يعرف الكثيرون أن الإعلام بات منذ زمنٍ طويل يمثل (السلطة الرابعة) في الواقع المعاصر، بمعنى مسؤوليتهِ في فتح الملفات التي تهم الناس، ومتابعتها، والحوار فيها، ونقد العاملين في الشأن العام من مختلف الشرائح. ولئن كان تطبيق هذه القاعدة متواضعاً قبل زمن الثورات العربية، إلا أنه عاد ليفرض نفسه على الواقع.
من هذا المدخل تحديداً، جاءت الآراء والطروحات التي وردت في مقالات صاحب الكلمات في هذه الصحيفة على مدى الشهور الماضية. وخاصةً تلك التي تتعلق بالدعوة للمراجعات في فهم الإسلام وطريقة تنزيله على الواقع. أولاً من باب الإدراك لدرجة تأثير الإسلام بكل تفسيراته ومجموعاته في حاضر المنطقة والمستقبلها، وهو، بتفسيراته المختلفة، يدخل في تفاصيل الحياة اليومية للواقع المذكور، بدءاً من مستوى الأفراد، وصولاً إلى مستوى الجماعات البشرية المختلفة والمجتمعات والدول.
ثم لأن الإسلام بحد ذاته شأنٌ عام في نهاية المطاف، ومادام تأثيره كبيراً كما ذكرنا، فإن من المنطقي، بل والطبيعي، أن يُفتح المجال لكل هؤلاء الذين يؤثر الإسلام بهم ليطرحوا أسئلتهم المشروعة بخصوصه، ويطلعوا على كل التحليلات والآراء التي تتناوله من مختلف الجوانب. ولاحاجة هنا للتكرار بضرورة حصول هذا في إطارٍ من الموضوعية والاحترام لايتضارب مع الصراحة والشفافية المطلوبة.
وإذ كثُرت في الآونة الأخيرة الملاحظات والآراء والمراسلات التي تتعلق بما طُرح ويُطرح في هذه المقالات، فقد بات مطلوبا، وواجباً تجاه القراء، تحديد جملة ملاحظات منهجية تتعلق بها. حرصاً على رؤية الصورة الكاملة التي كثيراً ماتتناثر أجزاؤها في المقالات المتفرقة. وهو ماقد يجيب على كثيرٍ من الأسئلة والاستفسارات.
قد يُفضل البعض جمع مثل هذا العمل بعد توسيعه في كتاب، بدعوى أن هذا ليس المقام المناسب لطرح الصورة الكاملة. وهذا خيارٌ واردٌ في قادم الأيام، لكن الصراحة مطلوبةٌ في هذا المقام. فقراءة الكتب ممارسةٌ نادرةٌ في ثقافتنا الراهنة، بمعنى أن احتمال وصول الرسالة المطلوبة إلى شرائح واسعة من القراء المهتمين ستكون أقل بكثير.
من جهة ثانية، نعود إلى مابدأناه من حديث عن الصحافة كسلطةٍ رابعة، ومايمكن أن توفره من فسحةٍ للتفاعل العملي، وللضغط الأدبي والمعنوي على أصحاب العلاقة من العاملين في الشأن العام، بحيث تكون استجابتهم لمثل هذه الطروحات، سلبيةً أو إيجابية، أكثر وضوحاً. وبحيث يرى المخلصون منهم أنهم ملزمون بالارتقاء إلى مستوى مسؤوليتهم، كلٌ بطريقته، بدلاً من فتح الملفات الحساسة المطلوبة أمامهم على شكل كتابٍ، من المرجح أن يمكن تجاهله، أو النظرُ إليه على أنه نوعٌ من الترف الفكري في نهاية المطاف.
هذه مقدمةٌ طويلة، ضرورية، للتوضيح بأن الملاحظات المنهجية التي نتحدث عنها، والتي ستحاول، ما أمكن بطبيعة الحال، تبيان أبعاد الصورة الشاملة للطروحات، ستأتي في هذه الصحيفة على شكل سلسلة مقالات، نستميح إدارة الصحيفة والقراء العذر في أن نخرج بها قليلاً عن العُرف الصحافي. وهو عرفٌ ليس مُنزلاً من السماء في نهاية المطاف، والتعامل معه بمرونة يدخل في إطار تحقيق الأهداف الأصلية لدور الصحافة ومهمتها.
هذا مع ملاحظة أن الحديث سيكون في غالبيته العظمى عن سوريا، وعن التفاعل بين (الإسلام) و(الثورة) فيها. وبناءً على هذا نبدأ بطرح الملاحظات في هذا المقال.
فنحن ابتداءً لانؤمن فقط أن حضور الإسلام في الثورة وفي سوريا القادمة هو من طبائع الأمور بالنسبة لبلدٍ مثل سوريا ومجتمعٍ كمجتمعها، بل إننا على قناعة أن ثمة إضافات كبرى، على أكثر من مستوى، ستنتج عن هذا الأمر للبلد وللسوريين ولغيرهم.
لكننا نؤمن أيضاً أن مفرق الطريق يكمن في طبيعة الفهم لهذا الإسلام. ونعتقد، من واقع المعايشة العملية الوثيقة لمختلف شرائح العاملين من ساسة وحركيين ورجال دين ونشطاء، وبناءً على المتابعة والدراسة والتحليل، أن ممارسات الغالبية العظمى من الإسلاميين السوريين تشكل، حتى الآن، عاملاً في زيادة التساؤلات، وأحياناً المشكلات والمصائب، أكثر من قدرتها بكثير على تقديم الإجابات والحلول.
وإن من غير المقبول شرعياً ومنطقياً في هذا الإطار وصفُ كل إبداع بأنه ابتداع. واتهامُ كل تجديد بأنه طعنٌ للأصالة. وأيﱢ خروجٍ على المألوف بأنه منكرٌ وخطيئة. وكل رأي آخر بأنه مخالفٌ للإجماع. وأي دعوة للمراجعة بأنها سبيلٌ لتمييع الدين. كما لايصح أن يقرأ البعض كل نقدٍ على أنه هجومٌ وطعن، ويَروا في كل محاولة للإشارة إلى أخطائهم تَجنّياً وتشكيكاً، ويُرجِعوا، بسرعةٍ وحسم، كل طلبٍ للمراجعة إلى أحد سببين: انحرافُ صاحب الطلب أو مشاركتهُ في مؤامرةٍ ما عليهم.
ويأتي سؤالٌ هنا: لمن يُوجهُ النقد وعلى من تجب المراجعة؟ يُوجه طبعاً للأطراف المؤثرة وتجب المراجعة أولاً عليها. من هنا مثلاً، جاءت بعض مقالاتنا السابقة تحاول فتح ملف المراجعات، وتنتقد أداء أطراف مؤثرة مثل الائتلاف، والإخوان، والمثقفين العلمانيين السلبيين، وأصحاب الفكر التقليدي الإسلامي، وأهل الغلو والتطرف. لم يكن هذا على سبيل التخوين والمناكفة السياسية التي لاتجدي في شيء لاتنفع سوريا وثورتها، ولا من باب (تصفية الحسابات الشخصية) كما اتهمنا البعض، ولا شيئاً من ذلك كله. فهؤلاء جميعاً، وخاصةً الإسلاميون منهم، تصدوا بملء إرادتهم، وبكل وضوح وعلنيةٍ للشأن السوري العام. وإذا افترضنا أنهم يعرفون تبعات الوجود الإرادي في هذه المواقع، فإننا نعتقد أنهم يدركون طبيعة ومستتبعات المسؤولية الملقاة عليهم، وفي مقدمتها النقد والمساءلة والمتابعة.
ثم إن مثل هذه العمليات يجب أن تحصل في العلن لكل الأسباب التي طرحناها أعلاه. ولامجال هنا، في مقام قضيةٍ وطنيةٍ عامة، للحديث عن (المناصحة بالسر) و(العمل على الإصلاح من الداخل).. لأننا لسنا في معرض الحديث عن جماعةٍ وحزبٍ وحركة، وإنما عن قضية وطنٍ وشعب.
إن هذا لايعني حصر عمليات النقد والمساءلة في الإسلاميين. فقد كتبنا في هذا المقام نفسه أكثر من مقال فطرحنا: "العلمانيون إذ يُرسخون (العلمانوفوبيا)"، وتساءلنا عن: "إشكالية تأزيم الحلول: أين الليبرالية الحقيقية؟". وفيها تفاصيل يمكن العودة إليها لإدراك حرصنا على الموضوعية في تحليل المشكلة.
أكثر من هذا، لايجب إغفال دور اللاعبين الخارجيين من المسؤولية. وفي هذا الإطار تحدثنا عن أن "الإرهاب ليس قَدَراً.. لكن هناك من يريد ذلك"، وعن "التقارب الأمريكي الإيراني على حساب المصالح العربية"، وعن "الحاجة لرد استراتيجي على الاتفاق الاستراتيجي بين أمريكا وإيران"، و"كيف يكشف (تشبيح) روسيا الأزمة السياسية والأخلاقية الغربية".
ثمة إذاً محاولةٌ، مهما كانت أولية، لطرح ماأمكن من أبعاد الصورة الشاملة. رغم كل هذا، نؤمن أن مايكمن في القلب منها يتمثل في ترسيخ وتكثيف المراجعات الإسلامية، وصولاً إلى ثورةٍ في الإسلام في سوريا، نراها قادمةً بحكم سنن وقوانين الاجتماع البشري. وهو ماسيكون موضوع الحلقات القادمة.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية