يحيي بلدنا هذه الأيام مجموعة من أيام الأمة التي تشكل ذكريات وطنية وقومية في طليعتها ذكرى الجلوس، التي تمثل امتداد الملك فينا وتذكرنا بالروابط المتينة التي جمعت هذه البقعة من الأرض بآل البيت، فمن هذه الأرض مرّ نبي الله محمد عليه السلام وهو بعد صبي في رفقة عمه أبي طالب في طريقه إلى دمشق، وعلى هذه الأرض أعلنت أول بشارات نبوة محمد عليه السلام وأول عملية حماية له من يهود، عندما أنبأ بحيرا الراهب أبا طالب بنبوة ابن أخيه بعد أن تأكد من توفر علاماتها فيه عليه السلام. طالباً منه العودة به إلى مكة حتى لا يعرفه يهود فيفتكون به، وكأن بحيرا ومثلما أنبأنا مبكراً بنبوة نبينا عليه السلام أنبأنا أيضاً بعداوة يهود المبكرة لنبينا ودعوته وأتباعه من بعده. وهي العداوة التي ما زالت قائمة إلى يوم الناس هذا، حيث يحتل يهود مسرى محمد ''ص'' ويهددون بإزالة أولى قبلتيه وثالث حرميه ليقيموا هيكلهم المزعوم مكانه، هذا إضافة إلى سعيهم المحموم لتشويه صورته وصورة دينه عبر الرسوم المسيئة وغير الرسوم المسيئة.
ومثلما حفظت لنا كتب التاريخ والسيرة واقعة بشارة بحيرا بنبوة محمد، وتنبيهه لخطر يهود عليه، فإن الطبيعة قد حفظت لنا بقدرة خالقها الشجرة التي استظل بظلها محمد عليه السلام، والتي ما زالت تبارك أرض الأردن إلى يوم الناس هذا، مؤكدة على عمق العلاقة بينه وبين دعوته عليه السلام وبين آله الطيبين من بعده إلى يوم الناس هذا.
وإذا كانت كتب السيرة قد حفظت لنا واقعة بشرى بحيرا بنبوة محمد، وقصة الشجرة التي أظلت رسول الله عليه الصلاة و السلام، وذلك قبل البعثة فإن هذه الكتب تذكر لنا أنه عليه السلام وصل إلى إيلة التي هي اليوم ميناء الأردن الوحيد، أعني العقبة وصالح أهلها مثلما أنه عليه السلام خاطب حاكم عمان داعياً إياه للإسلام.
وإلى الأردن أوفد عليه السلام أول جيوشه خارج الجزيرة وكان من قادتها ابن عمه جعفر الذي ارتفع إلى جوار ربه شهيداً. ليضم ثرى الأردن جسده الطاهر حبلاً آخر من حبال الود الممدود والخالد بين هذه الأرض وأهلها وبين آل البيت عليهم سلام الله تعالى، الذين وجدوا لهم فيما بعد في الأردن حصناً لاستعادة حقوقهم؛ فكانت الحميمة معقل الدعوة لآل البيت التي قادت إلى قيام الدولة العباسية، وهكذا ظل الأردن على مدار التاريخ قلعة من قلاع آل البيت حتى عصرنا الحديث، عندما تململ العرب ضد خطط الطورانيين. الذين استبدوا بالخلافة في اسطنبول وصاروا يكيدون للعرب الذين تفيؤوا بعباءة آل البيت وشريف مكة ليقود ثورتهم ضد الطورانيين، وعندما انطلقت ثورة العرب الكبرى صار الأردن ميداناً رئيسياً لمعاركها، التي قادها الأشراف من آل البيت، وصار الأردنيون من أخلص جنودها وضباطها. حتى إذا ما تخلى عنها الحليف وطعنها بظهرها، وكاد لواؤها يسقط بعد ميسلون تلقف الأردنيون اللواء وأبقوه خفاقاً وطالبوا قائد الثورة وشريفها بأن يرسل لهم أحد أبنائه لمواصلة الجهاد لتحقيق أهداف الأمة، وما إن استجاب الشريف لنداء الأردنيين حتى بدأت حلقة جديدة من حلقات العلاقة التاريخية بين هذه البقعة من أرض الأمة وأبنائها، وبين آل البيت الذين وجدوا فيها النصرة والنصير.
ولأن هذه هي العلاقة التاريخية وقبلها علاقة العقيدة بين الأردن والأردنيين وبين آل البيت فإن الواجب الشرعي والقومي والديني يفرض علينا في الأردن أن نحفظ العهد والميثاق، وأن يظل بلدنا هذا في خندق آل البيت وأنصارهم وأحبائهم وشيعتهم، وأن يكون سداً منيعاً في وجه أي محاولة لطعن الأمة وإغراقها في الفتن المذهبية، كما يسعى إلى ذلك أصحاب مدارس الغلو والتطرف والتكفير الذين ابتلي آل البيت بنار غدرهم في مطلع القرن الذي مضى، حيث عاث أشياخهم في أرض المسلمين فساداً، بعد أن ولغوا بدماء المسلمين وانتهكوا أعراضهم، وكادوا أن يهدموا كعبتهم، بعد أن استباحوا مدينتها ومعها استباحوا أهلها تماما مثلما اعتدوا على المسلمين هنا في الأردن فيما يعرف بغزوة الإخوان وهناك في الكويت والبحرين وعمان والعراق وسائر بلاد الشام.
لقد كان آل البيت على مدار التاريخ عنصر توحيد للأمة، لذلك ظلوا هدفاً لسهام أعدائها من يهود وصليبيين ومن أتباعهم الذين لبسوا لبوس الأمة، ولعبوا فيها دور المنافقين، وطعنوها بسهام فتن التكفير والمذهبية، وجروها إلى معارك جانبية حول طول الثوب وقصره وحول كثافة اللحى وحلق الرؤوس ليلهوها عن أعدائها الحقيقيين من يهود وصليبيين، بل لقد ذهبوا إلى ما هو أكثر من ذلك عندما أخذوا يسعون الآن إلى استبدال عداء الأمة لليهود والصليبيين بعداء لبعض أتباع المذاهب الإسلامية من المؤمنين بالله الواحد الأحد والمؤمنين بمحمد رسولاً مبعوثاً من ربه، وبالقرآن الذي أنزل عليه، وبالكعبة التي يحجون إليها وبرمضان الذي يصومونه وبالزكاة التي يؤدونها وبالجهاد الذي يعيدون به اليوم للأمة بعض هيبتها، التي أضاعها المكفرون دعاة الفتن الذين آن للأمة أن تتصدى لهم، حماية لوجودها واسترداداً لحقوقها وتوضيحاً لصورتها ولحقيقة إسلامها التي انبرت عمان لبيانها عبر رسالتها، وهو ليس بالأمر المستغرب على آل البيت الذين هم أحد أهم عناصر وحدة الأمة وجمعها على الحق. وأول ما ينصر به الإسلام أن نتصدى للتكفيريين وأن نحبط دعوتهم للفتن المذهبية. وأن ينبري علماء الأمة دفاعاً عن سنة المصطفى التي يحاول التكفيريون التستر وراءها لتكفير سائر المسلمين بعد أن عمد هؤلاء التكفيريون إلى السنة فشوهوها عندما ضيقوا واسعاً وجعلوا من فهمهم الضيق والقاصر للسنة وسيلة لتكفير المسلمين ثم استباحة دمائهم وأموالهم ولتمزيق صفهم بحجة الدفاع عن السنة، والسنة منهم براء، فهؤلاء الذين يزعمون اليوم النصرة لأبي بكر وعمر عليهما رضوان الله هم الذين دمروا آثار صحابة رسول الله ومنعوا الصلاة والتسليم عليه في الأذان بحجة أنها من البدع. لولا خشيتهم من غضب المسلمين لهدموا الكعبة بعد أن حبسوا الحج عنها في كثير من المواقف وكأنهم بذلك قاتلهم الله يساندون يهود في سعيهم لهدم الأقصى.
ومثل احتفالنا بذكرى الجلوس فإننا نحيي هذه الأيام ذكرى ثورة العرب الكبرى، هذه الثورة التي تآمر عليها أول ما تآمر الصليبيون والتكفيريون الذين تحولوا إلى خنجر للصليبيين لطعن آل البيت وإجهاض ثورتهم لإنقاذ الأمة من الطوارنيين، ومن دروس الثورة التي نحيي اليوم ذكرى انطلاقتها نتعلم أن الأصل في الأمة أن تكون قوية بذاتها، وأن تسعى إلى تنمية هذه القوة، وأن لا تركن إلى غيرها، فقد أخلص ثوار العرب لحلفائهم، لكن هؤلاء الحلفاء نكثوا بكل عهودهم ووعودهم وهو ما انتبه إليه عميد آل البيت وقائد ثورة العرب الكبرى، فدفع عرشه ثمناً للثبات على الموقف والدفاع عن حقوق الأمة. لذلك فإننا نعجب كل العجب من الذين يرمون كل أوراقهم في سلة أعداء الأمة من الأمريكان وغير الأمريكان دون أن يستفيدوا من دروس التاريخ، التي تؤكد لنا أن الغربيين لا يحترمون ميثاقاً ولا يلتزمون بعهد فليس تخلي الأمريكان عن حلفائهم بالأمر المستهجن. وما وقائع تخليهم عن شاه إيران وانقلابهم على صدام بالأمر البعيد عنا.
وإذا كانت أول الدروس المستفادة من ثورة العرب الكبرى هي عدم الركون إلى غير أبناء الأمة، وعدم الوثوق بعهود ومواثيق الغربيين، فإن الدرس الثاني الذي لا يقل عن الأول أهمية يكمن في أن بناء القدرات الذاتية للأمة هو أول شروط انتصارها وحفاظها على حقوقها ومقدساتها، وهو درس يحاول البعض تغييبه اليوم عن أذهاننا عبر دعواتهم المتكررة لتجريد مقاومة الأمة من سلاحها لتصبح الأمة كلها بلا سلاح لا حول لها ولا طول. وقد صار هذا هدفاً إستراتيجياً للعدو وحلفائه، وبعد أن عجز هذا العدو عن تحقيق هذا الهدف، عبر الحرب المباشرة لجأ إلى حلفائه لتحقيق هذا الهدف عبر إغراق الأمة بالحرب المذهبية وجر المقاومة سواء في فلسطين أو لبنان أو العراق إلى حروب جانبية يقتتل بها أبناء الأمة فيرتاح عدوها، وعند هذه النقطة يلتقي الصليبيون واليهود وأتباعهم من التكفيريين والمتعصبين الذين ولغوا بدماء الأمة ولم يرموا محتل الأرض ولو بحجر. على العكس من ذلك أفتوا بكفر المقاومين ودعوا إلى حوار اليهود في الوقت الذي يحرضون فيه على آل البيت وشيعة آل البيت ناسين أو متناسين احتلال بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، وناسين أو متناسين القواعد الأمريكية على أرض جزيرة العرب وخليجها. ساعين إلى تفتيت وحدة الأمة لأن حلفاءهم من يهود وصليبيين يعلمون تمام العلم أن تماسك الجبهة الداخلية على مستوى الأمة وعلى مستوى دولها أول ضمانات الاستمرار وأول الخطوات التي تؤسس للانتصار. لذلك أطلق هؤلاء الحلفاء دعاة الفتن من علماء السوء يحرضون الأمة بعضها ضد بعضها الآخر لحساب عدوها. الذي يريد نزع سلاح المقاومة وعندي أن كل من يدعو إلى نزع سلاح المقاومة إنما يتماهى مع المخططات الصهيونية والأمريكية المطالبة بتعديل مناهج التعليم في بلادنا لتحذف منها آيات الجهاد والعداء لليهود؛ وبذلك تكون الدعوة لنزع سلاح المقاومة هي التطبيق العملي للمطلب الأمريكي بحذف آيات الجهاد من المناهج الدراسية، كما أن الدعوة لنزع سلاح المقاومة هي دعوة لتعطيل فريضة الجهاد التي أمر بها القرآن الكريم وحثت عليها أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام.
ذكرى الثورة العربية الكبرى تعني أول ما تعني أن آل البيت هم محط أمل الأمة وأن الركون إلى الغرب لا يحقق للأمة هدفاً، وأن القوة والمقاومة هما سبيل النصر وأن وحدة الأمة مذاهب وأعراقاً هي أول الخطوات التي تؤسس للنصر. لذلك لم يلق آل البيت ومن التف حولهم السلاح، بعدما تبين غدر الحلفاء بثورة العرب الكبرى، فكانت ميسلون وكانت الثورة السورية الكبرى وصار الأردن معقلاً لآل البيت وحاضنة لمقاومة الأمة التي تعلم علم اليقين أن وحدتها على اختلاف مذاهبها وأعراقها أول خطوات تحقيق انتصارها على أعدائها، وتحقيق أهدافها باسترداد حقوقها.
وتزامناً مع الاحتفال بذكرى الثورة الكبرى يحتفل الأردنيون بيوم جيشهم العربي المصطفوي، ولهذا الاسم دلالاته ومعانيه، وأولها: أن هذا الجيش أسس لحمل رسالة هي رسالة آل البيت التي بشر بها جدهم المصطفى عليه الصلاة و السلام، وأن من أول مهماته حماية معاني هذا الاسم ودلالاته ومن بينها السعي لاسترداد حقوق الأمة وردع كل من تسول له نفسه العبث بها بفتنة مذهبية أو طائفية أو عرقية، وبذلك يحقق الدلالة الثانية لاسمه جيشاً عربياً للأمة كلها ولقضاياها الكبرى، وهذا يرتب علينا أن نولي هذا الجيش كل اهتمامنا، وأن نوفر له كل ما يعينه على أداء مهامه الجسام في إطار رسالته السامية التي تسعى لاستعادة مجد الأمة ودورها الذي من أجله كان الأردن الحديث الذي يحتفل اليوم بكل هذه المناسبات التي استمطرنا بعض معانيها لنؤكدها بعد أن نذكر بها بعض الذين يحاولون نسيانها.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية