يعرف الجميع سياسة العصا والجزرة التي تمارس من خلالها أمريكا النفوذ بالترهيب والترغيب لكن غياب العصا في الحالة الإيرانية جعل التساؤلات تثار حول ماهية السياسة الأمريكية تجاهها ومسار تغيراتها.
العداء المستمر بين أمريكا والغرب منذ الإطاحة بحليفها الشاه الذي كان يلعب دور شرطي الخليج نيابة عنها بقي لعزا محيرا حتى للخبراء والمحللين، ففي الوقت الذي كان يرى بعضهم وصول الأمور بين الطرفين للصدام لا محالة كان الآخرون يثقون بعدم حصول ذلك تحت أي ظرف ﻷن تفاهمات غير معلنة موقعة بين الطرفين، ما يجعل من المستغرب الفهم كيف يمكن أن يحصل التفاهم بين قادة إيران الذين شعارهم الحرب ضد الشيطان الأكبر الولايات المتحدة ونصرة المستضعفين حول العالم وتقديم الدعم للحركات والمنظمات التي تحقق لها تلك الأجندة مثل حزب الله اللبناني وحركة حماس الفلسطينية.
كانت البوصلة تسير بشكل معاكس للتوقعات عند حدوث احتكاك ينذر بالصدام بين الطرفين ولا يلبث ذلك أن يتحول لتهدئة وتنسيق غير معلن.
خلال الحرب العراقية -الإيرانية منعت أمريكا انتصار عراق صدام حسين وقتها على إيران عدوها الأول، ووصل الأمر لحد تزويدها إيران بالسلاح في فضيحة مدوية أطلق عليها "إيران غيت".
عندما دخلت قوات التحالف أفغانستان لقتال طالبان وباتت على حدودها، فإن إيران أغلقت حدودها تماما في وجه التنظيمات المناوئة ﻷمريكا وعلى رأسها القاعدة ومنعت نشاطها من أراضيها في خطوة لم يعلن عما وراءها.
كان بديهيا أن إيران ستجير حرب الخليج الأولى التي شنتها قوات التحالف على العراق بعد احتلاله الكويت لتقوية نفوذها عبر الشيعة المرتبطين بمرجعيتها الدينية، ولكنها لم تنجح في قلب نظام الحكم وقتها، الأمر الذي تأخر لحرب الخليج الثانية، حيث تم الإطاحة بحكم صدام حسين وأصبح لإيران النفوذ والكلمة الفصل في حكم العراق منذ أن بدأت العملية السياسية في العراق بعد ذلك.
استغلت إيران نشر المذهب الشيعي عبر مرجعياتها الدينية لصالح تحقيق نفوذ سياسي قومي، وبات من الصعب التمييز في نشاطاتها، بين الديني والقومي وباتت الحسينيات متتشرة بكثرة وأصبحت ممارسة الطقوس الشيعية الخاصة مألوفة في العديد من الدول، وأصبح لإيران نفوذ واسع في العراق ودول الخليج العربي ولبنان واليمن، وأخيرا سورية بعد الثورة ولم تعد هيمنة إيران على القرار السياسي في أربع عواصم عربية هي بغداد وصنعاء وبيروت ودمشق موضع شك أو خلاف بل لم يعد مستغربا تسمية ذلك بالاحتلال الإيراني.
عدم وقوع الصدام بين أمريكا وإيران رغم توفر الظروف العملية لحصول ذلك مرارا يجعل من المنطقي البحث عن الأسباب الخفية ويفتح الباب أمام التكهنات المختلفة وصولا لنظرية المؤامرة التي تفترض حالة اتفاق سري بين الطرفين تمنع وقوع صدام بينهما.
صحيح أن السمة الغالبة للسياسة الأمريكية هي البراغماتية ولكن من الصعب فهم الاتفاق مع نظام سياسي أصولي يقوده رجال دين متشددون وما هي القواسم والمصالح التي تسمح بتحقيق ذلك.
إضافة للاحتياطي النفطي الكبير الذي تمتلكه إيران، فإنها تتمتع بموقع جغرافي هام تستطيع من خلاله السيطرة على المضائق والممرات التي يتم تصدير نفط الخليج من خلالها بل تهديد حقول النفط في الخليج نفسه، وبالتالي إحداث اضطراب في الاقتصاد العالمي وتهديد السلم فيما لو قامت حرب ضدها ولكن يتم الرد على هذا الادعاء بأن إيران لم تستطع تحقيق نصر على العراق خلال أكثر من ثماني سنوات وهي لا تستطيع بالفعل مواجهة تحالف دولي قوي ضدها وهنالك عملية تضخيم لقوتها لتبرير سياسات المهادنة والتفاوض معها وتخفيض احتمالات المواجهة.
تعمل الولايات المتحدة ظاهريا على استرصاء إيران وإفساح المجال لها للتمدد في المنطقة ونشر المذهب الشيعي بشكل واسع، وهذا يساعد في إذكاء الصراع المذهبي في المنطقة، حيث تخوض دولها حروبا بالوكالة تستنزف قدراتها وتضعقها وتحولها لدول فاشلة فاقدة للسيادة من السهل السيطرة عليها والتحكم بمصائرها، وبالطبع فإن غياب إسرائيل عن المشهد كليا لا يمكن فهمه سوى برضاها عما تسير به الأمور في المنطقة.
عندما تفرح إيران بنشوة انتصارها جراء توسع نفوذها ستكتشف بشكل متأخر حجم التكاليف الطائلة التي يجب عليها دفعها لحماية إنجازاتها الوهمية، ولأنه لا يمكنها الانسحاب والتراجع، فإن الاستمرار سيقودها لمزيد من التدهور وسيؤثر ذلك في النهاية على الداخل الإيراني الذي سينتفض على نظام الملالي ويسقطه ويحقق الأهداف الأمريكية وهي مستفيدة دون أن تدفع أي ثمن.
تؤكد الوقائع نظرية الاسترضاء والاستنزاف، ففي الوقت الذي تجري فيه المفاوضات بين الغرب وإيران حول ملفها النووي ويتم مجاراتها فيه وإعطاءها بعض الحوافز وتخفيف العقوبات الاقتصادية عنها، تجري لعبة مكشوفة بتخفيض أسعار البترول لإنهاك الاقتصاد الإيراني والروسي، الأمر الذي تدفع ثمنه دول الخليج العربي ويستفيد منه الغرب بشكل مباشر، وهكذا خطوة لا يمكن ﻹيران أن تحتج عليها أو تفعل أي شيء تجاهها.
يحلو للبعض تصوير إيران كدولة قوية بناء على تمددها في المنطقة ودورها المحوري وتدخلها المباشر في سورية، بحيث بات هنالك نوع من الاعتقاد بأنه لا يمكن إيجاد أي حل للأزمة السورية بدون رضا إيران وموافقتها. ويبدو أن إيران وقعت في فخ الملف السوري، حيث باتت ملزمة بتقديم الدعم للنظام وعدم تركه فريسة للسقوط، ومع ذلك لن تستطيع حصاد نتائج من هذا الملف في نهاية المطاف وسيتم العمل على مقايضته معها بملفاتها الداخلية.
عندما سيصل استنزاف إيران للحد الأقصى، فإن الولايات المتحدة ستتوقف عن استرضائها، كما فعلت مع روسيا من قبل.
ولا يخفى اتخاذ القرارات في مجلس الأمن بدون اعتراض الروس، وفي النهاية سيتحول التعامل مع إيران بشكل قاسٍ ومختلف تماما، وسيبدأ النغوذ الإيراني بالتقلص والمد الشيعي بالانحسار ...
يبدو أن دول الخليج العربي تنتظر ذلك بفارغ الصبر، بينما تأمل أمريكا أن تقطف ثمرة سياستها في استنزاف إيران.
هل يمكن توجيه دفة الأحداث والسيطرة عليها وفقا لسياسات مرسومة مسبقا؟ أم سيتم ابتداع أساليب جديدة للتعامل وفقا لتطور الأحداث؟
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية