بات عاديا إلقاء اللوم على النظام عند الحديث عن تصرفات تنظيم "الدولة الإسلامية" الملقب بـ"داعش" واعتباره هو الذي دفع يقف وراء ظهور التنظيم واختراقه لحرف الثورة عن مسارها وإلصاق صفة الإرهاب فيها؛ ورغم أنه لا يجادل في هذه المقولة ومن الصعب تجاهلها وإنكارها إلا أن أطرافا أخرى ساعدت على ظهور التنظيم.
مع اندلاع الربيع العربي ووجود الكثير من الإرهاصات لكن اندلاع الثورة السورية كان صادما ومفاجئا للمعارضة، وخاصة للقوى اليسارية والليبرالية والمثقفين والمفكرين والفنانين والناشطين، فلم يستطيعوا أن يفهموا الأسباب الحقيقية للحراك ودوافعه ونتائجه المحتملة، وبقيت حركتهم متأخرة باستمرار عن التطور المتسارع لحركة الشارع وتابعة له بدل أن تكون قائدة كما يفترض، وهذا أثر لاحقا على مسار الثورة وأدى إلى نحرافها وتراجعها وانتكاسها حتى ضمن الأوساط الحاضنة لها.
ظلت النخبة السياسية تتذرع باستمرار لتبرير فشلها بقيادة الثورة وتوجيهها بالشكل الصحيح وتشكيل أجسام سياسية معارضة تعمل بشكل مؤسساتي؛ بحالة التصحر السياسي التي بقيت قائمة في البلاد لعقود والتي منع فيها النظام أي نشاط سياسي أو مجتمعي حقيقي ومستقل بعيدا عن سطوته الأمنية؛ وهذا الفشل أفسح المجال للقوى والحركات الإسلامية من خلال خبرتها التنظيمية ونشاطها الطويل في العمل السري والدعم الكبير الذي تلقته من دول الخليج العربي؛ للوصول لصدارة الحراك الثوري وقيادته وسيطرة الكتائب المتشددة التابعة لها على الوضع الميداني.
بدأ الالتزام بشعارات وعلم الثورة يتقلص تدريجيا في صفوف الثوار والكتائب بتأثير وطلب مباشر من الداعمين الخليجيين بشكل خاص والمنتمين أصلا لمدارس سلفية جهادية قاعدية متشددة.
ارتكبت المعارضة خطأ فادحا تحت تأثير نشوة الانتصارات الميدانية الواسعة حين أغمضت العين عن تلك التحولات الخطيرة على مسار الثورة، ولم تدرك تأثيرها السلبي بشكل مبكر بل بالعكس بررتها ودافعت عنها مدعية بسذاجة أن ما يهم هو إسقاط النظام بالدرجة الأولى ومن ثم يتم الاحتكام لصندوق الانتخاب لتحديد شكل وهوية الدولة السورية القادمة؛ وكان لافتا على سبيل المثال موقف الشيخ معاذ الخطيب رئيس الائتلاف السابق في مؤتمر روما عندما رفض بشكل مبكر وبشدة القرار الأمريكي بتصنيف جبهة النصرة كحركة إرهابية.
أمام تدفق الدعم إليها وتراجعه عن الكتائب الأخرى بدأ يشتد عود الكتائب الإسلامية وبدأت تسعى لفرض رؤيتها الفكرية وأجندتها السياسية بشكل مستقل بعيدا عن أهداف الثورة وشعاراتها وبدأت تظهر الأعلام السوداء بكثرة في مقابل تضاؤل وانحسار علم الثورة؛ ومع ذلك بقيت العديد من هذه الحركات مقبولة في صفوف المعارضة والثورة كجيش الإسلام وأحرار الشام ولواء الحق والفاروق وغيرها.
لا شك أن المهاجرين القادمين للجهاد وخاصة من دول الخليج استفادوا من وجود بيئة حاضنة لهم لدى الكتائب الإسلامية، فانطلقوا منها بهدوء لتأسيس الحركات المرتبطة بالقاعدة دون الاصطدام مع الكتائب الأخرى أو القتال معها أو الإعلان عن أي شيء صريح يناقض أهداف الثورة أو يجاهر بالعداء لها.
من خلال الفشل بقيادة الحراك الثوري وعدم القدرة على مواكبة التحولات المستمرة على مسار الثورة وانحرافها ووضع الحلول لمواجهة ذلك أو حتى الاعتراف به، فإن النخبة السياسية والمعارضة الخارجية تعتبر طرفا مساعدا على ظهور تنظيم "داعش". يمكن أن يوجه إليه اللوم والمسؤولية للحركات والتنظيمات الإسلامية كطرف ثانٍ مسؤول عن بروز تنظيم "داعش"؛ وبالدرجة الأولى "الإخوان المسلمون" لخبرتهم التنظيمية وحنكتهم السياسية وعلاقاتهم المتشعبة إقليميا ودوليا عبر التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، ومن خلال ذلك أقاموا علاقة وطيدة مع الحكومتين القطرية والتركية بشكل خاص؛ لكنهم حولوا الدعم الواسع الذي تلقوه لتقوية أنصارهم ومصالحهم الحزبية الضيقة وشراء الولاءات والذمم، ولم يحولوا ذلك لصالح الثورة؛ مع أنهم لم يستفيدوا من ذلك بشكل جيد لأن قاعدتهم الشعبية في الداخل ضعيفة منذ الضربة القوية التي تلقاها التنظيم في الثمانينات على يد حافظ أسد مما جعل تحالفاتهم السياسية والعسكرية تأخذ صفة المناورة والبراغماتية للحفاظ على قوتهم ضمن صفوف المعارضة وقيادتهم لها ولو من وراء ستار شفاف؛ وبدهي في هذه الحالة ألا يكون الدعم الإخواني من نصيب كتائب الجيش الحر بل باتجاه كتائب إسلامية تحولت باتجاه التشدد فيما بعد.
يمكن اعتبار الداعمين الخليجيين أفرادا ومؤسسات وحتى دول كطرف ثالث مسؤول عما آلت غليه الأمور في سوريا، ويمكن القول بأنه طرف رئيسي بسبب توجيهه الدعم نحو الكتائب التي تتبنى الفكر السلفي الجهادي بشكل رئيسي دون كتائب الجيش الحر، وهذه الكتائب كانت هي البيئة الحاضنة التي انطلقت منها تنظيمات القاعدة فيما بعد واتجهت نحو التشدد وصولا لداعش.
مجموعة دول أصدقاء الثورة السورية وخاصة أمريكا كقائدة للغرب تعتبر الطرف الرابع المسؤول عما آلت إليه الأمور بتقاعسها غير المفهوم أو المبرر عن تقديم الدعم المطلوب للثورة السورية حسب الوعود التي كانت تطلقها باستمرار في مقابل دعم واسع مستمر كان يتلقاه النظام من جهة والتنظيمات المرتبطة بالقاعدة من جهة أخرى وكان واضحا أن الأمور تسير باتجاه انتشار التشدد والتطرف بشكل واسع فيما دول الأصدقاء تتفرج دون أن تتحرك لمنع حدوث ذلك.
لا شك أن النظام هو المسؤول الأول عما حصل في البلاد من قتل وتدمير وتهجير وانتشار التنظيمات المتطرفة التي تمارس العنف والإرهاب في طول البلاد وعرضها وبالأخص من حزب الله والأحزاب والميليشيات الشيعية المنطرفة وقوات الشبيحة والدفاع الوطني ويبدو مستغربا التركيز على تنظيم "داعش" دون غيره في أهداف التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب.
الشبيحة أول من بدأوا ارتكاب المجازر في البلاد وساهم ذلك في ردود فعل دفعت لنشر ثقافة العنف والتطرف في البلاد، ولا يغيب عن البال مجازر البراميل المتفجرة والصواريخ والأسلحة الكيماوية التي نفذها النظام والتي كانت دافعا لالتحاق العديد مع تنظيم "الدولة" بداعي الانتقام والأخذ بالثأر؛ ولا يمكن نسيان حقيقة اختراق النظام لتنظيم "داعش" نفسه ومسؤوليته المباشرة عن أفعاله.
حل المعادلة يتم بفك جميع أطرافها وبالتالي على الأصدقاء دعم معارضة سياسية حقيقية وبناء جيش حر يلتزم بأهداف الثورة، والعمل على إسقاط كل أشكال الإرهاب في البلاد وعلى رأسها النظام والميليشيات التابعة له.
ولكن الإعلان عن محاربة "داعش" فقط وعبر الجيش الحر ربما سيعطي مكاسب واسعة للنظام ولا يساعد في القضاء عليه وفي هذه الحالة سيستمر الإرهاب طويلا في البلاد وغالبا سيمتد لما وراء الحدود ويصيب الجميع.
كيف يمكن فهم ذلك وتفسير أن الأطراف التي ساهمت في نشوء "داعش" تعلن الحرب ضدها أخيرا؟ هل هي صحوة ضمير متأخرة أم أن داعش استنفذت أغراضها وحان وقت استثمارها؟ ومما يجعل من الشكوك قوية تجاه التحالف الدولي المعلن لمحاربة إرهاب "داعش" أنه لم يتحدث عن إسقاط الأسد ونظامه وهو أصل الإرهاب في البلاد؛ لكن البعض يرى أن إعادة خلط الأوراق قد تكون مفيدة وقد تأتي بجديد.
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية