عبد الوهاب المسيري شاعرا؟ كيف لم أعرف ذلك من قبل؟! .. لمحت الكتاب، واسم المؤلف على غلافه فانجذبت إليه، ووقعت في أسره قبل أن ألمسه بيدي وتقطفه أصابعي كوردة يانعة من بين كتب كثيرة مرصوصة بعناية في الكشك على الناصية . حملته إلى بيتي سعيداً وكأني عزمت صاحبه لزيارتي ووافق على الفور . هذا الكتاب النحيل من مطبوعات دار الشروق . منذ السطور الأولى تطالعنا هذه الدفقة الشعرية الجياشة والتي تسع العالم والكون . هذه السطور الأربعة التي تضم الكرة الأرضية جميعها:
"لو كان لي ألف ذراع/ لو كان لي ألف قدم/ لضممت الأرض إلى صدري/ وأغمضت عيني في شغف" .
وتجري أنهار المحبة في وديان هذا الكتاب لنطالع القصيدة الثانية"تسلم إيدين اللي اشترى" . والعنوان كما لا يخفى على أحد مطلع أغنية من أغاني الأفراح للمطرب الشعبي محمد عبد المطلب . تبدأ القصيدة هكذا:
"ويغني الرجل
ليقطر في القلب محبة،/لتزهر في الخدود ورود،/لتجري في العين جداول،/ليغرد صداح الصوت" .
عبد الوهاب المسيري: النبض والدفء والضمير الحي ثم هو المتمتع بالخيال الخصب . يتبدى طائرا في قصيدة (جناح) مطلعها:
"كل يوم لي جناح/ينبت فأسبح طائرا/فوق القرى، فوق المدن،/بين القلوب الباسمة" .
وعندما يسبح في طيرانه ، على من سيلقي السلام؟سيلقي السلام لهؤلاء:
"للواقفين على الجبال، /للجالسين على التلال /بين الحشائش والندى، /يحكون قصة حبهم /للعائدين من الحقول/ بين الأغاني والعرق، /للناطقين حروفهم/ في وجه من صنع الصنم/ألقي السلام أحبتي/ وأظل أسبح طائرا"
وفي (سقراط الساخط )يبدأ قصيدته بمقولة لجون ستيوارت مل :"خير لي أن أكون سقراطا ساخطا، من أن أكون خنزيرا راضيا!"، وفي نهاية القصيدة دعوة من الشاعر إلى روحه كي تزداد توهجا وألقاً فالحكمة السقراطية الرافضة قد فعلت فعلها معه:
"يا وردي تفتح يا وردي/يا قمري اسطع يا قمري/يا نجمي أرسل شعاعك/سقراطي قد طهر جسدي"
أما قصيدة (الإنسان والطبيعة)فيخاطب فيها صديقته معترفا بحالته الذاهلة عندما بدأ بحق يتعرف على العالم من حوله وعلى ذلك البطل الخسيس، وفي نفس الوقت، النبيل ،الذي يتربع على عرش هذا العالم ويظن أن من حقه أن يدمر هذا وينسف ذاك:
"كطفل ينام في بحيرة اللبن/كنت يا صديقتي/أضرب بيدي وقدمي/فيتطاير رشاش الفرح الصافي،/حينما رأيته/يدافع عن العقل الإنساني المتفرد، تثور في داخله الحمم الغاضبة/على القرود والزواحف/وكل الحيوانات اللافقارية!/صغيرتي/إنه عالم من اللهب البلوري،/ يتربع على عرشه ذلك البطل الخسيس النبيل /ذلك التناقض المضحك:/ الإنسان!"
عبد الوهاب المسيري والمعاناة، والسير فوق دروب الآلام، وعلى كتفيه عزيمة ومسئولية في ثقل الجبال يتحرك بها، محبا لها رغم عتاوتها يئن في صمت، لكنه يمضي واثقا شاهرا قلمه ورفضه . وعندما يرتاح قليلا ليراجع أفكاره يتقطر الشعر في بوتقته:
"أجلس كل صباح في شرفتي/ فتفتح الزهرة الحمراء عيونها/ويحط الطائر الذهبي على كتفي/ثم يغني بصوت مرتجف:"لا تحزن"
وشاعرنا دائم الترحال نحو حقيقة الحقائق ، ونقطة الضوء التي وراء الزمان والمكان، قد يحاول الشك أن يعرقل منه الخطى، لكن شيئا ما داخله يدفعه إلى التحليق نحو عالم اليقن . وهناك يرق نبعه أكثر وأكثر إذ يناجي ربه في خشوع:
"أما اليوم../فسأقف يا ربي عند عتباتك خاشعا
بل إن شاعرنا يحمل بين جنبيه وجدا صوفيا لا تنطفئ له شعلة ، وغيابا حاضرا في التاريخ الإسلامي نقرأ في (أغان عثمانية في استانبول) رحلته إلى تركيا حيث كان الانطلاق في ليلة القدر، وكان في الطائرة . نقرأ ما رأى وما سمع: "ومن النوافذ كانت ترنو إلينا الملائكة/بعيونها البريئة الفرحة/تتلو القرآن وترجم الجن/آه..يا قبة الصفاء والسكينة!"
ونقرأ في نفس القصيدة:"وحينما قرأت الفاتحة/أمام سيدي أبي أيوب الأنصاري/وحينما صليت في مسجد الفاتح/مر من أمامي جند المسلمين:/أبصرتهم مرابطين في صمت تحت أسوار بيزنطة،/ورأيت البيارق والمنارات/ترتفع شامخة يا دار السلام"
ومازال يخاطبها وهو يرى أحوالها الجديدة:" وحين طرقتُ بوابتكِ العتيقة/طالعني وجه الحبيب/وحينما دلفتُ إلى الغرفة الخبيئة/وجدت منقوشا على قلبكِ/محمد رسول الله/وحتى حينما رأيت قدميكِ/تتحركان على إيقاع موسيقى الجاز/لم أر سوى دراويش قونية/يدورون/وقد شفهم الوجد الإلهي!"
***
مازلنا في رحاب أغاني عبد الوهاب المسيري، نستكمل قراءة كتابه الشائق هذا . وكنا أنهينا قراءتنا السابقة ولم نكن انتهينا من (أغان عثمانية في استانبول" . وهاهو شاعرنا يخلط التاريخ المظفر بالحاضر الذي لا يسر . بل إنه مع الجند الذين جاءوا للفتح الكبير ومعه عدته وعتاده . نقرأ:"أحمل سيف الله،/أركض مع الجند على فرسي،/أقتحم بوابتك أيا صوفيا . الله أكبر/ جئت لأحطم الأوثان القديمة/وأموت شهيدا يا رسول الله"
وفي نهاية القصيدة يوجز لنا جانبا عظيما من الفتوحات الإسلامية:
"وطالعني وجه الحبيب/مبتسما حنونا/على يمينه مكة المكرمة/وعلى يساره المدينة المنورة/وعند قدميه/خرت مصر ساجدة لنور الله/وحينما ألقى بشباكه/وقعت تركيا في إساره/ولكنها يا ولداه/فرت/هائمة شريدة/في صحراء الثلوج"
يا له من مشهد رائع، وتصوير ينفذ إلى القلب ويأسره . ثم أخيرا هذه الزفرة الحرى على شرود تركيا لتغرد بعيدا بعيدا في الثلوج لا تلقي بالا لدفء المشهد الكبير . ولن نغادر تلك القصيدة دون أن نتأمل هذا المشهد:
"على قبة المسجد/قرأت سورة النور،/وفي ركن المسجد القصيّ/عجوز يرتل القرآن/لا يعي ما يقول"
أرأيتم كم هي جميلة تلك الصورة رغم كونها صادمة في نهايتها؛ فهذا العجوز الذي اتخذ ركنا قصيا في آخر المسجد ليقرأ فيه القرآن ، تجري تلاوته بلغة غير لغته، ولسان غير لسانه؛ فهو يقرأ ويقرأ دون أن يعي مما يقرأ شيئا .
ونمضي في القراءة لنعرف كيف تنشأ الكلمة عند المسيري الشاعر:
"سأكتب إليكِ قصيدة/كلماتها من تراب النجوم/أعجنها وأخبزها في أتون قلبي/حتى تقف الكلمات منتصبة مثل الكون"
هكذا؟! . ومادامت القصيدة معجونة من تراب النجوم، ومخبوزة في أتون القلب، فإنها لا تعجز ولا تنحني0 إنها تتحدى العفاريت ذاتهم ومن هم على شاكلتهم من قطاع طرق الفكر . نقرأ (بدايات الصبا):
"من صفحات كتاب قديم جاءنا جني مخيف/صاح صارخا:/"اختاروا أحدها:/درب السلامة/أو درب الندامة/أو الدرب الثالث الذي تعرفان"/نظرتِ إليّ..نظرتُ إليكِ..ضحكنا وقلنا:/"لن ندلف إلى أي منها أيها الجني اللطيف/فاجلس معنا هنا بين بيارات البرتقال وتحت كروم العنب/نقطف الثمار، ونقرأ الكتب الملونة/ونسمع الأغاني والحكايات ذوات النهايات السعيدة/ثم نجري نحو الأفق..ونقفز بين النجوم!"
أنها حقا كلمات معجونة من تراب النجوم . وهي أيضا كلمات لمسها الحب بعصاه السحرية فأنبت فيها البراعم، وفتح الزهور في أكمامها . نقرأ (الأمطار في حجرتي):
أجلس أمام الصفحات الملساء/ممسكا بالقلم الأسود/أخط حرفا ساكنا وراء حرف/فتصبح الحروف كلمات، والكلمات جملا/والجمل سطورا لا معنى لها/ثم يخيم الصمت العقيم . /ولكن حينما يأتي صوتك عبر السحاب/ينتفض العصفور ويرفرف بجناحيه/ويطير ليحط على كتفيّ..ثم يصدح بالغناء/فتنبت البراعم، وتتفتح أكمام الزهور/وتهطل الأمطار غزيرة فوق الغابات/وتورق الأشجار/تحت سقف حجرتي/ثم تكتسح السيول جبال الحزن والملل/وتلد الكلمات رجالا ومدنا..وقصائد" . وعندما نصل إلى (عيد ميلاد الأميرة) ونقرأ السطر الأول:"في عيد ميلادها، ماذا أهديها إذن؟" نتذكر على الفور أغنية"أي شيء في العيد أهدي إليكِ" لناظم الغزالي ، ونتوقع أن يعدد لنا الهدايا التي لن يقدم منها شيئا ؛ لأنها جميعها أقل من أن تقدم للمحبوبة، وأخيرا يقرر المطرب ذو الصوت الشجي أن يهبها قلبه ، أغلى هدية يمكن تقديمها . هذا ما يطرق باب الذاكرة ، نقرأ ولعل في قصيدة المسيري شيئا آخر . شاعرنا يدخل حوانيت الزجاج والخشب، ويطرق أبواب المدن البعيدة، ويسير في الأسواق النهمة الجائعة، ويصل حتى أقاصي الأرض والزمن ،فيعرف البدء والختام وعندها يحط على حافة شرفته طائر السعد مبتسما . ماذا يريد هذا الطائر؟ يقول المسيري:"فهمت ما أراد.. عرفت سره../فأرسلت إليك يا أميرتي على عجل/قصيدة لم تنظم أبياتها بعد/تخرج منها قوافل/تحمل إليك أفخر الثياب الحريرية /التي لم تغزل خيوطها بعد/وأجمل الطنافس التي لم تحكها يد صانع/"
كل هذا في دنيا القصيدة؟ بل وأكثر . نستكمل القراءة:"وعرق ذهب يرقد في بطن جبل على مقربة من قرية آمنة/فرغ أهلها من الحصاد/ فجلسوا تحت النجوم يتسامرون/ولؤلؤة طفلة جالسة في محارنها/تمر عليها المياه الدافئة الزرقاء/فتبتسم وتغفو ثم تحلم بالفردوس/ويوما جميلا مثل يوم ميلادك/صباحه صاف كالسماء بعد زخة المطر/مشمس كضحكتك/ وفي مسائه/سأدلف في أحلامك لنشرب القهوة سويا"
إن المسيري يصنع من الكلمات عالما سحريا . تلك الكلمات التي عرفنا عجينتها ، ورأينا أتون خبيزها0 وفي قصيدة (اللقاء والوداع):"جلست يا صديقتي، أخط لك قصيدة" . ترى من أي شيء كلماتها؟! نقرأ:"كلماتها منسوجة من نشيد الوفاء والمحبة/خيوطها مستلة من سحابة الضياء والوفاء/صورها مأخوذة من جزيرة الصفاء والمودة،/ألقها يشع من نافورة هادئة/انبجست مياهها بين الصخور السوداء/تصب في قلبي/فتورق الأنغام والأزهار والأحلام"0 إن شاعرنا يكتب لحبيبته ويكتب . حتى جاءت إليه. نقرأ:" حينئذ تقدمت نحوكِ/أمسكت بكِ/عجنتك بالأحلام والألوان والأنغام/والأشعار والأسفار والأسرار والقصص/خبزتك عروسة صغيرة صغيرة/أحملها معي في أسفاري وأشعاري وترحالي"، وياله من ترحال!!
تحية إلى المفكر الكبير والشاعر الذي حملنا على بساطه السحري وحلق بنا في عوالم بعيدة .
كتاب: أغاني الخبرة والحيرة والبراءة .... محمد محمد السنباطي
كاتب مصري
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية