في همروجة الانتخابات الرئاسية اللبنانية، مرت مبادرة الحكومة السورية للمشاركة بها بشخص وزيرالخارجية وليد المعلم، مرور الكرام،أي من دون أن تثير أي ضجة أو تعليق. وهو واقع لا يلغي أهميتها، إذ يمكن اعتبارها مفصلية، من ناحية خروجها البارز عن مسار القطيعة القائمة والمستحكمة بنمط العلاقات السورية اللبنانية، والتي لم تشهد أي زيارة متبادلة لأحد من المسؤولين من كلا البلدين، منذ انسحاب الجيش السوري من لبنان في نيسان (إيبريل) 2005 .والتوقف حيال هذه الزيارة قد يكون ضرورياً لإمكانية تشكليلها بوادر أول الغيث بالنسبة للعلاقات الثنائية المتردية بين البلدين، بل أيضاً لامكانية انعكاسها الايجابي، على أجواء العلاقات العربية السورية ،والسورية السعودية على وجه الخصوص.
وتكتسب هذه الزيارة أهميتها مع ما أعقبها من تهنئة وجهها الرئيس السوري بشار الأسد للرئيس ميشال سليمان فور انتخابه، ومن أخبار تواترت حول نية سوريا لاقامة علاقات ديبلوماسية مع لبنان. وهو موضوع كان غبير وارداً بتاتاً في المرحلة السابقة ورافق مواقف سورية متشددة تجاه الأزمة اللبنانية، حيث كان يشكل مجرد طرح أي موضوع يتعلق بالعلاقات السورية اللبنانية على أي طاولة حوار، أو ضمن أي مؤتمر ،سبباً كافياً لاثارة تشنج وتعنت المحاور السوري، وصولاً لاعلانه المقاطعة في حال لم تلبى الشروط التعجيزية بل الاقتراحات الحاسمة للحلول التي كان يراها هو من منظاره الأنسب للازمة اللبنانية. ويأتي توصيفنا لزيارة المشاركة السورية بالانتخابات اللبنانية بالخطوة الايجابية ، ليس من باب الاشارة لشكليتها فقط أي من ناحية التوقيت، بل أيضاً بسبب جو الارتياح والانفراج الذي أطل خلالها، والذي من الممكن أن يطل عبرها في المستقبل .
هذا مع العلم أن المساعي السورية باتجاه الحلحلة على صعيد الأزمة لم تبدأ مع هذه الزيارة.وللتذكير نشير إلى أن هذه الجهود واكبت انعقاد مؤتمر الدوحة، من حيث أنها انطلقت عشيته بلقاء تشاوري جمع الرئيس السوري برئيس الوزراء القطري حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني ،وانتهت بلقاء تقييمي لنتائج المؤتمر بين الفريقن ذاتهما زائد أمين عام الجامعة العربية عمر موسى. وهي جهود أقل ما يقال فيها أنها توافيقية، وتعكس أولاً مصلحة سوريا بالظهور إقليمياً وعالمياً بأنها صاحبة النوايا الحسنة، سعياً وراء تبديد صورة الدولة المارقة أو المتنعنة دائماً، كما يحلو للولايات المتحدة توصيفها من وقت لآخر، وتتماشى ثانياً مع بالرغبة السورية للاستجابة لإرادة المجتمع الدولي، والذي لم ينفك يطالبها بالمساهمة بحلحلة الازمة اللبنانية. استجابة استجدت في هذه المرحلة، ولقت صداها السريع لدى الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي عبر عن ارتياحه للتغير الحاصل في السلوك السوري بشكل عام، وأعلن عن رغبة الادارة الفرنسية في إعادة تفعيل العلاقات الفرنسية السورية المجمدة حتى الساعة، والتي تتناول أكثر من صعيد. ناهيك عن إعلان الوكالة السورية للاعلام عن نية الرئيس السوري بشار الاسد بالقيام بزيارات تشمل دول الخليج وهو حدث كان مستبعد في المرحلة السابقة.
والرئيس ساركوزي هو قارىء جيد ويدرك جيداً أهمية الدور الذي لعبته دولة قطر لانجاح مؤتمر الدوحة ، إلا أنه يعرف جيداً أيضاً أن سوريا من خلف الستار كانت اللاعب الأهم والممسكة فعلياً بخيوط اللعبة وبالاوراق الضاغطة، والمقررة توقيت رمى هذه الورقة أو تلك، بالتعاون والتنسيق مع حليفتها الاستراتيجية إيران. وهو تحالف على ما يبدو ما زال قائماً على أقله ظاهرياً حتى الساعة، إلى أن تعلن الضغائن الايرانية المضمرة والتي قد تؤدي الى القطيعة. وهي قطيعة ترى بعض التنظيرات إنها حاصلة لا محالة في آخر المطاف وإن عمد الطرفين إلى إخفائها بالمرحلة القائمة،وللاسباب التالية:
أولاً: إذا نظرنا إلى الرغبة السورية المتجددة في اعادة ترميم ما انقطع في العلاقة مع الدولة اللبنانية من ناحية، وإلى دعمها للاستتباب الامني في لبنان عن طريق تفعيلها الغير مباشر لمحادثات الدوحة، ولحصول الانتخابات الرئاسية بعدها، يمكن الاستشفاف بأنها تساهم في قيام الدولة اللبنانية القوية المقتدرة. وبالتالى من البديهي القول أنه حتى تقوم هذه الدولة اللبنانية بهذه المواصفات، من المفترض أن تكون خالية من الدويلات المسلحة والتي تعمل على اضعافها وتقويضها. فهل يمكن لسوريا أن تخطط لدعم قيام الدولة القوية من دون التخلي عن حزب الله كدويلة مسلحة بداخلها تسعى لاضعافها؟
ثانياً : ونهاية الغزل السوري الايراني هو حاصل، لعدم قدرة سوريا على الهروب من الزامية تخليها عن حزب الله وحماس،ليس فقط من أجل سواد عيون "البلد الشقيق لبنان"، ولكن إستجابة للشروط الاسرائيلية المطلبة بذلك قبل ولوج المراحل النهائية من عملية السلام.
واضطرار سوريا للخروج من لزامة دور "الممانعة "تجاه اسرائيل، سوف ينعكس على الدور ذاته الذي الزمت به جماعاتها وحلفاؤها في لبنان وفلسطين،على مدى العقود الماضية. وهو شعارالتزمت به ليس فقط من أجل كسب صداقة ودعم الطرف الايراني، بل وأيضاً من أجل إعلاء نبرة المزايدة والتحدي بوجه الدول العربية كافة. وفي هذا السياق يهم التذكير ببوادر التغيير في المواقف السورية وخاصة بالنسبة لمسألة "الممانعة" هذه والتي بانت بانحراف سوريا عن مسارها التحريضي لحلفائها في لبنان.
وقد لايضيمها التخلي عن الحلفاء "الممانعين" في خطوة أولى لاظهار حسن النوايا تجاه الولايات المتحدة واسرائيل. وها هي الآن بصدد اسقاط ورقة حزب الله كحزب مسلح، ودفعه للتحول إلى حزب سياسي .وما التخبط والضياع الذي تصيب هيكلية الحزب حالياً ،والتي ظهرت عبر حالتي العصبية والتشنج عند السيد حسن نصر الله، خلال القائه لخطابه الإخير، سوى دليل إضافي على التفاجؤ بهذا "التخلي عن دعم السلاح" ليس من قبل سوريا وحسب، ولكن أيضاً ربما بشكل غير معلن حتى الساعة من قبل إيران .والبرهان على ذلك مشاركة إيران في مؤتمر الدوحة بشخص وزير خارجيتها منوشهر متكي ،وفي انتخابات الرئيس سليمان غداة المؤتمر، في وقت كان بامكانها الانكفاء عن المشاركة في الحدثين احتجاجاً على المحادثات السورية الاسرائيلية.
ولكن هل يعني كل ذلك أن سوريا هي في صدد العطاء من دون التأكد من الحصول على أي مقابل ؟ وهل التنازل عن دعم حزب الله، مع العلم أنه يشكل أقوى ورقة لها، هو من باب الاستراتيجية الهوجاء، أو المراهنة الغير مدروسة؟ وماذا لو كانت مبادرة اسرائيل للسلام غير جدية،أو هي من باب المناورات المعهودة من قبل اسرائيل ، أو للتمويه على ما تقوم به في غزة، أو لتغطية غرق اولمرت حتى أذنيه بعملية فساد فاقعة؟ في الحقيقة حسابات سوريا هي دقيقة وعملية.وهي تدرك جيداً أن موضوع "التخلي" عن الاوراق اللبنانية، إن لم تعيد لها الجولان في آخر المطاف، سوف تعيدها إلى كنف المجتمع العربي والدولي، وتثبت بالوقت ذاته دعائم النظام القائم، وتخفف من وطأة الضغوط التي تتعرض لها بشكل متزايد ومضطرد، وتريحها من سيل العقوبات التي ترمى باتجاهها كل يوم .
في كل الاحوال وفيما خص لبنان يمكن القول أنه الرابح الأكبر كيفما اتجهت المسارات. ففي حال تمت عملية السلام ، قد يكون ذلك مؤشراً لعودته لسابق عهده من النمو والتطور والازدهار والرخاء بسبب خروجه من دور "الساحة"، الذي لازمه طيلة الثلاث عقود الماضية. وإن لم تتم فمن غير المحتمل أن تعود سوريا لسابق عهدها في القطيعة والجفاء مع لبنان،وألى تحويله من جديد إلى "ساحة" لتصفية حساباتها مع المجتمعين العربي والدولي، لانعكاس ذلك سلبياً على علاقاتها مع هذين العالمين. ناهيك عن كونها تجربة خرجت منها خاسرة على كل الصعد فلماذا تعيد الكرة مرة ثانية؟
فهل يتلقف اللبنانيون الاستعدادات الايجابية للمبادرة السورية، ويتعالوا عن الجراح الماضية من أجل اتمام مصالحة الشجعان لمصلحة البلدين؟
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية