مهداة إلى د. هاشم الطويل
أستاذ الفن الإسلامي
ها قد عاد العكازانِ ينقرانِ على الأرض نقراً قويّا متداخلاَ مايلبثُ أن يخفتَ ويتشتّتَ فأعرفَ أنّ كلَّ عكاز ذهب في جهة .
ماإن ينهارُ طينٌ حتى تهرعُ الشجرةُ إليه تسندُ قامته بذراعٍ حنون. الخشبُ روحٌ أيضاَ. يتوهّجُ بالدفءِ وتنهمرُ من عروقه الألحان.
من جبل العرب جاء سمعانُ الشوفي ليسمعَ أنغامَ أبي مرعي.
قالوا له في كلِّ أرجاء الشام لن تسمعَ عزفاً على الشّبابة أرهجَ وأرقَّ من عزفه. وصل الضيعة بعد غروبِ يومٍ صاحٍ أواخرَ الشتاء.
سأل عن بيت أبي مرعي، وتسابقتِ الأخبارُ تنبئُ بوصولِ عازفِ شبابة تطهّرت رئتاه برياح الجبلِ الأشمّ واغتسلت حنجرته بالثلوج النّقّية.
وقف أبو مرعي بين المستقبلين بقدّه الصغير، وشارباه الكبيران يتراقصان اضطرابا وحميّة. إنهما مصدرٌ آخر لفخره ومحطُّ اهتمامه وعنايته.
لولاهما لظنه الناسُ طفلا في الثامنة من العمر. ذهب مرة لزيارة صديق في ضيعة بعيدة. جاءت صبيةٌ وجلست ملتصقةً به، فزاد من نكوص وجهه حياءً وحيرة، وحين شاء له حظه العاثُر أن يرفَع رأسَه، قفزتِ الفتاةُ من مكانها مذعورة، وقد رأت شاربيه الجليلين.
كانت تلك المرة الوحيدة التي لم يستطع أن يغالبَ فيها شعورَه بالخجل والضآلة إزاءَ قزميته.
أطلقَ أحدُ المغنّين موالاً مرحبًا بالضيف.
سأل سمعانُ الشوفي ثانية عن أبي مرعي. غمزَ أبو مرعي شمّاسًا الملقّبَ بالملك، ففهمَ هذا مرادَه، وتّقدم إلى خزانةٍ محفورة في الجدار على شكل محراب، وُضِع في الطبقة العليا منها مصباحٌ زجاجيٌّ ملون غمر ضوءُه روحَ المكان، وفي الطبقة الدنيا حيث توجّه شماس كنتُ أرقد بأمانٍ على سريري الطيني ، يحرسني خنجرٌ فضي عتيق، أصغي لتنهّدات الطين على اختلاف جبلاته وأستكشف كنهه. لبعضه رائحة الحلم. آخر يغتسل برغوة الذكريات كلَّ صباح فيندى جلده بشذىً مخمّر.
وبعضه له رائحة الامتلاء.. كأحضان الأمهات، وبالطبع هناك طينٌ خالطتِ الشوائبُ مزاجَه فلايمكنُ التآلفُ معه. رغم أنّ خطابي الأولَ كان بلغة الروائح، فإنّ قاموسي اقتصر على الطيّب منها إلى أن قضيت عمراً بين البشر.
حقًا يمتلك الطين الناطق حواساً متمايزة مع ذلك لايعرف الكثيرَ عن عالمنا. يظنني بدائيةَ التكوين، مع أنّ أذني الصغيرة بلحظة تحلّل أنفاسه وتكشف معدنه. أقصد طينته. بعضهم كالضفادع البائسة يفشلُ أن يطيَر ويحلّقَ. وبعضهم.. آه!
أمسكت بي أصابعُ الملك بطراوة وبدأ ينفث أنفاسه في صدري. راح الناس يهتفون: آه ياملك! أخرج سمعانُ الشوفي مزاميره الأربع من حزامه وراح يعزف عليها واحداً تلو الآخر أصواتا مختلفة مظهراً معرفته بأهوائها ونزعاتها جميعا. فاجأتني شبابة منها بعزف رائع. رمقتني بزهو كما نظر صاحبها في عيني الملك.
ساد الصمت والترقب بينما ضجّت في أضلاعي روحُ الجنون. شغلت الجميعَ فكرةٌ واحدة: هل يفقد الملكُ عرشه؟ لقد حافظ على جلاله دائما فلم يدخل مبارزة مع من يفوقه. أما أنا التي استهواني الصراعُ الجميل وخلب لبّي التنافسُ فقد خفت أكثر من الجميع رغم معرفتي أّنّ ماوُهبته من الأصوات لايمكن أن يجتمعَ لناي آخر. خوفي كان ألا يفهمني العازف.
قام الملك من مكانه وسلّم روحي الوجلى إلى أبي مرعي. نظر في عيني الملك بسخرية وقال: صبينا هذا يأتي بأحسن مما أتيت! اتنهد الجميع. هتف بعضهم: الملك هو الملك!
كان أبو مرعي قد طرب أيّما طرب وهو يراقب المبارزة ويزن المساحاتِ الرحبة في نفس سمعان وحركة أنامله الرشيقة المدرّبة. ماإن أمسك بخاصرتي حتى انتفضت أصابعه شوقا للقصب. تنهّد في أذني الصغيرة بنعومة. سرت تنهّداته في عروقي وسكنني هدوءُ النعمة. عبقَ فيّ عطرُ الأرض. نهضتِ الأنفاس السكرى وئيدة من صدر أبي مرعي.
عبرت قلبي واستلّت مافيه من أنين مجروح. غزلته وشاحا وألقته على كتفي الأثير. أمسكنا بأهدابه فترنّح انفعالاً وطرباً، وانطلق بنا من فرجة الباب أمام نظر الجميع وسمعهم ودهشتهم. فاجأتنا النجوم الفضولية كعيون متلصصة, تثاءبتِ التلالُ الغافية. صحا النبُع من قيلولته، وارتعش عشبٌ صغير, مررنا على الأشجار العارية. اهتزت جذورها في باطن الأرض وتدفق من الأعماق نغمٌ آخر. رفعتِ الأشجارُ فروعها النحيلة في ابتهالات سرية، ورقصت. رقصت حتى داخت من فرط السرور والإعياء. مالَ الحورُ والصنوبرُ برأسه قليلا قليلا وهنئ في جلال.
لابتِ الخراف في حظائرها متوفزة للسراح. ثملَ الجبلُ فمدّ ذراعيه ليحتضن بقوة أكبر الضيعة الصغيرة.
عبّأ أبو مرعي كأسه بعبير القصب وأفرغه في جوف العالم، فانتشى هذا وزحف إليه على إيقاع النغم الساحر راكعا أمام قامته الصغيرة. صار أبو مرعي طويلا مهيبا عظيما. تقدم سمعان الشوفي إليه هاتفا بفرح طفولي: وحقّ الربّ أنت أبو مرعي!
أمّا ماكانت تردّده أم مرعي على مسمعه صباحَ مساء فهو أنه لم يتعلّم طوالَ حياته غيرَ السراح بالأغنام واللهو مع الجن بعود فارغ. بالطبع كانت تقصدني أنا، وكأنّها هي هيفاء القد ممشوقة القوام! تلك التي تزيد أبا مرعي طولاً عرض أصبعين فقط وتكاد تتدحرج في مشيتها كالطابة! اعتدتُ أن أطوي أجنحتي وأطفئ حواسي في وجود أم مرعي.
ليس خوفا من سخريتها الباردة، وإنما لأنّ أبا مرعي نفسه ماكان قادرا أن يفردَ روحه أمامها. تتشنج شفتاه وأصابعه وكل عضلة وعرق في جسده، ويصير ظلاً لانقباضات صدرها الأسود. كنا نهرب إلى المراعي. نحتُّ عن نفوسنا صدأ القيود الذي كان يفريها بصمت. نسكبُ في بحر المروج مايعتملُ ويفورُ فينا من وجعٍ وحنين.
وإن طالَ الخريفُ وامتدّ أسرنا في البيت ننتظر دعوةً لحضورِ عرس مع ندرة الأعراس في الخريف والشتاء. عندها يسرع أبو مرعي كتلميذ يتخلص من حقيبته آخر الأسبوع. يصاب بالجنون. يوقع على جسدي أحرّ أنفاسه وأعنف حركات أصابعه وأكثرها صخبا وجلجلة، فتنطلق صبواتي من عيون القلب غجرية مترعة بالحنين والشوق والفخار. عندها لايبقى رجلٌ أو امرأة معتصمين باتزانهما، وينزلون إلى حلقة الدبكة الواسعة يحطّمون قيودهم، ويتملّصون من براثن وحوشٍ كانت تفترس قلوبهم ببطء لئيم. يشهقُ المللُ آخر أنفاسه وتندفع حيواتٌ جديدة... لكنّ توقنا ظلّ للبراري الرحيبة والينابيع المتدفقة... لشقائق النعمان المرتعشة وزهرة الأقحوان البيضاء ذهبية القلب.
سنواتٌ طويلة مرّت على آخر عرسٍ حضرناه. كان أصحابُ العرس من أقارب أم مرعي وكان لابدّ هذه المرة أن تحضر رغم خوفها من الفرح.
قيل إنّ امرأة راحت تمازحُ أبا مرعي وتتندّر من قصره، وهو يتابعُ العزفَ مبتسماً مما أغضب أمَّ مرعي فاستلّتني من بين شفتيه وأصابعه وألقت بي إلى الأرض تحت أقدام الراقصين. أصابني السقوطُ بشللٍ في التفكير. لم أعِ ماجرى.
أيقظتني صرخة سلمى. رأيتها تغطي فمها بيدها الصغيرة، ثم رحلتُ ثانية إلى مناطقَ مجهولةٍ. غبتُ في حلقاتٍ ثمانية مبتدؤها الشذى، أودى بي إلى الماء والنور والهواء فالصدى والتراب. هناك غزلت حكاياتُ السواقي ضفائرَ طفولتي. أينعت عناصرُ ذاتي، فمشيتُ إلى طورِ العشق مفتونا بماهية وجودي. رأيتُ زهرة اللوتس مسكونةً برؤى صوفية وثيرة تقفُ غيرَ وجلى في محيطها الآسن، وقد أبى قلبها البهيُّ أن يشربَ من وسخ العالم.
أثارتني نظرة الترفع الجميل التي تطلّ من عينيها. شغلتني أميرة المستنقعات هذه. امتزجت حكمة قلبها بعناصر ذاتي وباركتني. بها اكتملت حقيقتي. لكنّ ذراعاً من عالم الطين امتدّت فجاءة إلى رمحيَ الذي جلاّه العشقُ وقصفته. سمعتُ نحيبَ حقلٍ كاملٍ من القصب. غرقتُ بدمعه الصباحيّ، ولفّني طورُ الأسى. ثماني حلقاتٍ من عمر الشذى نضجت فيها غاياتي ومقاصدي لأنتهيَ في الأنين؟! لم أعرف جسدي الناحلَ بعدما أقصيَ عن منبته.
صارت أطوارُ عمري أفواهاً سبعة تئنّ كلّما همس المغني في أذني. ردّد القصبُ إحدى إشراقات الروميّ "كلُّ من افترقَ عمّن يتحدّثون لغته، ظلّ بلا لسان، وإن كان لديه ألف صوت"، وردّني ماءٌ من غيبوبتي. كانت سلمى ابنة السابعة ترتجف، وراحة يدها الرطبة تمسك بقلبي. وقعت نظرتها الحيرى على أثلام جسدي، فانكشف لي زمنٌ آخر شردتُ فيه من جنون لنزوح، وطفتُ مع الرعيان بين التلال والوديان. قال الكثيرون لمّا ارتفعَ النشيجُ ورأوا عينيّ أبي مرعي تضيقان: يستطيعُ الرجلُ دوماً أن يتزوّجَ وينجبَ ويصنعَ شبّابة جديدة. هم أيضا يفكرون أني مجرّدُ قصبة!
لم يستطع أحدٌ أن يقرّرَ إن كانت سلمى توقفت عن النطق يوم حادثة اغتيالي أم بعدها بأيام، فأبو مرعي كان غاضبا من امرأته ولم يكلمها لأسابيع. انتظرتُ طويلاً حكاياتِ سلمى الطفولية التي كانت تخبئها وترويها لي خلسة من أمها، لكنّ زمنَ الحكاية مضى. انكسرت شلالاتُ المطر، وغارَ الوردُ في وجنات المراعي. لم يكن أمامي إلاّ أن أواصلَ موتي. سنون كثيرة مرّت. لاأحد يوليني اهتماما. أرقبُ بخوفٍ خيوط العنكبوت التي امتدت وتشابكت بين زوايا الحجرة، وكلما رأيتُ الحشرة الكئيبة الهرمة تدنو من مكاني تشنجتُ وازداد قلبي ضموراً.
شاخت قدما أبي مرعي باكراً فنبذ المراعي وقعد في البيت يلتهمُ أدوية التهاب المفاصل. أنا أيضا يقضّ الألم مضجعي، والجروحُ التي أحدثتها أمُّ مرعي في بدني راحت توغلُ عميقا في العظم. أهي مايسمّونها الغنغرينا؟!
منذ دهورٍ ألقوني على سريري الطيني ونسوني. ربما لم يجرؤوا على دفني أو النظرِ في عيوني المفتوحة على الحزن. أيها الضفدع المسكين هل ستقضي النهارات المشمسة وأنت تثب بين الساقية والعشب فاتحا شدقيك إلى الأعلى لتصطادَ فراشة أو بعوضة مواصلاً عزف إحباطك نشيداً مختنقاً؟! أيتها الصراصيرُ المختبئة في عتمة الليل، والزيزانُ التي لاتكفُّ عن الصفير في الأمسيات الحارّة إلى متى تستمرّين بهذا النشيد الحاد المرتجل؟! وأنت أيتها الأفعى الشقية.. أنّ فحيحَ جوعك ، وبطنك الأملسُ يزحف فوق التراب الناعم في الهزيع الأخير من الليل لتنقضّي على فأر أو سحلية فتبتلعينها مرة واحدة لَيجعلُ قلبي الفارغَ يرتجفُ برداً وهلعاً!
كم من الأصواتِ سمعتُ عبرَ رحلتي الطويلة من حقل القصب إلى المراعي الشمالية والجنوبية! كم صوتٍ مرعبٍ ومقيتٍ حاول أن يتسلّلَ عبر مساماتي ويهزمني!.. وحده الحنينُ صاغ روحي والرياحُ الطيبة نحتت قامتي. اليوم ماعاد يسكنني غير الخواء ومرورٍ مترهّل للآخرين.
مايكادُ عصفورٌ يسكبُ في أذني شوقَ حنجرته حتى تردّدُ أثلامي صداه أنيناً ضخماً مشروخاً. لاشيء ينمو هنا غير اغتيالي. تواصلُ الأرضُ موتها. حلقةٌ تاسعة من عمري مازالت تذرفُ الدمعَ.. .لاتبوحُ بكاملِ العشقِ. عاد العكازان ينقران على الأرض نقراً قوياً متقارباً. يخفتُ. يتباعدُ. يتلاشى.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية