أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

المقاهي في دمشق أيام زمان

ازدهرت دمشق عمرانياً قديمها وحديثها نتيجة التوسع السكاني، وأحدثت الأبنية والعمارات مكان البيوت القديمة، وازدهرت المنشآت السياحية من فنادق ومطاعم ذوات النجوم بدءاً من الأولى إلى الخامسة ووجدت محلات السوبر ماركت ومطاعم الوجبات السريعة وأسواق الكمبيوترات وبيع تجهيزات الهاتف النقال..

هذا التطور العمراني السريع كان على حساب أبنية قديمة جميلة، كان لها في الفم بسمة وتحولت في القلب إلى غصة، لمالها من ذكريات وأشجان لدى الدمشقيين، لقد هدمت الدور السكنية الجميلة، (البيوت العربية) وبنيت بدلاً عنها علب كبريتية ـ منها مسبق الصنع، أما أماكن اللهو والتسلية فهدمت على حساب الشوارع والطرقات، والرصيد دائماً لتجار البناء. ‏

كان في دمشق قهاوٍ كثيرة وهي جمع لقهوة بالعامية والمقصود المقهى، فكان يجتمع فيها الناس لشرب المشروبات (قهوة ـ شاي) إضافة إلى الأركيلة ويتم اللعب للتسلية وتمضية الفراغ في ورق اللعب (الشدة) أو (طاولة الزهر) النرد أو الضامة وهي لعبة قديمة تكاد تنقرض، فالجلوس في القهوة عادة شعبية عرفها الدمشقيون وتآلفوا معها للتسلية، وكان في كل حي قهوة تجمع أهل الحي من الرجال الكبار يتبادلون الأحاديث وأحياناً حل المشكلات والمخاصمات وكان من المعيب جداً أن يدخلها صغار السن. ‏

وسنتحدث عن مقاهٍ، لها اسم غريب طريف اشتهرت به في دمشق وعرفه الدمشقيون حيث سموه تسمية طريفة جذابة لاتخلو من الدعابة والفكاهة. وهي:

ہ قهوة التايبين: عرفت هذه القهوة لصاحبها أبي أحمد الذي كان له صيت في صنع النفس الطيب وهي عبارة يقولها الدمشقيون كناية عن تجهيز الأركيلة: غفالمعروف أن الأركيلة تحضر من التنباك بنوعيه (العجمي ـ اللاذقاني) حيث يتم فرم هذا التنباك ونقعه بالماء الفاتر ثم تجميعه بالرص ويوضع ضمن قرص فخاري يسمى الرأس (رأس الأركيلة) والمعلمية في صنع هذا الرأس من التنباكف حيث لم يكن المعسل معروفاً ويقال عنه شرب الأولاد. ‏

كانت هذه القهوة موجودة قبل السبعينيات عند مفرق المزة في ربوة دمشق ـ أزيلت عند إنشاء جسر عقدة الربوة، وكان يؤمها الناس في الصيف أكثر من الشتاء، وسبب التسمية كما يقولون يعود إلى لقطة سينمائية من فيلم (امرأة تسكن وحدها) لدريد لحام ونهاد قلعي حيث قاما بمراقبة اللصوص والاتصال بالشرطة على العنوان الذي يسميه دريد لحام (قهوة التايبين). إلا أن ذوي الفكاهة يعلقون على التسمية أن جماعة تركوا المسكرات وعوضوا عنها بالمجيء إلى هذه القهوة وكأنهم يقولون: (تابوا عن المسكرات وجاؤوا إلى تدخين الأركيلة). ‏

ہ قهوة خبيني: كانت هذه التسمية لقهوة قديمة مكانها عند ساحة الحجاز اليوم في العهد العثماني حيث كانت أحداث السفر برلك، وسحب الشباب الدمشقيين إلى هذه الحرب من قبل الجيش العثماني حيث كانت الشرطة (الجندرمة) برئاسة عريف ويسمى (أبو لبادة) يتفقدون المارة بحثاً عن الفراري (وهي لفظة أطلقت في تلك الفترة على كل متخلف عن الجندية أو متهرب منها) يطلبون الوثيقة منهم، وكان الناس يصرخون عندما يرونهم (عباية... عباية) أما الشباب الفراري فكانوا يلجؤون إلى الجالسين وأصحاب القهوة قائلين: (خبيني.... خبيني). وموقعها اليوم بآخر سوق القباقبية الذي تهدم جزء منه جانب قهوة النوفرة المشهورة.. وأصحاب النكتة يقولون: إن موقع القهوة الحالية مخبأ وليس له مظهر القهوة الخارجي ولسان حالها يقول: خبيني... خبيني. ‏

ہ قهوة خود عليك: مجازاً سميت قهوة، وإنما هي مقهى مجاني حيث اعتاد الدمشقيون السيران على طريقتهم الخاصة والسيران: (لفظة تطلق على النزهة إلى غوطة دمشق وضفاف بردى) حيث يحضر كل فرد أو جماعة بطريقتهم الخاصة (الدراجة العادية أو الآلية) فيجلسون على ضفة بردى ومعهم عدة الشاي (قديماً تتكون من بابور الكاز والسماور وإبريق الشاي والأركيلة وأحياناً الموالح والفواكه وخاصة البطيخ الأحمر)، بابور الكاز: موقد نحاسي صغير يعمل على مادة الكاز كوقود، أما السماور فهو آنية من النحاس فيها صنبور، مفتوحة من الأعلى يوضع عليها إبريق الشاي وبداخلها الماء المغلي، وعند صب الشاي مع كثير من الماء المغلي حسب الطلب وتسمية العامة (خمير وفطير). هؤلاء السيرنجية يجلسون على ضفاف بردى وكلما جاء واحد يقول للآخر (خود عليك) أي أوسع لي مكاناً للجلوس، والمكان: منطقة الشادروان على طريق دمر ـ الهامة على حافة نهر تورا، والزمان بعد العصر في أيام الصيف، ومن الصباح أيام العطل حيث يلتفون حلقات للغناء والطرب وأحياناً الرقص. ‏

ہ قهوة الله كريم: تسمية جميلة لقهوة هدمت منذ خمسين عاماً وموقعها جوزة الحدباء قرب جامع يلبغا في حي سوق ساروجة، وتعود التسمية إلى أن أغلب روادها كانوا من المتقاعدين من ضباط الجيش العثماني (باعتبار أن حي سوق ساروجة كان يسمى استانبول الصغرى لكثرة ساكنيه من الجالية التركية). وأيضاً من أبناء العرب الذين سرحهم من الخدمة حزب الاتحاد والترقي، كان الجميع يقضون أوقاتهم بالجلوس في هذه القهوة ملتاعين متحسرين وعندما يمر بقربهم ضابط بالزي العسكري معلقاً الأوسمة على صدره يتنهدون على الأيام الخوالي أيام العز التي يتأملون عودتها، فلاهي عادت ولاهم عادوا وكانوا يرددون: (إيه.. الله كريم) ومنها جاءت هذه التسمية. ‏

هذا الحديث عن القهاوي جعلني أعرّج قليلاً بالكلام على إنسان ذي مواهب متعددة من طرافة وحديث جذاب وتقليد الغير، كان يتخذ من حديقة المنشية مركزاً له لبيع الشاي والقهوة والزهورات للمجندين وطلاب المدارس والمتنزهين الدراويش، كنا صغاراً يافعين نجلس عنده، نحتسي الشاي ونمزح مع رواد هذا المكان، وله أحاديث طريفة عن مشاهير وفنانين شربوا من يديه، بإطراء على الشاي الذي يصنعه، ومن طرائفه أن أحد الأثرياء جلس عنده وشرب كأس شاي كبيرة وكان ثمنها (عشرة قروش) أي فرنكين بعملة تلك الأيام، وبعد أن انتهى من شرب الشاي أعطاه مبلغ ليرة سورية (مئة قرش) وذهب دون أن يلمحه أو يدري به أبو أحمد لأنه كانت منشغلاً بإعادة تكملة الحساب، وتقول أقوال الشهود: إن أبا أحمد انزعج واعتبر هذا التصرف مساساً بكرامته، فقام بصب تسع كاسات شاي كبيرة، والمضحك أنه كان يضع السكر ويحركها ثم يدلقها على الأرض مغتاظاً وهو يقول بعد السب والشتيمة بأنه ليس بحاجة للمبلغ ولامنية هذا الثري العربي، وآخرون قالوا: إن أبا أحمد أصر على اللحاق بالزبون إلى أحد الفنادق ووجده بالبهو فصرخ فيه أبو أحمد بعدما رمى المبلغ المتبقي أرضاً قائلاً: (خذ مالك.. لسنا بحاجتك فنحن لسنا متسولين أو شحاذين).

عاد إلى مركز عمله بعد أن دفع أجرة التكسي من جيبه الخاص، رافعاً رأسه عالياً كالديك نافشاً ريشه.. بالله عليكم ألم تكن البساطة والأريحية هي سبب سعادة أبناء دمشق منذ القديم، أليس أبو أحمد المتوّك خير مثال للدمشقي الذي يعتز بكرامته ويرفض البخشيش والإكرامية مقتنعاً بما قسمه الله من رزق، وما أحوجنا إلى أمثال أبي أحمد في هذه الأيام وخاتمة القول: (سقى الله أيام زمان) ‏

غفران الناشف
(194)    هل أعجبتك المقالة (252)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي