تعج العواصم الغربية في الآونة الأخيرة باجتماعات وندوات بين ممثلين للطوائف السورية حول دورها وتنظيم العلاقة فيما بينها على أسس جديدة.
لم تخطُ تلك اللقاءات كثيرا إلى الأمام ولا تزال في بداياتها كما يبدو، من حيث جس النبض والجرأة على طرح مواضيع تخص الطوائف كانت ولا تزال تعتبر من المحرمات؛ ويبدو أن دورها مساعدة صانعي القرار في الغرب التعرف على طبيعة تركيب المجتمع السوري وفهم مزاجه ومطالبه في حال دعوة السوريين للجلوس على طاولة المفاوضات التي سيتم فيها إقرار التسوية النهائية من قبل الجميع.
لم يعد من الممكن القفز فوق الحقيقة المرة وهي أن المجتمع السوري تفكك لمكوناته الما قبل وطنية ورغم أمنيات الكثير من السوريين بتجاوز ذلك والاستمرار في الحالة الوطنية، إلا أنه كما يبدو بات من غير الممكن إيجاد حل سياسي بدون العودة لممثلي الطوائف والمكونات السورية والجلوس في طائف سوري لإنتاج عقد اجتماعي جديد لا يتفاءل السوريون كثيرا بخصوص نتائجه على المدى البعيد.
يمكن أن يتم البدء بطرح ملفات الطائفية ونقاشها على الفور، ولكن المؤكد أن ذلك لن يفضي إلى نتائج سريعة أو حاسمة في ظل حالة الغموض والانطواء المزمن اللذين كانت تعيش بهما الطوائف من الأقليات وجهل الأكثرية بحقيقة معتقداتهم.
احتاجت المجتمعات الديمقراطية المستقرة سياسيا سنين طويلة من الحوار بين مكوناتها؛ وربما كان الكثير من السوريين لا يرغبون بفتح ملفات المكونات الطائفية والقومية في المرحلة الحالية، وترك ذلك لمرحلة ما بعد إسقاط النظام؛ ولكن لا يمكن إعادة هذا الملف بعد الآن من القمقم الذي خرج منه، ولا بد من التصدي له وعلاجه بكل جرأة وصراحة بعد أن كان مجرد التطرق للطائفية ممنوعا من قبل النظام لترسيخ ادعاءاته بالعلمانية رغم ممارساته الطائفية الواسعة.
يبدو المجتمع السوري للوهلة الأولى متسامحا تتعايش كافة طوائفه وقومياته ومكوناته بسلام، واستثمر النظام ذلك للتدليل على نهج العلمانية التي يدعو إليها والتي تتماشى مع أهداف ومبادئ حزب البعث وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية اليسارية والماركسية.
أحكم حافظ أسد قبضته على البلاد بالاستناد لعدة عوامل أهمها زج الطائفة العلوية في المواجهة مع المجتمع كطائفة حاكمة، وكذلك من خلال بناء تحالفات اقتصادية واجتماعية مع برجوازية المدن من السنة وتحالفات دينية م رجال الدين من مختلف الطوائف بما فيهم السنة مع الاعتماد على الأقليات بشكل أكثر والتحالف معها عضويا؛ بينما استخدم سياسة فرق تسد ضمن صفوف القوميات مثل الأكراد عبر اختراق صفوفهم بتنظيمات وأحزاب موالية له.
استمر الأسد الإبن في حكم البلاد بنفس طريقة الأب؛ لكنهما كانا يسعيا لتمثيل مكونات المجتمع بنسب دقيقة بشكل خاضع للسيطرة عبر إعطاء كل مكون حسب وزنه وحجمه مناصب ومراكز ضمن مؤسسات الدولة كالمجالس المحلية ومجلس الشعب وغيرها من النقابات والاتحادات، مما يشكل نقطة توازن يمسكها النظام بيده مع استثناءات أكيدة باستمرار لصالح أبناء الطائفة في الأمن والجيش والمراكز الحساسة في البلاد وكذلك في الوظائف العامة.
دفع النظام منذ البداية باتجاه الحل العسكري وساعده على ذلك كون رجال الأمن والجيش أصحاب القرار من أبناء الطائفة العلوية بشكل رئيسي، حي أظهروا عدم الاستعداد أو القبول بتخلي الطائفة عن حكم البلاد، أو في أحسن الأحوال القبول بممثل منهم يقود المرحلة الانتقالية من أجل ضمان حمايتهم من عمليات انتقام وثأر محتملة باتوا يحسبونها ويتوقعونها فيما لو سقط النظام وخاصة مع ظهور كتائب تابعة للقاعدة كتنظيم داعش قامت بأفعال تساعد على ترسيخ تلك التوقعات.
لم يظهر لممثلي العلويين في مؤسسات المعارضة تأثير واضح في عملها، ويبدو أنه ليس لهم وزن كبير ضمن الطائفة يمكن أن يساعد على تغيير مواقفها او طمأنتها؛ وربما كان لسعي المعارضة الدائم على إسقاط النظام كحل وحيد دون التفكير بتقديم مشروع وطني لكل السوريين دور في تكريس مخاوف العلويين وهواجسهم.
يعيش العلويون في البلاد باعتبارهم إحدى الطوائف الإسلامية ويتعاملون ويتعايشون مع محيطهم الإسلامي على هذا الأساس وفي سجلات الدولة؛ وحسب نص الدستور يجب أن يكون رئيس البلاد مسلما، وخلال أحداث الثمانينات كان حافظ أسد يستمر بإعلان إسلامه على الملأ لوقف الاحتجاجات ضده باعتباره علويا وليس مسلما.
نظرة الآخرين للعلويين مبنية من خلال تاريخ طويل تبرز فيه فتاوى "ابن تيمية" الشهيرة والقاسية بحقهم وكذلك اتهامهم بالتعامل مع حملات الحروب الصليبية والتعامل مع الفرنسيين إبان الانتداب الفرنسي والطلب منهم الاستمرار في البلاد وعدم مغادرتها، ومن ثم حكم البلاد والاستئثار بالقوة والسلطة والنفوذ خلال عهد الأسدين، وأخيرا انحيازهم لجانب النظام ضد ثورة الشعب وارتكاب الشبيحة لمجازر وانتهاكات واسعة.
في المقابل بدأت نبرة العلويين تتغير باتجاه الهجوم والشكوى من التطرف والإرهاب ضدهم من كتائب مسلحة مرتبطة بالقاعدة وبات النظام شريكا غير معلن للتحالف الدولي في مكافحة إرهاب داعش.
العلويون الذين كان يطلق عليهم اسم "النصيريين" من قبل في الخرائط وكتب التراث، لم يعلنوا حتى الآن تعاليم ديانتهم التي بقيت غامضة على الدوام حتى بالنسبة للباحثين، ورغم ظهور بعض الكتابات التي بدأت تفصح أن الدين العلوي هو دين مستقل عن الإسلام المعروف، وله طقوسه وتعاليمه الخاصة، إلا أن بعضهم تكلم باعتبار العلوية تيارا فلسفيا تكون عبر تاريخ طويل.
هل يكفي العلويين الحصول على الاعتراف بهم كطائفة مستقلة وممارسة شعائرهم بحرية ضمن الدولة السورية الوليدة في مقابل تخليهم عن حكم البلاد والاستئثار بمصادر القوة والنفوذ؟
لا مفر من عملية مراجعة ومساءلة شاملة سيتعرض لها العلويون كغيرهم من السوريين جراء ما قام أبناء الطائفة من ارتكابات وانتهاكات بحق السوريين قبل الثورة وبعدها والاستفادة من مزايا حكم الأسدين اقتصاديا واجتماعيا بشكل جائر.
إذا كان العلويون حكموا البلاد عبر ما سمي بالعلوية السياسية طيلة عقود فهل سيكون الإعلان عن أنفسهم طائفة مستقلة لها حقوقها الخاصة أكثر فائدة وامتيازا لهم من وضعهم الحالي؟ أم أن ذلك كله مجرد خطوة باتجاه كانتون طائفي خاص بهم؟
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية