لا أحد يستطيع أن يتكهن بالمكاسب أو الخسائر التي ستلحق بالحركات والتيارات الإسلامية بعد إعلان تنظيم الدولة الإسلامية الحرب على جميع القوى في الداخل والخارج؛ ولم يعد يظهر أصدقاء للتنظيم بعد الإعلان عن تشكيل تحالف دولي لمحاربة الإرهاب متمثلا بداعش استنادا لقرار مجلس الأمن 2170.
تاريخ طويل حافل مر على حركات الإسلام السياسي عانت فيه من الملاحقة والاضطهاد في بلدانها؛ لكن التحول الأبرز والأخطر الذي شهدته هو تحولها باتجاه العمل الجهادي المسلح العلني، والذي بدأ مع الاحتلال السوفييتي المباشر لأفغانستان من عام 1979 وحتى عام 1989؛ حيث تم السماح بتجنيد ألوف المجاهدين الإسلاميين وتجهيزهم ودعمهم من أجل الذهاب لقتال السوفييت في أفغانستان وتم ذلك برعاية أمريكية غربية ودعم خليجي خاصة من السعودية بالمال والرجال، ومن هنا كانت النواة التي تأسس منها تنظيم القاعدة الشهير بزعامة الثري السعودي الشيخ أسامة بن لادن.
لكن بموازاة ذلك استمرت حركات الإسلام السياسي التقليدية في نشاطاتها وسعيها للوصول إلى السلطة وقد تمكنت من ذلك فعلاً في عدة دول منها تركيا والمغرب وفلسطين ومصر وتونس وغيرها عبر مزاولة النشاط السياسي والدخول في لعبة الانتخابات الديمقراطية، مع ظهور تيارات جديدة تحمل مظاهر التشدد والتطرف.
بعد انسحاب السوفييت وهزيمتهم في أفغانستان والتي كانت سببا من أسباب سقوط الاتحاد السوفييتي نفسه، تغيرت البوصلة بالنسبة للمجاهدين هناك بعد تحقيق النصر وتحولوا باتجاه إقامة دولة إسلامية في البلاد ولكن ذلك أدى لصراعات مستمرة بينهم أفشلت مشروعهم مما دعى بعضهم للذهاب والقتال في مناطق ساخنة جديدة مثل البوسنة والهرسك 1992-1995؛ كما بدأ بعضهم يعود لبلاده، ويعمل على تشكيل نواة لتنظيمات جهادية في تلك البلاد تجعل من العمل المسلح أساسا لنشاطاتها لزعزعة أنظمة الحكم وإسقاطها وإقامة حكم إسلامي بدلاً منها، وبدأت تلك التنظيمات تشكل تهديدا حقيقيا لأمن تلك الدول؛ وأصبح يطلق عليها فيما بعد التنظيم العالمي للقاعدة. وقد ظهر نشاطها في بلدان عديدة منها الجزائر والمغرب واندونيسيا واليمن ومالي؛ ولا شك أن أحداث 11 أيلول 2001 التي هزت أمريكا والعالم هي الحدث الأبرز في تاريخ تنظيم القاعدة؛ وأدت للغزو الأمريكي لأفغانستان وسقوط طالبان بشكل سريع ومفاجئ مما أفقد تنظيم القاعدة الوحيدة كدولة للتحرك بحرية، وبدأت قوات من التنظيم التوجه نحو العراق الذي كان يخضع لتهديات أمريكية بالغزو والذي حدث فعلاً في 2003 والذي شكل تحولاً نوعياً في عمل القاعدة باتجاه طائفي عبر قتال الشيعة وبدأ التنظيم يطرح نفسه تياراً جهادياً سنياً خالصاً في مواجهة الجميع من غير المسلمين وكذلك المسلمين من المذاهب الأخرى وحتى السنة غير الملتزمين بأفكار وعقيدة التنظيم، وهنا يكون التطرف قد بدأ يصل لحده الأقصى وبات التنظيم يشكل خطراً محدقاً على الأهالي والمجتمعات وخاصة بعد تبريره القيام بأعمال تفجير انتحارية وسط المدنيين والأبرياء لتحقيق أهدافه.
قدم النظام السوري شتى أنواع الدعم للمقاتلين ضد الوجود الأمريكي في العراق ومنهم الجهاديون ومن تنظيم القاعدة وبقي هذا الموقف غير مفهوم أو مبرر من دولة تدعي العلمانية؛ حيث أصبحت الحدود السورية معبرا مفتوحا بالاتجاهين للمقاتلين وبإشراف أجهزة أمن النظام نفسها التي كانت تقوم بعمليات التجنيد والدعم اللوجيستي للمقاتلين من مختلف بلدان العالم؛ كما أنها جندت العديد من العناصر بينهم مستفيدة من الظروف المتاحة له.
أصبحت هجمات القاعدة مرتبطة بأجندات سياسية لدول معينة ومدفوعة من قبلها؛ ووصل الأمر بنوري المالكي رئيس الوزراء العراقي السابق لتوجيه الاتهام مباشرة للنظام السوري بالمسؤولية عن تفجيرات الأربعاء الدامي وهدد برفع شكوى للمحاكم الدولية رغم أنه كان قبل ايام في زيارة لدمشق وصفت بالناجحة.
مع بداية الثورة السورية سارع النظام لاتهام تنظيمات متطرفة بافتعال الأحداث من أجل إقامة إمارات إسلامية في البلاد؛ وكان هذا الإعلان مستغربا بل ومستهجنا خاصة في ذلك الوقت المبكر، لكن ما حدث في النهاية كان أسوأ من إعلان النظام نفسه.
ازدادت شوكة العناصر الجهادية المحاربة للنظام مع الوقت؛ وظهرت تنظيمات كثيرة منها (أحرار الشام وصقور الشام وجيش الإسلام ولواء التوحيد)، وغيرها وكانت تعلن التزامها بمبادئ الثورة السورية، ولو بشكل موارب وجتى تنظيم النصرة كان من الممكن تبرير وجوده بسبب قتاله مع الفصائل الأخرى ضد النظام.
بدأت المشكلة الكبرى للثورة من خلال ظهور تنظيم الدولة الإسلامية وتضخم قوته بسرعة وتزامن ذلك مع تناقص الدعم للكتائب الأخرى؛ حيث لجأ التنظيم لترسيخ قوته في المناطق المحررة سابقا من كتائب اخرى وبدأ يفرض تطبيق الشريعة بقسوة وفق مفهومه على الأهالي فيها وبدأ يفرض نفوذه كسلطة تحولت فيما بعد عبر مبايعة البغدادي إلى خلافة.
حقق التنظيم المزيد من الانتشار والتوسع عبر مزيد من الانتصارات ولكنه مارس أعمال تطهير عرقي ضد الأكراد؛ ومذهبي ضد المسيحيين والأيزيديين خلال ذلك؛ مما خلق موجة دولية واسعة من الاستنكار ضده وصلت لحد إصدار القرار رقم 2170 من مجلس الأمن والقاضي بملاحقة مصادر تمويل التنظيم وتجفيفها.
كل الجهود الدولية الآن تتركز حول إقامة تحالف دولي واسع لمحاربة تنظيم الدولة وحتى النظام يحاول حشر نفسه في هذا التحالف لتبرئة نفسه من تهمة الإرهاب؛ فيما أعلن الائتلاف تأييده الواضح وبشكل مبكر لقتال داعش دون التطرق للميلشيات الشيعية في البلاد؛ ويبدو أن إعلان هذا التحالف بات مسألة وقت وهو ليس ببعيد.
ربما يرى البعض أن القضاء على داعش لن يكون مجرد نزهة بل سيسبب الكثير من الضحايا والآلام في صفوف المدنيين ولكنه شر لا بد منه في النهاية.
القضاء على داعش سيشكل ضربة قاضية لتنظيم القاعدة، ككل وخاصة بعد اهتزاز صورته عبر ممارسات العنف والتهجير التي مارسها وتحوله لتنظيم متطرف غير مقبول حتى في أوساط الإسلاميين أنفسهم الذين أصدروا البيانات والفتاوي ضده بعد أن شكل إحراجا لحركات الإسلام السياسي وحتى الجهادي وإضعافا لمواقفها؛ ولكن في نفس الوقت فإن نهاية داعش ستشكل بداية النهاية للنظام الذي يجب عليه أن يدفع ثمن ما جنته يداه في دعم ورعاية تلك التنظيمات بعد أن استثمرها بشكل كامل.
ربما يتوقع البعض أن الحرب مع داعش ستطول لكن العارفين ببواطن الأمور لا يتوقعون ذلك ويقارنون بما حدث في أفغانستان حيث انهارت طالبان بسرعة مع سقوط الصواريخ الأولى؛ ويرون أنه يتم تضخيم قوة داعش بشكل مقصود لجعلها عدوا قويا يستأهل إعلان الحرب ضده وإنجاز النصر عليه.
بكل الأحوال لا يرى أحد أن تبعات الهجوم على داعش ستنتهي بسرعة بل ربما ستنتقل لتنفيذ هجمات انتحارية وسط المدنيين كما فعلت في العراق؛ لكن من المرجح أن تكون هذه الحرب هي الأخيرة لتنظيم القاعدة، ولن يتاح للتنظيم فيما بعد التجمع في مكان واحد وإعلان دولة؛ ويمكن التأكيد أن هذه الحرب ستكون نهاية حلم الجهاد وخسارة فادحة للقاعدة وللإسلام السياسي الذي يدعم الجهاد؛ ساعة الصفر في بدء الهجوم على داعش مرتبطة بتجاوزها الجغرافيا والخطوط الحمر المرسومة لها ويبدو أنها تسير باتجاه قدرها المحتوم.
عماد غليون
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية