بلبل شدا للحرية واستنشق بعض شذاها من خلال هتافه المفضّل (الموت ولا المذلة)..كان دوماً في الصفوف الأولى من المظاهرات، وكان مقبلاً على طلب الشهادة اقبال طفلٍ صغير على ارتداء ملابسه الجديدة صباح العيد..تصوّرها وحلم بها، واعتمر قلبه بحبها، فتمنى مراراً أن يكون راقداً بسلامٍ مع شهداء رآهم ملتفين بالبياض - كما أخبر والدته غير مرّة.
عندما كانت والدته تُسمعه القرآن وله من العمر مجرد أشهر فإنه كان يبكي متأثراً...كان له قلب تغشاه الطيبة والرقة، وكان مرتبطاً بأصالة اللباس العربي التقليدي وبالعراضات الحمصية ارتباط طفل رضيع بحضن أمه. هو ابن (الخالدية) التي كان يعتز بها ويقول عنها أنها مربى الأبطال..إنه ابن السبعة عشرة عاماً..العكيد أبو سامر، كما كان يحب أن يُلقّب من قبل أصدقائه، وذلك لما كان يرى في لقب العكيد من معاني الشجاعة، والإباء، والشهامة. كان تعلقه بالخالدية كبيراً جداً، وكان يرى بأن الخالدية ولقب العكيد يرتبطان ببعضهما البعض ارتباطاً وثيقاً.
في اليوم الثاني والعشرين من رمضان لعام 2011، أغلق واجهة متجر والده على عجل بعدما قام بالاعتذار من زبونة، ومضى للمشاركة في مظاهرة ساحة الحرية بحضور لجنة الامم المتحدة. كان قلبه يسابق قدميه إليها كمن يسابق الشوق خياله لرؤية مولوده الجديد، وهذا ما كان يحدث معه في كل مظاهرة شارك فيها في أحياء حمص الثائرة وفي ساحاتها.
كانت كل مظاهرة يشارك فيها تعني له بعضاً من أنفاس صبح الانعتاق من حكم الطاغية، وربما ولادة محتملة لحريةٍ حرص على أن يكون من صانعيها..ولعلّه ظنّ آنذاك أن كلَّ شهيد إضافيّ في تلك المظاهرات سيسهم في تسريع عملية التخلص من النظام الديكتاتوري؛ فهيّأ نفسه واستعد تماماً لتقديم حياته، من بين كثيرين، قرباناً سبيلاً للانعتاق من النظام الغاشم.
عندما بدأ اطلاق النار بعد ثوانٍ من مغادرة لجنة الامم المتحدة للمكان، ظل أيمن واقفاً في منتصف الشارع بثباتٍ كثباتِ أبي الهول، يهتف للحرية وضد النظام في تحدٍ واضح منه للقتَلة، وفي تعبير جليٍّ لهم بأنه واحد من بين آلاف ممن أطاحوا بالخوف بفيضان إيمانهم، ذلك الإيمان الذي جعلهم يرون أن رصاص الظلام الموّجه نحوهم سيشق لهم طريق النور الأبدي. استقرت تلك الرصاصة المتفجرة في رأسه، فتخضّب بدمه الدافئ وغاب رماديُّ قميصه...ولكن القلب ظل يخفق لبرهة..ربما نشوة بمعانقة الشهادة.
قتلوه صائماً ولم يعلموا أن الله أحياه ورزقه موائد لا تنتهي وفرحاً كبيراً، ومبشّرات ذلك توالت ابتداءً من عِطره الذي عبق المكان أثناء زفافه للسماء بدون أن يُعطّره أحد، وانتهاءً بظهوره مغتبطاً بمكانته ومنزلته من خلال إطلالاته المتكررة في أحلام الكثيرين ممن عرفوه.
رُزقت أمه بعد نحو عام بتوأم من الذكور حمل أحدهما اسمه، والآخر كان هو من اختار له اسماً..اختار له اسم مجد في إحدى زياراته الليلية لأحد أقربائه عندما كان هذا الأخير أسير النوم. ربما كان في اختيار ذلك الاسم دلالة على أنه أصبح والمجد توأمين، وعلى تأكيده أيضاً أن الطريق الذي سلكه هو طريق المجد في الدنيا وفي الآخرة.
مضى العكيد أبو سامر في ذلك اليوم ولم تمضِ سيرته ولا حتى المشهد الذي قهر به قاتله إلى الآن في أذهان كل من عرفوه، كما لم تمضِ سيرة الأبطال الآخرين الذين لحقوا به. كان بلبلاً من بين تلك البلابل الذين عبّدوا بداية طريق الحرية بترنيماتهم وبأحمر الدماء سبيلاً للتحرر من الأقفاص وكسرها، وتشوقاً لمعانقة الفضاء.
العكيد أبو سامر..أنت أحد دروس الرجولة التي علينا مراجعتها كلما أحسسنا بفقدانها...هنيئاً لك بما حلمت ومنّيت نفسك به، وبئس الأحلامُ والمُنى دون ذلك.
أكاديمي وكاتب سوري *
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية