وفي كل يوم تموت وتحيا، تموت وتحيا كأنك وحدك خلّ الحياة وعشق الممات".
(من "لبنان" لغازي القصيبي)
قبل انتخاب رئيس الجمهورية كانت المعارضة تنادي بـ"الديموقراطية التوافقية" وبـ"المشاركة". وكان فرعها المسيحي يطالب، كل يوم او يوما بعد آخر، باعادة الاعتبار الى الرئاسة واعادة الحقوق، وخصوصا اعادة الهيبة الى قصر بعبدا الذي عُزل في السنوات الثلاث الاخيرة من العهد السابق.
جرت العادة ان يتوقف الناس والصحافيون امام الايام المئة الاولى من ولاية الرئيس الجديد. ولكن في الشهر الاول ها اننا نقف امام الشعارات الثلاثة التي شلت البلد اكثر من سنتين: "الديموقراطية التوافقية"، "المشاركة"، و"كرامة الرئاسة". رجاء، رجاء، بكل هدوء، من دون سخرية، ومن دون استعلاء. اولا، وفي سرعة "الديموقراطية التوافقية"، او الحكومة الائتلافية، تقوم هي ايضا على حقوق الاكثرية والاقلية. فالتوافق يأخذ حصة الاقلية النيابية في الاعتبار لكنه لا يحول الاكثرية طرطورا. ثانيا، وفي سرعة ايضا، "المشاركة"، وهي لا تعني فقط شركة الحقائب، بل شركة القرار والمصير والمشروع الوطني الذي يبدأ وينتهي بالامن. فيما الواضح ان الحديث عن الامن اصبح نوعا من العيب والتهمة.
ثم نأتي الى رئاسة الجمهورية، وكرامتها، واعتبارها، ومكانتها الوطنية، وما ترمز اليه في ماضي الدولة وحاضرها. حصل الرئيس ميشال سليمان على 118 صوتا من 127. وشارك في "الانتخاب" مندوبو الامم، عربا واجانب. وفي اليوم التالي اعلن العماد ميشال عون انه انما قدم الرئاسة "فدية" للبناني الاول.
كانت "المشاركة" تقوم على اساس عشر حقائب للاكثرية وعشر للمعارضة وعشر لرئيس الجمهورية. وانتهى الامر بثلاث للرئيس وحقوقه "المسيحية"، شرط ان تحددها المعارضة التي اعلن زعيمها في "حرب التحرير" الثانية انه "حرر" في الدوحة تسعة مقاعد، في المدور والصيفي وطلعة العكاوي وبذلك يكون المشروع الوطني قد اكتمل، والديموقراطية التوافقية قد حققت، والشركة قد عدلت.
لم تنغص رئاسة منذ بدايتها كما فعلت المعارضة بعهد الرئيس ميشال سليمان. حاصره وضع امني مترد، وانقسام سياسي بالغ الرداءة. حورب وصوله طوال ستة اشهر توسطت خلالها كل امم الارض، ولما توافقت في نهاية الامر جميع القوى الضالعة في جغرافية الشرق الاوسط، قيل له ان رئاسته ليست سوى تنازل من الفريق المسيحي الاكبر، "التيار الوطني الحر".
يكمل غازي القصيبي:
"وفي كل يوم نجيئك
نحتضن الطفل في مهده
ثم نتلو عليه طقوس الوفاة
ندسك في اللحد
ثم نعيدك حيا
ونعجب من كثرة المعجبات".
لم يفتح الرئيس ميشال سليمان باب القصر امام المهنئين. هذا متروك لليوم الاخير من السنة الاخيرة. السادسة طبعا. لا محن اخرى بعد تلك المحنة الكبرى ودون ان ندري، او دون ان نقصد، جاء رئيس لم يأت به احد. لم تعطّل الاوراق البيض الستّ صيغة الاجماع، الوطني والاقليمي والدولي. كان الرؤساء يأتون غالبا نتيجة صراع دولي، او احادية اقليمية. هذا الرجل جاء نتيجة توافق نادر بين القوى المؤثرة والمعطلة. وبقي الشيء النافر الوحيد هو الخلاف المسيحي، وتحديدا الماروني من حوله. فالاوراق البيضاء كانت اوراقا مسيحية. وبطرك الموارنة كان مشغولا بالقداديس الرعوية في جنوب افريقيا، رلأس الرجاء الصالح. وسياسيو الموارنة كان لهم همّ واحد، ضمني واضح، ومعلن سافر، هو محاولة الوصول محل ميشال سليمان. امل اللحظة الاخيرة وتعويذة الحظ.
يكمل غازي القصيبي:
"وانت، كقديسة في الاساطير
تغفر للقاتلين
وتلثم ايدي الجناة
وتحمل ارزك، هذا المخضب بين يديك
تضمده من سهام الاعادي
ومن طعنات الرفاق الاباة".
عثر الرئيس ميشال سليمان على فريق يشكره في بيان المطارنة الموارنة، وهؤلاء السادة الاحبار عثروا اخيرا على حبر منفرج الاسارير بعد ثلاث سنوات من الدق في مياه العذاب. ولم ينتظر ميشال سليمان البروتوكول الموضوع في الجارور وزيارة البطريرك للتهنئة، بل ذهب بسيطا الى كنيسة شبه خالية ليحضر معمودية حفيده ويتخذ هو معموديته الاولى كرئيس للدولة.
واما الدولة فكانت تتقاتل في الشوارع وتتناتش الشنط الوزارية في كرنفال لا سابقة له. وكان علينا نحن ان نصدق ان ما يجري هو تشكيل حكومة وحدة وطنية، كأنما الوحدة الوطنية تُصنع في المكاتب والدوائر، وليس في النفوس والقلوب، والحفاظ على كرامة الناس وامنها وحياتها.
يقول غازي القصيبي:
"سلام عليك
تقاتل للعرب والفرس
- لله درك -
زمان الزعامات
والمضحكات...
غدت مبكيات".
طرحت المعارضة "الديموقراطية التوافقية" كأنما هي مسؤولية فريق واحد. وطرحت "المشاركة" كأنما هي شركة في الاخذ لا مبادلة في العطاء. وطرحت شعار الوحدة الوطنية كأنما الوحدة الوطنية زر كهربائي في الجدار وليست قدرا ومصيرا ومسؤولية وطنية مشتركة. لذلك عندما بدأ تشكيل الحكومة كانت الوحدة الوطنية في احط مستوياتها وكانت المشاركة مساوية للسطوة واستبدال المواقع والنفوذ والينابيع التي تغذي كليهما. وكان البلد لا يزال، كما كان قبل الرئاسة والتكليف، موطنا سريع العطب، مزروعا بالأسى والقلق ومفروشا بالبارود. وحتى الآن لا شيء آخر.
ســلام عليــك ..... سمير عطاالله
النهار
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية