أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

في ذكرى رحيل عبدالحميد .... بلال حسن التل

ذكرى وفاة الشريف عبدالحميد شرف رئيس الوزراء الأسبق مناسبة لنستذكر صفات ومزايا الرجال الذين ساهموا في بناء الدولة الأردنية المعاصرة وتطويرها من أمثال عبدالحميد ووصفي وهزاع، فقد كانوا أصحاب طموح وطني ومشروع قومي ورؤية واضحة لدور الأردن كجزء من محيطه العربي يقوى بقوته ويضعف بضعفه، وقد حرصوا جميعاً على تكريس الأردن كقاعدة من قواعد العمل العربي المشترك، وكحاضنة من حواضن المقاومة للمشروع المعادي لأمتنا. الذي يشكل الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين رأس حربته، والذين يقرؤون الآثار الفكرية لعبدالحميد ومن قبله وصفي يكتشفون بسهولة ويسر مدى إدراكهما لحجم الخطر الإسرائيلي على الأمة كلها وعلى الأردن بوجه خاص. لذلك كانا كغيرهما من رجالات الأردن يسعيان لتحصين الأردن في وجه الخطر الإسرائيلي سواء كان هذا الخطر عسكرياً أم اقتصادياً أم ثقافياً، وليس هذا بالأمر الغريب على رجالات الأردن الذين ظلوا منسجمين مع قرارات المؤتمرات الوطنية الأردنية التي عقدت في عشرينيات القرن الماضي والتي أكدت جميعها على خطورة الحركة الصهيونية على الأمة ودعت إلى حشد الجهود لمقاومة هذه الحركة وإنقاذ الأمة من شرورها، ولذلك لم يكن غريباً أن ينخرط الأردنيون في العمل المقاوم من أجل فلسطين في كل مراحل الثورات الفلسطينية، مثلما لم يكن غريباً أيضاً أن يحول الأردنيون بلادهم معقلاً وحاضنة لكل ثورات فلسطين، ومن قبلها ثورات سوريا في وجه الانتداب الفرنسي وهي الثورات التي انخرط بها الأردنيون وشكلوا لها خزاناً بشرياً ومادياً، فقد أقام الأردنيون دولتهم المعاصرة على أساس الحلم القومي بالوحدة والحرية والتحرير. وهو الحلم الذي عاش ومات عليه عبدالحميد ووصفي وغيرهما من رجالات الأردن الذين يحاول البعض اليوم أن ينسونا إياهم في إطار مخطط خلعنا من محيطنا الجغرافي والقيمي الذي يشدنا إلى عروبتنا وإسلامنا..
ومثلما كان رجالات الأردن الأوائل من أمثال وصفي وعبدالحميد وهزاع ومن تلاهم من أمثال بدران وعبيدات والمصري يمتلكون رؤية لدور الأردن في محيطه العربي وأن قيمة الأردن وأهميته تنبعان من هذا الدور ومدى التزامه به، فإنهم يتميزون أيضاً بطبيعة العلاقة التي ربطتهم بقيادتهم، فقد أصر هؤلاء الرجال على أن يكون كل واحد منهم مستشاراً مؤتمناً لقيادته يبدي بين يديها رأيه مهما كان مراً ومخالفاً لما هو سائد، فقد كان الإخلاص عند هؤلاء يõقاس بمقياس الصدق على قاعدة صديقك من صدقك لا من صدقك . ساعدهم في ذلك تشجيع القيادة على سماع الرأي الآخر وقدرتها على استيعابه وتفهمه، والاستفادة منه عبر توظيفه لمصلحة الوطن والأمة تجسيداً للقاعدة الذهبية في الحكم التي كرسها التراث السياسي للأمة وخلاصتها: لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها.. ، وفي ظل هذه القاعدة يتراجع دور النفاق والمنافقين في الدولة والمجتمع وهما أخطر ما يمكن أن تبتلى به دولة ويõصاب به مجتمع، ولعل من أسباب قوة الأردن ومنعته وخاصة في عقود التأسيس الأولى للدولة الأردنية المعاصرة أنه لم يكن للمنافقين فيه دور يذكر، أو أن صوت المستشارين المؤتمنين كان يخرسهم ويدفعهم إلى الصفوف الخلفية. ليتصدرها رجال لم يعتادوا على الاختباء وراء قيادتهم لتمرير مشاريعهم أو الإساءة لغيرهم على العكس من ذلك، فقد كان رجالات الأردن يفدون وطنهم وقيادتهم بأرواحهم عندما تستدعي الضرورة. ولذلك خõلد في الذاكرة الوطنية أمثال وصفي وهزاع واحترم الأردنيون أمثال أحمد عبيدات وطاهر المصري في محاربتهم للفساد ودعوتهم للحريات العامة.
ومثلما تميزت علاقة فئة من رجالات الأردن بالقيادة، فقامت هذه العلاقة على أساس المكاشفة والمصارحة، حرصاً على سلامة المسيرة، فقد تميزت علاقة هؤلاء الرجال مع المناصب العامة. وأول علامات هذا التميز أن هؤلاء الرجال لم يكونوا يستمدون قوتهم ومكانتهم من هذه المناصب، بل لقد كانت المناصب هي التي تستمد هيبتها ووقارها منهم، لأنهم كانوا يأتون إليها بروافع حقيقية من الكفاءة ومن المواقف المميزة. وقبل ذلك وبعده من قواعد شعبية حقيقية تمدهم بالقوة والعزيمة سواء كانت هذه القواعد أحزاباً بعضها فوق الأرض و بعضها تحت الأرض. بعضها محلي صرف، وبعضها الآخر شكل امتداداً لأحزاب عربية وإسلامية لم يكن الانضمام إليها يõجرم قانوناً، فقد كان الجميع يؤمنون بأن بلاد العرب أوطاني ، وبأن الهم واحد والهدف واحد من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، وقد كانت الأحزاب في تلك العقود ذات حضور حقيقي وتأثير فاعل في حياة الناس وسلوكهم.
ومثل الأحزاب شكلت العشائر روافع حقيقية للكثير من أبنائها ليسهموا في بناء الدولة، وأن يكونوا من رجالها. ولكن على أساس الكفاءة التي يدعمها الخلق القويم والنزاهة والحرص على اسم الرجل وعشيرته من أن تشوبه شبهة فساد أو محسوبية أو عمالة، وقد حقق الأردنيون في تلك الحقبة من عمر الدولة مزاوجة رائعة بين الأخذ بأروع ما في الحياة الحزبية من انضباط وعمل جماعي وبين أفضل ما لدى العشيرة من الأخلاق الكريمة، وبهذه الأخلاق كان يعمل ويتعامل رجالات الدولة الأردنية أو جلهم على أقل تقدير مع المناصب العامة، فكانت تلك المناصب قنوات لبناء الدولة وخدمة المواطن أو وسيلة للثراء والإثراء ولم تكن قناة لعقد الصفقات وإبرام العقود، تجارية كانت هذه الصفقات أم وظيفية كانت هذه العقود، قبل أن أظلنا زمان صار فيه المنصب العام وسيلة للوصول إلى عقد الصفقات التجارية الكبرى، وصرنا نسمع فيه عن وزراء ومدراء عامون يستثمرون وجودهم في مناصبهم للتفاوض على عقود عمل في شركات ومؤسسات أخرى، صار المنصب العام وسيلة لتحسين شروط التفاوض معها، مما يشكل خروجاً فاضحاً على أخلاقيات الوظيفة العامة التي عرفت بها الإدارة الأردنية في سنوات ازدهارها يوم كان من المعيب الجمع بين التجارة والإمارة. ويوم كان الإثراء غير المشروع من الكبائر الاجتماعية، قبل أن يكون من الجرائم التي يحرمها القانون. ويوم كان الحرص على المال العام أشد من الحرص على المال الخاص، لذلك لم يكن غريباً أن يموت رؤساء وزارات ووزراء في الأردن من أمثال وصفي وعبدالحميد وذممهم مشغولة لدائنيهم، فقد كانوا يستعينون على حوائج معيشتهم بالاقتراض قبل أن يظلنا زمن الخصخصة الذي صار فيه من شروط المنصب العام أن يكون من يتولاه من المحترفين بحسابات الربح والخسارة المادية، أما أولئك الرجال فقد كان همهم تنمية قدرات الوطن ومؤسساته. والحفاظ على أمواله وممتلكاته. وحماية مناصبه العامة من شبهات الفساد حرصاً منهم على صورتهم أمام شعبهم. فقد كان رأي الناس يهم هذه الفئة من رجالات الأردن التي كانت حريصة على التواصل مع كل شرائح المجتمع تواصلاً حقيقياً قائماً على الإحساس بألم الناس وهمومهم. لذلك كان لدينا رئيس وزراء مثل مضر بدران يهتم بأسعار المواد التموينية وبقدرة المواطن على شرائها مثل اهتمامه بأخر التطورات السياسية إقليمياً ودولياً. ذلك أن رجل الدولة الحقيقي هو الذي يؤمن بأن المجتمع الآمن على رغيف خبزه وقوت عياله هو المجتمع القادر على حماية منجزاته والدفاع عنها وحمايتها من أي خطر...
والتواصل مع الناس الذي شكل ثابتاً من ثوابت الدولة الأردنية ورجالاتها لم يتوقف عند شكل الثلاثاء المفتوح أيام حكومات الشهيد وصفي التل أو شكل التواجد في دواوين الناس وأفراحهم وأتراحهم ومشاركتهم مشاركة وجدانية حقيقية بهمومهم باعتبارهم أهلهم وعشيرتهم، بل لقد سعى رجالات الأردن إلى تأطير الناس في أطر جامعة لهم يستطيعون من خلالها توظيف إمكانياتهم وحشد طاقاتهم، ولم تزل في ذاكرة الأردنيين معسكرات الحسين للبناء والعمل، وكذا خدمة العلم وصولاً إلى السعي لإقامة تنظيم وطني جامع أو إصدار ميثاق وطني يلتقي عليه الأردنيون إلى غير ما هناك من صيغ نجح بعضها وأخفق بعضها في إطار سعي رجالات الأردن الراسي إلى تعبئة الأردنيين وتنظيم صفوفهم قبل أن يظلنا زمان صار هم بعض الذين يتولون المناصب العامة في بلدنا إضعاف كل إطار من شأنه أن يجمع الناس إضعافاً للناس وللوطن في وجه المخاطر التي تهدده..
في ذكرى وفاة عبدالحميد شرف نستذكر شعاره لترشيد الاستهلاك، فنبكي على ما فعلته فينا سياسات بعض الحكومات التي شجعت ثقافة الاستهلاك التي استباحت كل شيء حتى قيمنا، فصار الفساد مباحاً، وصارت الإشارة إليه مدعاة للتهمة ليس للفاسد، بل لمن يحاول أن يحذر منه.
وبعد، فقد مضى هزاع ومن بعده وصفي ومن بعدهما عبدالحميد شرف وتبددت أحلام وانكسرت إرادات، لكن هذا الوطن لن ينكسر وسينتصر على كل الذين يحاولون تشويه مسيرته وحرفها عن مسارها الصحيح، فقد تعلمنا من قراءة مسيرة الرجال والأوطان أن الوطن هو الذي ينتصر في نهاية المطاف وعندها تسعد أرواح شهدائه والخلص من أبنائه عليهم جميعاً الرحمة..

(105)    هل أعجبتك المقالة (104)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي