عندما وصل الربيع العربي لنسخته السورية كان قاسيا جدا لدرجة أوقفت امتداده عند هذا الحد؛ فرغم المطالب البسيطة للثورة السورية السلمية بالحرية والكرامة؛ إلا أن النظام بدلا من تقديم بعض الإصلاحات والتنازلات الحقيقية لاحتواء الموقف الخطير سارع للتصعيد منذ أول خطاب ألقاه بشار الأسد في مجلس الشعب في 30 آذار 2011 بعد أيام معدودة على بدء انتفاضة درعا، وتبع ذلك تصريحات بثينة شعبان التي وضعت فيها توقعات لمآل الأحداث في البلاد أقرب ما يكون لسيناريو محضر بإتقان، حيث تكلمت فيها عن إرهابيين عرب وأجانب يسعون لإقامة إمارات إسلامية في البلاد مستغلين الانتفاضة الشعبية؛ وبالرغم من عدم وجود أي حقيقة تؤكد ادعاءات شعبان إلا أن وسائل إعلام النظام استمرت بتكرار الرواية نفسها حتى باتت واقعا ملموسا ولو بعد مضي وقت طويل.
من دراسة التحولات التي طرأت على الثورة السورية والتي أفضت بها إلى العسكرة ودخول جماعات وتنظيمات متطرفة فيما بعد، ومقارنة ذلك بالروايات الأولى للنظام، فإن الكثيرين باتوا مقتنعين بأن النظام هو الذي أوصل الأمور إلى هذا الحال متعمدا من أجل خلق حالة من الفوضى في البلاد تسمح له بأن يكون هو من يديرها بدعم وإشراف دولي؛ وبات هناك شواهد وأدلة كثيرة تؤكد ذلك.
عمد النظام لتأجيج الصراع المذهبي بين السنة والشيعة واستغل فيه دعم الشيعة له عبر المرجعيات الدينية في إيران والذي تمت ترجمته عبر اشتراك ميليشيات شيعية معه من إيران والعراق ولبنان في حربه على شعبه بحجة حماية المراقد الدينية المقدسة لدى الشيعة؛ كما أنه أقام تحالفات مع الأقليات الدينية الأخرى في البلاد بحجة حمايتهم.
بموازاة ذلك لعب النظام على العامل القومي وخاصة مع الأكراد عبر تقديم مكاسب هامة لهم منذ البداية أهمها ما يتعلق بموضوع الجنسية؛ وكذلك أقام نوعا من التحالف المعلن مع بعض الفصائل الكردية لتحييدها وإيجاد حالة من التوازن في صفوف الكرد.
تمدد تنظيم الدولة الإسلامية في شمال سوريا وكسر حدود سايكس _بيكو مع العراق لأول مرة، ومن ثم أعلن البغدادي لدولة الخلافة؛ لكن ذلك ترافق مع ممارسات عنيفة قام بها التنظيم تم استنكارها بشدة، وخاصة طرده المسيحيين الآشوريين من الموصل؛ لأول مرة منذ آلاف السنين تنام الموصل وحيدة دون آشورييها.
الآشوريون يضربون في عمق التاريخ الحضاري للمنطقة وهم مجموعة عرقية تسكن شمالي بين النهرين في العراق وسوريا وتركيا وبأعداد أقل في إيران؛ ويتحدرون من عدة حضارات قديمة في الشرق الأوسط أهمها الآشورية والآرامية؛ كما يعتبرون من أقدم الشعوب التي اعتنقت المسيحية منذ القرن الأول؛ وينتمون لكنائس مسيحية سيريانية متعددة ككنيسة السريان الأرثوذكس والكاثوليك والكنيسة الكاثوليكية وكنيسة المشرق التي تتميز عن غيرها بلغتهم الأم السريانية الباقية والمميزة لهم.
سقطت نينوى عام 622 ق.م؛ ومع ذلك فإن المسيحية السيريانية بلغت عصرها الذهبي في القرن الرابع والخامس الميلادي؛ كما انتشرت المدارس السريانية في الرها ونصيبين واعتبرت مدرسة نصيبين بأنها أقدم جامعة في التاريخ.
لكن أوضاع الآشوريين السريان بقيت تاريخيا مرتبطة باستمرار بطبيعة الحكم والامبراطوريات السائدة في المنطقة من حيث العنف أو التسامح.
بعد مشاركتهم في انتفاضة "مالك ياقو" عام 1933 الداعية لإنشاء كيان قومي لهم في العراق حدثت هجرة كبيرة للآشوريين من العراق إلى سوريا بسبب مجزرة "سميل" التي قتل فيها أكثر من ثلاثة آلاف منهم ولتعرضهم للاضطهاد فيما بعد.
لم يكن مسموح لهم تعلم لغتهم الآشورية الأم في سوريا إلا في الإطار الكنسي، ولكن النشاطات القومية كانت ممنوعة عليهم، إلا أنهم أسسوا أول حزب سياسي لهم عام 1957 هو المنظمة الآشورية، واستمر السياسيون الآشوريون في التعرض باستمرار للاضطهاد والاعتقال، وتم الضغط على الآشوريين في حياتهم المعيشية بهدف تهجيرهم، لكن في العراق بعد انتفاضة الأكراد العام 1991 في شمال البلاد ومشاركتهم فيها استفادوا بالبدء بتعليم لغتهم بشكل كامل وعاشوا بهدوء واستقرار رغم حالة العداء التاريخي بينهم وبين الأكراد.
مع انطلاق الثورة السورية وبدء تشكيل الأجسام السياسية المعارضة للنظام شاركت القوى السياسية الآشورية منذ البدء فيها بقوة، وكانت مطالبها مماثلة لباقي شرائح الثورة السورية، والمتمثلة بالحرية والكرامة والدولة المدنية الديمقراطية التعددية؛ ما عدا الأكراد الذين أظهروا مطالبهم القومية منذ البداية بأشكال مختلفة حسب التيارات السياسية، وفيما بعد انضمت باقي القوميات من تركمان وآشوريين وشركس للمطالبة بالنص على حقوقها بشكل واضح وصريح في وثائق وأدبيات المعارضة.
شكّلت القضية الكردية المعضلة الأكبر بالنسبة للمعارضة السورية لكون مطالب الأكراد متفاوتة من الإدارة الذاتية للفيدرالية وصولا للاستقلال أو الاندماج مع كردستان العراق؛ بينما بقيت المعارضة متمسكة بخطاب خشبي يمتد لأيام ما قبل الثورة ولا يراعي التطورات الحاصلة في الميدان أو في المواقف الدولية؛ لكن مواقف المسيحيين الآشوريين استمرت على حالها بسبب عدم وجود قوة أو ظروف موضوعية تساعد على تطورها وخاصة مع الهجرة المستمرة لهم من البلاد.
كسر داعش للحدود بين العراق وسوريا، ومن ثم تهجيرها للمسيحيين الآشوريين بشكل مؤلم أحدث صدمة في الأوساط الوطنية والإسلامية المعتدلة؛ وسيقوم الآشوريون بحملات واحتجاجات ضد ذلك في مختلف دول العالم ابتداء من 9 آب الجاري بالتزامن مع اليوم العالمي للقوميات.
أحداث الموصل تجعل الآشوريين بين خيار الاستمرار في القبول بدولة المواطنة سواء في سوريا والعراق وربما يكون هذا الخيار هو الأقوى؛ بينما عادت المشاعر القومية تستيقظ من جديد وبشكل متزايد لدى البعض منهم الذين يربطون مصيرهم بما يجري من إعادة ترتيب وتقسيم المنطقة من جديد وبالتالي تضعف المخاوف والهواجس التاريخية بالاضطهاد التي استمرت تلاحقهم على مدار تاريخهم الطويل، ويصبح من الممكن أن نسمع مطالب من القوميين الآشوريين بإقامة دولة لهم تكون عاصمتها المدينة التاريخية نينوى.
عمليات التهجير الواسعة التي تحصل في المنطقة يبدو أنها تتجه صوب رسم معالم الخارطة الجديدة؛ ومن هنا نرى تركيز النظام على تثبيت نفوذه ضمن المناطق التي يسيطر عليها، فيما تقوم داعش بالتمدد بعيدا باتجاه شمال البلاد وغرب العراق والعمل على إخضاع المنطقة بشكل كامل لها؛ فيما دولة كردستان العراق حصلت على المناطق التي كانت تطالب بها في كركوك مستفيدة من التطورات الميدانية التي حصلت؛ ويستمر كذلك مسلسل التطهير الطائفي للسنة من البصرة؛ ويبدو من هذا السياق حتى الآن أن التركمان هم القومية الأكثر تضررا مما يحصل رغم الدعم التركي القوي لهم.
تبدو عمليات التهجير وكأنها عمل ممنهج وتسير وفق برنامج محدد فعلا؛ صحيح أن ذلك مرتبط بمؤامرة غربية لإعادة تقسيم المنطقة ولكن الأطراف الداخلية ضالعة فيها بقوة كون كل منها يسعى لتحقيق حلمه التاريخي القديم .... داعش ربما تكون مجرد أداة لتنفيذ المخطط ... بالنسبة للآشوريين هو حلم عودة نينوى عاصمة لهم وربما للمسيحيين في المنطقة كلها.
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية