أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

"النظام" و"الدولة".. شيفرة المتوازيين المتقاطعين على الأرض الشامية

الشموليون يخلعون على أوامرهم صفات "الإلهية"، ويريدون لمحكوميهم أن يكونوا إزاءها ملائكة

طوال تاريخهم الموثق بالزمان والمكان، لم يكن "الخوارج" -بوصفهم فرقة عقائدية- أكثر وضوحا في ميلهم نحو السلطة والتسلط، من الوقت الراهن، كما يعاين الكثيرون على "الأرض الشامية" بالذات.

وطوال هذا التاريخ أيضا، لم يكن "الخوارج" -بوصفهم فكرا- أشد مجاهرة في تبني "المذهب الشمولي" من المرحلة الحالية، ما جعلهم الوجه الآخر لنظام الأسد، وبات من الأسهل على أي متتبع أن يعد نقاط الاختلاف بين الطرفين -إن وجدت-، بعد أن صارت نقاط التماثل والتطابق أكثر من أن تحصر.

وقبل البدء في بسط الحديث، قد يفيد التذكير بأن "الخوارج الجدد"، الذين يمثلهم تنظيم "الدولة" ومن تبنى فكرهم، يعلنون قتال نظام بشار الأسد بوصفه "نصيريا" أولاً، وليس بوصفه نظاما شموليا قهريا، سلب العباد حقوقا منحهم إياها رب العباد، وأسبغ هذه الحقوق والنعم الحرية التي يعاب على السوريين مناداتهم بها، ويقال إن مطالبتهم بها قد لاتقوم على أرضية شرعية معتبرة، رغم أنها الحق الذي صرح به عملاق الإسلام "عمر بن الخطاب"، عندما أمر بضرب ابن الصحابي "عمرو بن العاص"، متسائلا
باستنكار: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!".

ولأن المعتدى عليه لم يكن "عبدا-رقيقا" لدى المعتدي، فقد ثبت أن الحرية التي نص عليها الخليفة الثاني واستنكر سلبها، هي الحرية بمعناها الأوسع الأعم، بل في معناها الأرقى الذي ينبه المحكوم إلى حقه في منافسة ومساءلة وعقاب أصحاب السلطة، قبل أن تنمو في دواخلهم بذرة "الفرعنة" متحولة إلى شجرة ضاربة الجذور.

من هنا، فإن "الخوراج الجدد" لايستطيعون ولو للحظة أن يعلنوا قتال نظام مستبد لأنه "شمولي"، فلو أعلنوا ذلك أو أقدموا عليه لوجدوا أنفسهم يقاتلون أنفسهم، ويطعنون عقيدتهم التي يدافعون عنها.. 

عقيدة "من ليس معنا فهو ضدنا"، التي يبلورها بشار عندما يقول بلسان حاله وفعاله: "من لايرضاني رئيسا أبديا فهو إرهابي تكفيري أو عديم الوطنية" يستحق البراميل والكيماوي.. ويجسدها البغدادي عندما ينعت كل من يرفضون أوحتى يترددون في بيعته "خليفة للإسلام والمسلمين" بأنهم مرتدون وكفرة، يستحقون تفجيرهم بالمفخخات أو الذبح.

ولعل هذا التطابق في اعتناق العقيدة الشمولية وتقديسها باعتبارها أنجع الوصفات لحكم "الرعية"، هو أحد أقوى التفسيرات التي تحاول فهم ميل البعثيين المتشددين للانخراط في تنظيم "الدولة" أكثر من غيرهم، إذ وجدوا في التنظيم –بعد انهيار البعث- استدراكا لإخفاقهم في مواصلة تطبيق عقيدتهم المهووسة بـ"صب" المجتمعات البشرية ضمن "قالب" واحد ووحيد، ينبغي أن تكون لـ"مخرجاته" من البشر نفس التصورات والخصائص، وحتى ردود الأفعال، حتى يغدوا مؤهلين لحكم "القائد الملهم" بل ومستأهلين لمكرمة زعامته عليهم.. وهي نظرة لا محل لها في أي منطق بشري سوي، ولم ولن يكون للإسلام ولا حتى العروبة علاقة بها من قريب أو بعيد.

إن المسلّمة التي تؤكد أن الخطين المتوازيين لا يمكن أن يلتقيا أو يتقاطعا، هي حكم مطلق في سياقها الرياضي، لكنها محفوفة بالشكوك في ميدان العلاقات البشرية، بمستوياتها الفردية والجماعية، وحتى
الدولية، فخطا "النظام" و"الدولة" متوازيان فعليا، لكن نقاط تقاطعهما لاتكاد تعد، لاشتراكهما في العقيدة الشمولية، التي تقيس المبادئ والأشخاص وحتى الأدوات دونما أي تمييز بنفس "المسطرة"، حيث لامكان لعقيدة أو فكرة أو فرد أو مؤسسة أو كلمة أو حتى حجر على قارعة الطريق، لاينتمي لـ"المنظومة" أو يشذ عنها.

وخلاصة "الشمولية" المبسطة، أن كل ما تحت سلطان الرئيس أو الخليفة ينبغي أن "ينبع" من رؤيته ويعود لـ"يصب" في خدمة تضخيم هذه الرؤية وتنزيهها وتقديسها، تمهيدا لجعلها بمثابة "أمر إلهي"، على البشر الخطائين أن يكونوا إزاءه ملائكة لايعصون ما أمروا به، ويفعلون ما يؤمرون.

إن النظر إلى التوازي في خطي "النظام" والدولة" فقط، هو الذي يرجح لدى فريق من الناس الشعور ببراءة "الدولة" من العمالة للنظام أو لاستخبارات أعداء الشعب السوري، كما إن النظر إلى تقاطع الخطين فقط هو الذي يولد شعورا لدى فريق آخر بأن "الدولة" ليست سوى دمية إيرانية، أو صنيعة أسدية.. في حين أن النظر إلى "المتوازيين المتقاطعين" قد يمكننا من فهم ماهية العلاقة المتشابكة بين الطرفين، رغم ما يثيره هذا الفهم من تشويش يعتّم على الحالة أكثر مما يجلّيها!.. ولكن ما الحيلة إذا كانت هذه طبيعة التنظيمات والأنظمة المتلبسة بالأسرار والباطنيات السياسية؟!

هناك نقطة أخرى، لايمكن إغفالها عند الحديث عن التقاطعات بين "الخوراج الجدد" والأنظمة الاستبدادية، لاسيما نظام الأسد، وهي التقاؤهما في دائر الأقلية، ولست أقصد المعنى الدراج والضيق لهذه الكلمة، والذي يشير إلى المذهب أو الدين، بقدر ما أقصد المعنى العميق الواسع، فالمستبد من الأقلية حتى ولو كان ينتمي للأكثرية أو يدعي الحكم باسمها، لأنه انعزل بنفسه عن محكوميه.. فكيف إن
اجتمعت هذه "الأقلوية" المكتسبة بفعله إلى "أقلويته" التي ولدت معه؟!

و"الخوارج" كعقيدة وفكر، ورغم كل ما استخدموه عبر تاريخهم من قتل وترهيب ولي لأعناق النصوص، بقوا أقلية، بل وأقلية منبوذة بين المسلمين قبل غيرهم، وهذا ما يفسر التحامهم مع الطغاة، سواء شعر هؤلاء الخوارج بهذا الالتحام ورضوه أم غلفوا عنه وأنكروه. 

أخيرا: هل في الطرح المعروض أعلاه تزكية لرؤية من يستميتون في سبيل إيجاد علاقة ولو وهمية بين الإسلام والاستبداد؟.. نعم! إذا كان للشمولية -حسب ما أراها- علاقة بالحرية.. ولن يكون.

إيثار عبدالحق-زمان الوصل - نائب رئيس التحرير
(119)    هل أعجبتك المقالة (111)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي