خرج الشاب العشريني"فادي الزامل" ابن مدينة "الحراك" من دائرة الموت بأعجوبة بعد أن كتب وصيته بدمه في المكان الذي شهد مقتل ثلاثة من جيرانه داخل محل إلكترونيات على يد عناصر جيش نظام الأسد أول يوم عيد الفطر عام 2012 فاستحق لقب الشهيد الحي.
في ذلك اليوم كانت "الحراك" أيقونة الثورة السورية تعاني حصاراً مطبقاً امتد لأكثر من شهرين، انقطعت فيه كل وسائل الحياة، وكان الناس يعيشون في الملاجىء، ولم يكن أحد يجرؤ على الخروج منها، وإلا تعرض للموت قتلاً أو قنصاً أو اعتقالاً، وبعد اقتحام جيش النظام المدينة للمرة الخامسة على التوالي تم الاعتداء على النساء والأطفال وترهيبهم، فيما فرّ الشبان خوفاً من القتل أو الاعتقال، وكان الشاب "فادي الزامل" أحد هؤلاء، ولظنه بأنه لم يكن مطلوباً ذهب إلى بيته لتبدأ رحلة قابلَ الموت فيها وجهاً لوجه.
دخل "مرتزقة النظام" إلى منزل أهله المجاور لمنزله، وكانت أمه تخبز على التنور لتطعم عائلتها في ظل الحصار المطبق، أما والده وأشقاؤه فكانوا في الملجأ المجاور للمنزل، وفجأة ظهرت فتاة كانت تحاول التسلل خلسة لتخبر العائلات التي كانت في الملجأ أن هناك حملة للجيش، فلحق بها بعض العناصر واستدلوا من خلالها على الملجأ الذي كان شبه سري فقاموا -بقوة السلاح- بإخراج عشرات العائلات وأغلبهم نساء وأطفال وكبار سن وأهانتهم.
ومنهم والده الذي تجاوز الخامسة والستين من عمره فقاموا بضربه وركله وسط الشارع، كما عذبوا من وجدوه في الملجأ من الشبان، قبل أن يحملوهم على ظهر الدبابة ويأخذوهم إلى اللواء 52 القريب من "الحراك".
ويضيف الزامل: حينها أطلت طفلتي ذات السنوات التسع من شباك المنزل لترى ما يجري بدافع الفضول، وعندما رآها عناصر الجيش بدأوا بإطلاق النار بشكل جنوني على المنزل، فقالت لهم والدتي إن المنزل مسكون بعائلة ابني ويتابع: حينما لمحتهم قادمين إلى منزلي اصطحبت زوجتي وأولادي ونزلت إلى درج المنزل وحاولت الهرب من المنزل، ولكنه كان محاصراً من كل الجهات وحينما دخلوا من باب المنزل صوّبوا أسلحتهم باتجاهي وهم يصرخون بأعلى صوتهم: "ارفع يديك للأعلى" ثم طلبوا مني البطاقة الشخصية.
في هذه اللحظة بدأت رحلة الموت التي عاشها (الشهيد الحي) بعينين مغمضتين ويدين مقيدتين إلى الخلف:(قاموا بربط يدي إلى ظهري بسيخ 6 مم يستخدمه عمال البناء عادة، واجتمع على ضربي وتعذيبي حوالي 20 عنصراً، ومع اشتداد التعذيب قلت لهم :(اقتلوني لأرتاح) فكانوا يقولون لي:( هسع بتموت وترتاح)، وحملني ستة من العناصر من قدميّ ويديّ وهم يغنون: (شي للجنة ... شي للنار... وين نحطك يا مختار)، ثم يقومون بالتكبير (استهزاءً) لأن ما جرى كان أول أيام العيد وكانوا يريدون قذفي داخل محل لأحد جيراني ولكن أحدهم قال لهم: "خلّوه نتسلى فيه بيظل حامينا لحتى نوصّلوا لعند الضابط".
بعد أن أنزل "مرتزقة النظام" فادي من "أرجوحة الموت" كانت يداه مربوطتين إلى ظهره فأجبروه على السير أمامهم ليكون بمثابة "درع بشري" وهم يشتمون الذات الإلهية ويشتمون عائلته، "أوصلوني إلى محل جار لي يدعى "عاصم كومان"، كان مخصصاً لبيع الإلكترونيات والأدوات المنزلية، وبعد إدخالي إليه أجبروني على الاستلقاء تحت طاولة كانت آخر ما تبقى في المحل، بعد أن نقلوا بضاعته إلى الخارج وحمّلوها على ظهر الدبابة، وفي صناديق سياراتهم العسكرية".
ويردف فادي الزامل: بعد ذلك اقترب مني ضابط وقال لعنصر بجانبه أكمل عليه، فقام العنصر بتوجيه فوهة رشاشه إلى ظهري وقال لي:"هادا قلبك ودّعو" وأثناء تلقيم الرشاش انقلبت على جنبي فخرجت الرصاصة من كتفي الأيسر وتظاهرت بالموت فقام العنصر بإغلاق الباب علي، وبقيت أنزف ويداي مربوطتان إلى ظهري، وعندها أحسست بأني أودع الحياة فبدأت أقرأ آيات من القرآن الكريم.
ويستطرد الزامل وهو يتذكر ما لا يمكن نسيانه: "بعد حوالي الساعة جاؤوا بجار لي يدعى "أبو فراس" يسكن بجانب المحل الذي كنت فيه مع أولاده الاثنين، ووضعوهم بقربي، وكان جاري وأولاده مربوطي الأيدي مثلي ولكن بسلك كهربائي كان قد أحدث "حزاً "في أيديهم لشدة وثاقه، وبعد نصف ساعة تقريباً دخل العساكر فتظاهرت بالموت ثانية، فقال أحد العناصر لجاري بكل وقاحة: "امسكنا هذا الشخص من "العصابات المسلحة" وأشار إلي- فاعترف أنه نهب المحل وقام بتكسيره" فقال له "أبو فراس":" ياسيدي أنا بريء والله، من بيتي لشغلي ومن شغلي لبيتي" وما إن أكمل كلمته الأخيرة حتى قام العنصر المذكور بإطلاق النار على رأسه فأرداه في مكانه على الفور، ثم أطلق النارعلى رؤوس ابنيه دون أن يتفوها بكلمة، وأحد أبنائه المقتولين بقي ينازع الموت أمامي أكثر من ساعة حتى فارق الحياة، مع أن الرصاصة جاءت في رأسه.
وصية بالدم !
بعد أن خرج العنصر القاتل من مكان الجريمة بنصف ساعة عاد ليتأكد من وفاة ضحاياه، فقام برفسهم بقدمه كما رفس الزامل في قدمه أيضاً، وكان أشبه بالميت من كثرة ما نزف من الدماء، ويستطرد وهو يصف لحظات الموت كما عايشها:
"بعد إعدام جاري وابنيه دخل ضابط برتبة نقيب فقام بتصويرنا من خلال جواله وخرج ثم دخل عناصر آخرون وقاموا برشّ مادة غريبة في المحل بقيت شهرين لا أرى بعيني منها، وتوقعت أنهم سيقومون بحرقنا".
وتابع الشهيد الحي قائلاً: بقيت أتظاهر بالموت منتظراً أن تغيب الشمس لأن عناصر جيش النظام كانوا ينسحبون خوفاً من استهدافهم عند حلول الظلام، وكانت هناك دبابة متوقفة على زاوية المحل تقصف الجامع العمري الأثري في "الحراك".
كان للمحل بابان أحدهما على الشارع العام، والآخر يطل على شارع فرعي، وما إن اقترب المساء حتى تمالك "فادي الزامل" نفسه محاولاً النهوض والإفلات من القيد الحديدي ففوجئ بأن القيد انفكّ بسهولة وكأن شخصاً قام بتحريره.
ويردف الزامل بلهجة مؤثرة: أمسكت بورقة بيضاء مبعثرة في أرض المحل وكتبت عليها بدمي أنا "فادي الزامل" أمانة سدو ديني"لأنني استدنت مبلغاً لبناء بيتي الجديد ولم أوفّه، كنت أغمس أصبعي بدم الجرح وأكتب، وبعد ذلك كتبت لفظ الشهادة على جدران المحل وعلى درفات الطاولة التي كنت تحتها.
ما بين الموت والحياة زحف الزامل إلى حمام داخل المحل فشرب ماءً وعاد إلى المكان الذي كان فيه، وبعدها قام بتمزيق قميصه الذي كان مبللاً بالدماء ليرى مكان الإصابة، وبقي يسدٌّ الجرح بيده لمدة نصف ساعة، وعندما رفع يده دخل هواء إلى الثقب الذي خلفته الرصاصة مما جعله يشعر بألم شديد.
سقوط تحت الدبابة !
عاش "فادي الزامل" لحظات عصيبة من الألم الذي لا يُطاق، ولم يكن بمقدوره أن يرى من أثر المادة الغريبة التي أفقدته النظر لمدة شهرين بعد ذلك -كما يؤكد– وكان الأب وابنيه الشهداء مرميين على الباب الثاني، ولكنه لم يستطع الاستدلال عليه، يقول: "بقيت أزحف حتى لمست رأس أحد الشهداء من جيراني فعرفت أني وصلت إلى الباب، وقبل أن اجتازه قرأت الآية الكريمة:(وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) وخرج بعد أن تحامل على نفسه، ولأن حافة الباب كانت عالية سقط على الأرض، وشعر بأنه صار قريباً من دبابة كانت متوقفة أما الباب الفرعي (لم أعد أعرف بأي اتجاه أسير وكنت أتوقع في أي لحظة أن يقوم أحد العناصر بالإجهاز عليّ، ورغم ذلك مشيت وكأنني أرى الطريق أمامي، وقرعت أول باب لأحد جيراني "مهدي كومان" فصرخت عليه ولكنه لم يرد، وكانت هناك حفرة على مفرق المنزل فسقطت فيها، وبقيت فيها حوالي الساعة واستطعت الخروج منها بصعوبة شديدة لأن يدي كانت مصابة لا أستطيع استخدامها، وبعد أن خرجت منها توجهت في طريق بيتي، وطرقت نافذة جيران لي ففتحت لي زوجة جارنا وقام زوجها وأولادها بإدخالي إلى منزلهم ثم أسعفوني إلى (المشفى الميداني) في الحراك الذي كان يفتقر إلى كل المستلزمات المطلوبة.
عشرة أيام في "جورة" تحت الأرض !
معاناة "فادي الزامل" وآلامه لم تنته بخروجه من دائرة النار والموت فبعد ثلاثة أيام من بقائه في المشفى أخبروه بأن الجيش سيقتحم المشفى وأن على كل جريح ومصاب أن يتدبر أمره، فخرج الجرحى وكأنهم أموات، أما هو فأخذه شبان وقاموا بتخبئته في إحدى الخرابات (بيوت قديمة فيها سراديب تحت الأرض):"بقيت هناك ليلتين وبعدها تم نقلي إلى بيت جيران لي وبعد اقتحام "الحراك" من جديد حملوني إلى "جورة" تحت الأرض بقيت فيها 10 أيام، وكان عناصر جيش النظام يدخلون لتفتيش الغرفة ثم يخرجون دون أن يروني، لأن الغرفة كانت محترقة والجورة التي كنت بداخلها كانت مموهة فحماني الله منهم، وخصوصاً أنهم كانوا يريدوني شخصياً بعد أن قرأوا ما كتبته على الورقة والجدران كما علمت فيما بعد من الجيران.
وتم إخراج (الشهيد الحي) بعد ذلك إلى قرية قريبة، وتولى علاجه طبيب منشق برتبة ملازم، ولأنه كان بحاجة لعملية "تفجير صدر" بعد احتقان صدره بالدم والهواء، قام الطبيب المذكور بإجراء العملية لفادي دون تخدير لعدم إمكانية نقله إلى مشفى مجهز، ولأن إحدى رئتيه أوشكت على التوقف، وبعد إجراء العملية أشار الطبيب عليه بالذهاب إلى الأردن لإتمام العمل الجراحي له، فخرج عبر طرق تهريب حتى وصل إلى "مشفى الظليل" ليعيش فصلاً جديداً من المعاناة بدأت بالإهمال الطبي وبخاصة أنه بحاجة لعملية تركيب مفصل في الكتف الأيسر ونقل عضلات، ولم تنته بالإهمال الإنساني وعدم مد يد العون له من الجمعيات والجهات الإغاثية وهو حال أغلب جرحى ومصابي الثورة السورية في الأردن.
فارس الرفاعي - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية