أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

شيخ الكار .. حسن بلال التل


نحن من الشعوب الفدائية بحق؛ فكل منا لا بد أن احتاج يوماً إلى زيارة المناطق الحرفية أو التعامل مع ''الصنايعية''، وبالتأكيد فكل من دخل أياً من هذه المناطق لا بد أنه يعلم أن الداخل مفقود والخارج مولود؛ فالداخل إلى المناطق الحرفية أو الصناعية كما درج على تسميتها يدخل وهو يحمل روحه وماله وعقله على كفه، وغالباً ما يخرج من ساحة الردى تلك بروحه فقط، وربما بأجزاء منها، بعد أن يكون فقد المال والعقل بكل تأكيد؛ فالمال يُفقد زوراً ونصباً وبهتاناً واستغلالاً لحاجة المواطن وجهله بواقع الحال، والعقل يفقد لأن العاملين في هذه المناطق دوماً يستخفون بعقول الناس ويستغلون جهلهم بدقائق احتياجاتهم وتفاصيل هذه المهن مهما كانت، أما الروح فهي إما أن تزهق أو تضيع أجزاء منها، إما بسبب خطأ قد يرتكبه هذا المهني قد يكون بحق قاتلاً، خاصة في السيارات، أو لطول الانتظار وكثرة المواعيد الكاذبة للانتهاء من العمل، أو أثناء المناوشات والصدامات العديدة مع هذا وذاك نتيجة المغالاة في الأجور والكذب في المواعيد وعدم الإتقان أو حتى عدم أداء العمل أصلاً، وأكاد أجزم أن كل منا قد وقعت معه حكاية، حيث تقاضى منه ''المواسرجي'' مبلغاً ضخماً مقابل تركيب جلدة حنفية، أو أن الميكانيكي بعد إصلاح السيارة قد سلّمه مع السيارة حفنة من البراغي والأسلاك، وربما بعض القطع بحجة أنه ليس لها لزوم، وأن ''هظول الألمان شو بيفهمهم بشغل الميكانيك والسيارات''، ومتأكد أن الجميع قد تشاجر مع الكهربائي لأنه أكد ضرورة إعادة تمديدات المنزل كاملة، أو تغيير طقم الكهرباء الخاص بالسيارة كله ليتبين بعد ذلك أن المسألة كانت قاطعاً كهربائياً معطوباٌ أو ''فيوز'' لا يجاوز ثمنه بضعة قروش، لكن طبعاً لا يستطيع أحد أن ينبس ببنت شفة أو يحاور أو يجادل أو يرفض الدفع لأنه عندها يغامر فعلاً بأن لا تطلع عليه شمس يوم جديد.

في معظم دول الجوار فإن المهن والصنائع يتم توارثها أباً عن جد، وأذكر أنني دخلت إلى محل ميكانيك في دولة شقيقة فوجدت في صدر المحل صور ثلاثة أو أربعة أجيال من أفراد العائلة ممن عملوا في نفس المهنة، بل وفي نفس المحل حتى انني شككت أن تاريخ التقاط الصورة الأولى يسبق اختراع السيارات ذاتها، ولا تغيب عن بالي حادثة أو أكثر وقعت معي ومع غيري من الأقارب والأصدقاء، حينما طلب منهم المهني الوطني ''بقرة جحا'' ثمناً لإنجاز عمل معين فيما تقاضى عنه غير الأردني سواء في الأردن أو في غير الأردن جزءاً يسيراً مما طلبه الأردني، هذا عدا عن تفاوت مستوى الإتقان بشدة بين الطرفين؛ فبينما الحرفي الحقيقي يكون إما قد توارث المهنة أباً عن جد، أو أتقنها إتقاناً تاماً على يد معلمه قبل أن يستقل بذاته وينشئ محله ومشروعه الخاص، بل إنه في دول مثل سورية مثلاً هناك لكل مهنة رئيس يعترف له الجميع بالريادة والإتقان ولا يجاز أي مهني جديد إلا إن أجازه هذا الشخص والذي يدعى بـ''شيخ الكار''، وهي عادة قديمة أحيتها سورية رسمياً مرة أخرى قبل عام أو يزيد.

أما في الأردن، فتجد أي شاب أو حتى فتى قد عمل في محل مهني لبضعة أشهر يظن نفسه قد أصبح سيداً في صنعته، فيستقل بذاته ويؤسس محلاً له ويتدرب على ممتلكات الناس، ويهدد أرواحهم؛ فمثلاً أقل خطأ في الصنعة أو تقدير لعطل يرتكبه ميكانيكي قد يؤدي إلى تدهور سيارة وضياع عشرات الأرواح - لا قدر الله -، وأقل خطأ قد يرتكبه كهربائي قد يؤدي إلى احتراق مسكن أو مصنع أو ربما أكثر من ذلك، وبعض مهنيينا قد يختصر أساساً فترة التدريب، فينشئ مشروعه ويبدأ مباشرة بالتدرب على أموال الناس و المغامرة بأرواحهم.

في ظل ما سبق كله، فقد أصبح تنظيم قطاع المهن في الأردن حاجة ملحة خصوصاً إذا علمنا أن إحصائيات الأمم المتحدة حول الحوادث عموماً سواء حوادث السير أو غيرها دوماً تشير إلى أن السبب الرئيس في الحوادث يرجع إلى قصور في أداء الآلة وإلى الخطأ البشري ونحن في الأردن من أكثر الدول معاناة من هذه الحوادث ومسبباتها.

لذا لا بد من آلية تمأسس لعمل هذا القطاع بصورة تضمن جودة الأداء وحقوق الطرفين وغالباً هي حقوق المواطن التي تضيع وتهدر دون داع، ودون تعويض، لذا لا بد لكل من يمارس أي مهنة أن يحصل على شهادة مزاولة مرخصة له العمل من جهة مسؤولة لأن المهني تماماً كالطبيب أو المهندس وغيرهم، فكل ما يقوم به مؤثر على أرواح الناس وأموالهم، بل قد يكون ضرر خطأ المهني أو الصنايعي أضعاف ضرر خطأ غيره لأننا عند الحوادث والمشاكل الكبيرة نادراً ما نتتبع الأسباب إلى أخطاء قد يكون سببها خطأ مهني أو عامل غير ماهر ودوماً ننحو باللوم على الآلة أو نلجأ لتبريرها بالقضاء والقدر ناسين أو متناسين أن الآلة لها صانع ومشغل وصيانة، وناسين أو متناسين أن قضاء الله وقدره لا يأتي خبط عشواء - والعياذ بالله - ، بل له أسباب وحكم، لذا لا بد من آلية لحماية أرواح الأردنيين، وأموالهم أقلها أن نبتدع ''شيخ كار'' خاص بنا، أو أن تكون النقابات والاتحادات المهنية والعمالية مسؤولة عن أخطاء منتسبيها وعن ترخيصهم للعمل، وأن تصبح كل علاقة مهنية بين مواطن وحرفي أو مهني منظمة بعقود تحمي مصالح وحقوق الطرفين، بل إنه وكما أن السائق والسيارة يكونان مؤمنين ضد الحوادث يجب أن يؤمن ''الصنايعي'' ضد ما يمكن أن تتسبب به أخطاؤه من حوادث وأضرار، فلا يجوز أن تبقى أموالنا وأرواحنا لعبة في يدي كل فتى قرر أنه صاحب مهنة من الفراغ، أوكل عديم ضمير لا يهمه أن يغش الناس في أموالها وأعمارها.

(107)    هل أعجبتك المقالة (103)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي