بعد شبهة (الخوف على الإسلام)، تُثار عند رفض موضوع المراجعات شبهةٌ ثانية، في سوريا تحديداً، وتتمثل في أن مثل هذه المراجعات تشغل الناس عن المهمة الأساسية المتمثلة في مقاومة النظام. ورغم إمكانية حدوث هذا إذا كانت النياتُ سيئةً، أوطريقة التفكير في المراجعات وتنفيذها تقليديةً وفوضوية. إلا أن الحقيقة هي عكسُ ذلك إذا أردنا التفكير بطريقةٍ علمية. فضلاً عن أن ممارسات وتجارب الأمم والدول عبر التاريخ تُثبت تلك الحقيقة عملياً.
فالنظام يعتاشُ منذ اللحظة الأولى على دعوى التطرف، ثم على واقع الإرهاب الذي أنتجه ذلك التطرف أفكاراً ومنظمات، ربما بنفس الدرجة أو أكثر من اعتماده على جهوده الذاتية والمساعدات التي تأتيه من الخارج. وفي غياب المراجعات الجادة والحقيقية لفهم الإسلام وتنزيله على الواقع، فإن صعود التطرف بات أكبرَ ورقةٍ في يد النظام إعلامياً وسياسياً واجتماعياً، يستعمُلها ضد الثورة وأهلها داخلياً وإقليمياً وعالمياً، وصار أكبر عائقٍ داخلي يخلق الكوابح والمطبات في كل مايتعلق بالثورة وأدواتها وحاضنتها.
ورؤيةُ الواقع بشكلٍ عميق، بعيداً عن المظاهر السطحية، تُظهر أن كثيراً من الأطراف المتداخلة في الموضوع السوري تَطربُ أصلاً لوجود التطرف، وتعتبره عنصراً رئيساً في تبرير الاستقالة السياسية والأخلاقية للنظام الدولي من (الهم) السوري. بحيث يبقى المتضررُ الأولُ والأكبرُ من غياب المراجعات وغلبة التطرف سوريا وثورتها وشعبُها، وإسلامُها الأصيل.
في مقابل هذا، للمفارقة، تأتي الظنون والمقولات التي تربط كل دعوةٍ للمراجعات والإصلاح بأنها استجابة لرغبات الغرب أو أمريكا أو أي طرفٍ من الأطراف. ويتصاعد الحديث أحياناً عن (إسلامٍ أمريكي) و(إسلام أوربي) وماإلى ذلك. وهناك أخيراً مقولة (الخوف من الفوضى)، حين يعتقد البعض أن إغلاق الباب، بإحكام، على (الإسلام كما نفهمه) هو الوسيلةُ الأكثر أمناً للحفاظ عليه. وهذه مأساةٌ ينبغي إعادة النظر فيها بشجاعةٍ وتجرُّد.
لامفر من إعادة التذكير بأعلى صوت، والنداءُ موجهٌ للإسلاميين، ممن يخافون على الإسلام حقاً، مشايخَ وحركيين ونشطاء، ولكثيرٍ من المسلمين، إعادةِ التذكير بأن الباب، الذي يستميتون لخَتمهِ بالأقفال، أصبح مفتوحاً على مصراعيه منذ زمن. فالإسلام بات شأناً عاماً، كما ذكرنا في بداية هذه المقالات. وبغض النظر عن النيات، فقد صار الحديث فيه مشاعاً لكل الناس، لأنهم يرون أنه يؤثر في حياتهم ويصنع حاضرهم ومستقبلهم، ولم يعد ثمة معنى للعودة إلى (كهنوتية) تحصر الحديث في الدين في طبقةٍ معينة. بل إن المفارقة الغريبة، أن شريحة رجال الدين هي الأكثرُ سكوناً وقلة حركة وتَمَسُّكاً بالحرفية، حين يتعلق الأمر بفهم الإسلام في ضوء المتغيرات الكبرى الراهنة، بدلاً من مواكبتها، على الأقل بقاعدة ابن القيم المشهورة التي تقول بـ (تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال والعوائد والمقاصد والنيات)..
لاخوف على الإسلام من مراجعاتٍ جدية وحقيقية وشاملة وعميقة يقوم بها أهل العلم والاختصاص. بل الخوفُ عليه إن لم يحصل هذا.
لامهرب من الفوضى، ولامفر من ظهور إسلامٍ أمريكي وأوروبيٍ، بل ونسخٍ عديدةٍ أخرى من الإسلام، في هذا العصر وفي مثل الظروف التي تمر بها سوريا والمنطقة. لكن الحل الوحيد الذي يمكن أن يُخفف من تلك الفوضى، وقد يُبلور إسلاماً أقربَ للمقاصد والمنطلقات التي أرادها الخالق، لن يظهر إلا في ظل المراجعات، ونَصِفُها، مرةً أخرى، بما يجب أن تكونَ عليه: جديةً وحقيقيةً وشاملةً وعميقة.
هذه فرصةٌ تاريخية بكل معنى الكلمة، ولم يسبق لها أن وُجدت في تاريخ المسلمين. فقد كان الواقع يسمحُ لهم، ولغالبية علمائهم، بالقفز فوق جذور المشكلات الكبرى الكامنة في التراث الإسلامي وفي المدونة الفقهية التقليدية، لأنها كانت (نظريةً) قابعةً في بطون كتب التراث والفقه الضخمة.
صحيحٌ أن كثيراً منها فعلَ فِعلهُ في ثقافة المسلمين، فأنتج واقعاً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً فيه الكثيرُ من الأزمات، وهو لايليق بالقيم الكبرى للإسلام لا على مستوى الأفراد ولاالجماعات البشرية، لكن هذا حدثَ بشكلٍ غير مباشر، وعلى مدى العقود والقرون. لهذا، كان من السهل ألا يرى الكثيرون مفاصل الربط بين هذا الواقع وتلك الجذور.
لكن (داعش) وأمثالها أخرجت جملةً فقط من تلك الجذور من بطون كتب التراث، ومن صفحات المدونة الفقهية الإسلامية، وقالت: هذا هو الإسلام. (داعش) لم تخترع شيئاً من عندها، وإنما قامت بتجميع ما استخرجته ثم أعادت تركيبه على أنه (الإسلام)، بل وأقامت عليه دولةً ونظام حكم، لأول مرةٍ في تاريخ الإسلام والمسلمين بهذا الشكل.
لامهربَ من الاعتراف بهذه الحقيقة أولاً وقبل كل شيء. لاينفع الهروب منها بدعاوى عامة مثل القول بأن (هؤلاء لايمثلون الإسلام)، لأن كل مايستندون إليه من تعاليم منسوبٌ إلى الإسلام، ومقبولٌ، نظرياً، من الغالبية العظمى من الفقهاء والمشايخ! أما القولُ بأن تطبيقهم للإسلام هو الخاطئ، والحديثُ عن مشكلاتٍ في الآليات القضائية وافتقاد الأهلية (السلطانية) للقيام بأفعالهم وماإلى ذلك، فإنه يوقعنا في مشكلةٍ أكبر، لأن مؤداه المنطقي أنهم (يمثلون الإسلام)، فضلاً عن أن هذا المدخل يوقع أصحابه السوريين في شبهة استحالة تطبيق أحكام يرونها جزءاً لايتجزأ من الإسلام، لكنهم ينتظرون لتطبيقها إماماً أعظم لايعلم أحدٌ كيف له أن يظهر في سوريا في هذا الزمان.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية