المقامة الشوارعية
حسن بلال التل
كان يا ما كان في قديم الزمان....كان هناك محافظة بعيدة وكان الطريق إليها صعباً وعراً وطويلاً، وفي منتصفه يسكن شبح مخيف يسميه الأهالي بالدّبّة والزوار بوادي الموت، وهذا الشبح كثيراً ما ابتلع من لحوم وعظام وأرواح الأهالي والمارة، لذا فقد قررت حكومة البلاد الرشيدة آنذاك أن تفتح طريقاً يفصل بين الناس وبين شبح الّّدبة ، وييسر طريق المارة إلى تلك البلاد البعيدة المسماة الكرك ...
وهكذا أرسلت الحكومة المنادين وطرحت العطاءات والمناقصات منادية بمقاول مغوار يشق الطريق وينقذ أرواح المواطنين من براثن الموت وواديه وبالفعل بدأ المقاول أعماله، فهجمت الجرافات ومن ورائها الشاحنات وقبلهما أصابع المتفجرات، تدك الجبال وتسوي بالأرض التلال، فاستبشر الناس خيراً، وبدؤوا يعدون العدة ليوم النصر المبين والافتتاح المكين، لكن مضى الشهر بعد الشهر والعام بعد العام حتى زادت الأعوام على العقد والأيام عن العد، وبعد أكثر من 15 عاماً تم افتتاح الطريق الذي ظنه البعض في طول الدهر وعرض البحر، لكن كانت المفاجأة أنه لم يزد طولا على أربعة وعشرين كيلو مترا وعرضه عن الأربعين متراً، أما النكتة فإن هذه الكيلو مترات كلفت بقدر عددها من الملايين والآلفات، حيث افتتح الطريق ومعه أعلن أن كلفة إنشائه بلغت 24 مليون دينار...، وهكذا صاح الديك في كبد الليل استغراباً وأغمي على شهرزاد لهول ما سمعت فما أطاقت له حساباً.
كان هذا قارئي العزيز سيناريو أحد مسلسلات الخيال العلمي الممزوج بالفانتازيا التاريخية الذي تنتجه الحكومة الأردنية استعداداً لعرضه في شهر رمضان القادم على أن يستمر لبضع آلاف من الحلقات تستمر طالما مدّ الله بعمر الشعب فبقي حياً، حيث لو قسمنا كل يوم عمل في هذا الشارع العجيب إلى بضع حلقات لاستمر مسلسل طريق القطرانة - الكرك إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.
فهذا الشارع بعد أن تم إنجازه وافتتاحه تبين أن طوله 24 كليومتراً فقط، وأظن أن الله وحده هو العالم بالمدة التي استغرقها شقّه، فعلى سبيل المثال قد مضى على دخولي جامعة مؤتة في الكرك، ثم التخرج منها 10 سنوات، دخلت وتخرجت خلالها وكان الشارع لا يزال قيد الإنشاء، وعندما دخلت الجامعة كان هناك عدد من الأقارب والأصدقاء ممن أوشكوا على التخرج، وأيضاً كان مشروع الشارع العتيد قد سبقهم إلى الكرك وبقي خلفهم بعد أن تخرجوا منها وخرجوا والآن أعلن عن افتتاحه أي أنه على أقل تقدير قد استغرق 15 عاماً بالتمام والكمال...
وبحسبة بسيطة قارئي يا رعاك الله، وباستخدام المعطيات القليلة جداً المعروفة لدينا وهي أن الطول 24كم، والكلفة 24 مليون دينار، والمدة 15 عاماً شمسيا نقدر أن في العام الواحد منها 270 يوم عمل بعد اقتطاع عطل نهاية الأسبوع والعطل والأعياد الدينية والرسمية، نخرج بالنتائج التالية: أن مجموع أيام العمل هو 4050 يوماً، بلغت كلفة اليوم الواحد منها 6000 دينار أردني لليوم الواحد، ومقدار الإنجاز هو 9,5 متر زفتة يومياً، أي أن كلفة متر الزفتة الواحد على الميزانية التي هي بالتأكيد جيب المواطن بلغت 1000 دينار، بمعنى أننا لو أردنا أن نبني هذه الكيلومترات الأربعة والعشرين بنظام فلل عبدون (تلبيس حجر معان وتشطيب سوبر ديلوكس) لكانت كلفتها أقل من ذلك بكثير، ومع ذلك فقد افتتح الشارع برعاية حكومية فخمة ووسط احتفال مهيب وأزيح الستار وقصّ الشريط وذبحت الخراف وأهرقت زجاجات البيبسي والسفن، ورقص المواطنون الذي يسكنون الخرابيش ابتهاجاً بشارعهم الذي كلفهم ثمنه ثمن بضع آلاف من الوحدات السكنية الصغيرة التي كان من الممكن أن تستر عشرات الآلاف منهم...
على فكرة، لقد أثبت هذا الشارع أنه أكثر قدرة على التحمل من كل الحكومات، فقد تقلب عليه عشرات الوزراء والوزارات ومئات الموظفين والكثير من المقاولين، وربما بضع آلاف من العمال، كل هؤلاء وõجّه لهم الشكر أثناء حفل الافتتاح البهيج، لكن الغريب أن أيّا منهم لم يحول إلى محكمة بتهمة فساد ولا دفع غرامة بدل الشفط من جيوب العباد، ويعيش الشارع وزفتته ومقاولوه ومنتفعوه وليذهب المواطن إلى الدّبّة ولا أظنها ستقبل به....
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية