لم يعد إسقاط النظام يشكل نهاية الطريق وبداية الحل بالنسبة للسوريين، فهم يتوقعون المزيد من الحروب والدماء والقتل والتهجير بعد سقوطه عبر حروب وصراعات قومية ودينية واجتماعية.
المجتمع السوري منقسم الآن وفق ثنائية حادة هي نظام ومعارضة، حيث يساند النظام القوى التي رفضت الاحتجاجات كليا منذ البداية وانخرطت في محاربتها بمختلف الطرق بما فيها العسكرية، وبشكل رئيسي من أبناء الطائفة العلوية؛ وفي المقابل كان طيف المعارضة واسعا جدا ويشمل دعاة التغيير في البلاد بدءا من تطبيق إصلاحات سياسية متدرجة وصولا لإسقاط النظام بالقوة العسكرية.
عند تحول الثورة باتجاه حالة من الصراع العسكري المأساوي الطويل تم ضرب مكونات المجتمع السوري القومية والدينية والاجتماعية بعمق، وأدى ذلك لبروز تحالفات واصطفافات جديدة.
أقصى ما يحلم به السوريون الآن هو حل سياسي بين النظام والمعارضة بعد أن باتت إمكانية إسقاط النظام مرفوضة من المجتمع الدولي، وهنالك فيتو عليها؛ ومع ذلك فقد تراجعت آمال السوريين بالعودة للسلم الاجتماعي والبدء بإطلاق إعادة الإعمار والتنمية من جديد وتحقيق الاستقرار السياسي في البلاد خاصة من خلال رؤيتهم ومتابعتهم الأحوال السيئة التي لا تزال تعيشها دول أخرى منذ سنوات طويلة كالعراق وأفغانستان والصومال، رغم أنها مرت بحالات ربما تكون أقل حدة ومأساوية من الحالة السورية، ومع ذلك لم تحصل على الاستقرار السياسي والاقتصادي ولا حتى انضباط في الأوضاع الأمنية.
ظهر واضحا للعيان أنه لا توجد لدى الغرب رغبة بإسقاط النظام نتيجة تجاربه السابقة السيئة في بلدان أخرى، وهو يسعى للحفاظ على ما تبقى من مؤسسات الدولة، وخاصة مؤسسات الجيش والأمن من أجل أن تكون الضامن في عملية الانتقال السياسي بسلاسة ولضبط الأمن بقوة وحزم وتحقيق الأمن والسلم الاجتماعي والأهلي.
كيف يستطيع السوريون تجاوز حالة الاحتراب القائمة مع تفكك المجتمع السوري لمكوناته وأطيافه الواسعة.
رغم كل الحرص لمنع مكونات المجتمع السوري من التفكك وتحييدها عن التصارع، فيما بينها إلا أن خصوصية المكونات بدأت بالظهور بقوة، وبدأ يدور الحديث عن مطالب خاصة بها تريد تحقيقها.
ظهرت منذ البداية ثنائية عربي -كردي ومن أول القضايا التي حصل فيها صراع المكونات هو رفض تسمية سورية بالجمهورية العربية السورية والمطالبة بحذف كلمة عربية منها، وفي نفس السياق ظهرت المكونات القومية الأخرى من تركمان وشركس وأرمن، وكلها تريد الحصول على حقوق خاصة لها وتضمين ذلك في وثائق المعارضة، والاعتراف بها كمكونات قومية في البلاد وإعطائها حقوقا خاصة بها تتجاوز الحقوق الثقافية، بينما الأكراد لا يقبلون بأقل من إدارة ذاتية وبعضهم يسعى لتحقيق الحكم الذاتي أو الاستقلال والالتحاق بدولة كردستان العراق؛ من المؤكد أن الصراع القومي سيكون على لائحة الحروب المؤجلة التي سيخوضها السوريون فيما بعد سقوط النظام، وقد حدثت مواجهات دامية في هذا الإطار بين قوات وحدات حماية الشعب الكردية من جهة وقوات من كتائب للجيش الحر وكتائب إسلامية من جهة أخرى ثم حصلت المواجهات بينها وبين قوات تنظيم "الدولة الإسلامية" وخاصة في معركة عين العرب (كوباني) الشهيرة.
شهد السوريون خلال الثورة بداية الصراع الطائفي؛ فقد ظهرت ثنائية مسلم -مسيحي من جهة وثنائيات أخرى هي سني -علوي أو درزي أو اسماعيلي أو المذاهب الشيعية الباطنية بشكل عام ودخلت الايزيدية على الخط مؤخرا بعد التهجير الواسع الذي مارسه "الدولة" عليهم.
ربما استطاع النظام تحويل الطائفة العلوية لشريك أساسي معه في حربه على الشعب السوري، وبالتالي زرع بذرة الحرب والفتنة الطائفية في البلاد؛ بينما استطاعت السويداء مركز الطائفة الدرزية والسلمية مركز الاسماعيلية حتى الآن تجاوز الفتنة الطائفية وعدم الوقوع في فخ النظام والبقاء أقرب للحياد.
الطوائف السورية المتعددة كانت باستمرار لا تجرؤ على التصريح عن معتقداتها الحقيقية، وتعمل للإعلان عن نفسها كطوائف إسلامية مذهبية فرعية من أصول شيعية لتجنب الصدام المباشر مع الأكثرية السنية في البلاد، رغم عدم اقتناع السنة بذلك أو أخذه على محمل الجد.
الأجواء الحاصلة في البلاد باتت تسمح لهذه الطوائف تقديم مذاهبها والإعلان عنها بشكل أوضح بعد أن كانت ديانات أو مذاهب غامضة لا يعرف السنة عنها إلا القليل، وينظرون إليها نظرة شك وعدم احترام رغم مظاهر الخداع التي كان يتم ممارستها من الجميع، والغريب أن الجهل بأصول الاعتقاد لدى الطوائف يصل لأبناء الطائفة نفسها.
المشكلة الطائفية الخطيرة المتوقع انفجارها هي بين السنة والعلويين باعتبار أنه تم تحميلهم الوزر عن الجرائم التي ارتكبها النظام؛ وهنالك مخاوف واسعة من حملات انتقام وثأر طائفية بلا شك وهنالك خطوط حمراء دولية على ذلك، كما بات مؤكدا بعد إيقاف معركة الساحل بشكل مفاجئ وبدون أسباب عسكرية رغم المكاسب الواسعة التي تم تحقيقها بسرعة.
في ظل حالة التشدد والتطرف الواسعة مع انتشار "الدولة" وعدم تسامحها حتى مع المسلمين السنة الآخرين كيف سيتم التعامل مع الطوائف الأخرى التي ترغب وتسعى للحصول على المزيد من الحرية في ممارسة شعائرها المذهبية بعد أن كانت لسنوات طويلة تخفيها وتعلن أنها مذاهب إسلامية، وفي هذا الإطار يمكن فهم وتفسير تصريحات جنبلاط الأخيرة بأن الدروز ليسوا مسلمين، وكذلك دعوات العلويين في تركيا لاعتبار العلويين أتباع دين مستقل ليس إسلاميا؛ فكيف يمكن التعامل مع هذه المذاهب وهل سيقوم اتباعها بتحركات للمطالبة بحقوقهم أم قد تمتد تحركاتهم أكثر من ذلك باتجاه الانفصال كما يتم الحديث عن الدولة العلوية في الساحل ودمشق وحمص وكذلك عن دولة درزية في الجنوب وهذه الأخطار لم تعد من نسج الخيال الآن؟ ومن خلال نظرة لخارطة الوطن؛ والأراضي التي تحتلها "الدولة" والأراضي الواقعة تحت سيطرة النظام نرى حدود التقسيم على أساس طائفي ترسم على الأرض.
إضافة للصراعات القومية والدينية، فإن العامل الاجتماعي سيتحول لعامل صراع أساسي في مرحلة لاحقة، خاصة بعد الحالة السيئة التي وصلت إليها الأوضاع الاقتصادية في البلاد والحالة المزرية والكارثية التي وصلت إليها حياة الناس؛ ورغم ذلك فقد يتحول الصراع الاجتماعي لعامل توحيد عابر للطوائف والقوميات وينتج حالة وطنية خالصة بامتياز تجمع السوريين على قيم العدالة والكرامة من جديد وفق المبادئ الأولى للثورة.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية