انطلق في مكة منذ يوم تجربة حوار فريدة بين خمسة مائة عالم دين من خمسين دولة إسلامية تحت رعاية النظام الرسمي السعودي ورابطة العالم الإسلامي، وتتزعم هذا الحوار مؤسسات دينية من مصر ممثلة في شيخ الأزهر ومن ايران ممثلة في رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام وعبد الله الشيخ
مفتي السعودية وأجندة الحوار الإسلامي هي التقريب بين الرؤى المتنافرة والانفتاح على الآخر ونبذ العنف والتعصب والانغلاق وإقامة علاقة سلمية تسامحية مع القريب والغريب على السواء والانتقال من صدام الحضارات الى حوار الثقافات.
المقاصد والغايات من هذه التجربة المطلوبة هي القيام بمراجعات جدية لرأب الصدع ودراسة أسباب تعثر تجارب الحوار السابقة وتفعيل آليات من أجل إنجاح هذه التجربة الحالية من أجل توحيد الصف للشروع في تجارب حوار أكبر مع العالم والثقافات والأديان المغايرة.
ان الحوار في حد ذاته مبدأ أخلاقي نبيل يصلح لترسيخ جملة من القيم الأصيلة والسلوكات السامية وآلية سياسية ناجعة لإيجاد سبل للتفاهم ورفع نقاط الالتباس بين جميع الأطراف وإيجاد حلول ناجعة لتحديات مستعصية وهو كذلك أرضية وجودية ملائمة للحلم والتعاطف والتواضع والتعرف على الآخر وتبادل مشاعر المودة والصداقة معه.لكن تجارب الحوار في الفضاء الديني الإيماني مازالت تعاني من عدة عراقيل وتحفظات بل نرى العديد من رجال الدين يرفضون الجلوس مع نظرائهم من أجل مناقشة حقيقة فتاواهم وأحكامهم الفقهية القطعية لأنهم يعتقدون أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة ويعتبرون أنفسهم من الراسخين في العلم وينظرون الى أنفسهم أنهم تمكنوا بالفعل وبشكل مطلق من ادراك ومعرفة جوهر الدين وحقيقة الإيمان والبعض منهم يخلط بين الاجتهاد البشري والإلهام والوحي في آرائه. تجربة الحوار الإسلامي في مكة تطرح عدة استفهامات تتطلب المعالجة والدراسة: ما المقصود بالحوار الإسلامي؟ هل هو حوار بين الأنظمة الإسلامية أم حوار بين الفرق والمذاهب والطوائف الإسلامية؟ ماهي الغايات الحقيقية لمثل هذا الحوار؟ ولمصلحة من يجري؟
ان أهم شرط للحوار هي احترام المتحاورين لآدابه وقواعد لعبته وكذلك ينبغي أن يكون المتحاورون متكافئين ولهم استقلالية نسبية في إدارة موضوع الحوار واتخاذ القرارات المناسبة وتقديم التنازلات الضرورية لإنجاح هذه التجربة النادرة، ثم ان الحوار لا يجب أن يقتصر على الوصول الى اتفاق من أجل مواصلة الحوار فقط بل يجب أن يحل مجموعة من المشاكل ويجتاز عدة عقبات ويقرب في وجهات النظر ويذلل الصعوبات التي كانت تقف أمام تقارب بعض الدول.
الاستفهام الثاني هو حول علماء الدين الذين يمثلون دولهم هل هم علماء الدين الذين يعملون مع الأنظمة الحاكمة أم علماء الدين والفقهاء التابعين للمجتمع المدني والذين يتمتعون باستقلالية كافية تمكنهم من النقد والمحاسبة وإبداء الرأي وحمل هموم الناس وتطلعات الشعوب؟ ثم على أي أساس وقع اختيارهم؟ وكيف يقع تحديد درجة العلمية لرجال الدين؟ هل باستيعابهم للعلوم الموروثة أم لمواكبتهم لعصرهم واستفادتهم من العلوم الانسانية وتوظيفها في قراءة دينهم وتراثهم وواقعهم؟
المشكل الثالث الذي يطرح هو عودة الدين الى المجال السياسي بهذه الكثافة هل يعني ذلك أن السياسي لا يستطيع أن يدبر الشأن العام بمعزل عن الديني أم أن الديني يريد أن يفتك المكانة التي أقصاه منها السياسي؟ لكن ألا تمثل هذه العودة للديني خطرا على نجاعة السياسي واجرائيته وقدرته على التأثير؟
هذه بعض الهواجس التي انبجست من مؤتمر الحوار في مكة ومهما تكون مجريات هذه التجربة ومضمون المداولات ونوعية الأشخاص المشاركين فإنها بادرة تذكر فتشكر بشرط أن تتعدى مناقشة العلاقات السياسية بين الأنظمة الحاكمة المشاركة وتناقش مطالب الناس في الوحدة والتحرر والتنوير والتنمية والعدالة وتبتعد عن تبرير الممارسات الاقصائية والعنيفة للبعض تجاه الآخر.
ان المسلمين لا يستطيعون أن يحاوروا العالم وهم لم يقوموا بالتشاور والتنسيق فيما بينهم وبالتالي لا ينجحون في مد الجسور مع الآخر الا بعد إحرازهم لنجاح في مستوى تمتين اللحمة فيما بينهم. ان هذا الهدف لا يتحقق الا المشورة الشعبية التي هي البذرة التي تنبت منها شجرة الديمقراطية. فهل يكون هذا الحوار فاتحة خير نحو انطلاق حوارات بين الأنظمة والمعارضة وبين المجتمع الأهلي والمجتمع السياسي من أجل القيام بإصلاحات جذرية تحول سلطة الدولة من الإكراه الى الإقناع وتنقل رأي الناس من الخوف والخضوع الى الاحترام والطاعة؟
* كاتب فلسفي
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية