة حياة أو موت بالنسبة لهم في الوقت الذي لم تستطع المعارضة أن تتحلى بالجرأة الكافية لتقديم خطاب وطني جامع لكل السوريين.
بالنتيجة يظهر أننا لا نزال في المربع الأول حسب القول المشهور ولا يزال ثالوث النظام قائما من رئيس وجيش وطائفة قائما وبقوة، والأغرب أن يتم التفاوض السياسي للحفاظ على هذه التابوهات واستمرارها، فإما الأسد أو بديل عنه من العائلة أو الطائفة وإعادة هيكلة للجيش والأمن وباتت أطراف من المعارضة تقبل بذلك بل تدعو إليه بحجة تخليص البلاد من الحالة الكارثية التي وصلت إليها.
يمكن القول بكل صراحة إن صراع التابوهات المقدسة لا يسير لصالح الثورة والمعارضة ولا الشعب السوري حتى الآن، وطريق الخلاص الحقيقي يبدأ بتابوهات وطنية يتفق عليها جميع السوريين.
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية