
محمد ديبو صحفي وشاعر سوري كان من أوائل الذين خرجوا في مظاهرات سلمية ضد النظام في مدينة بانياس التي ينتمي إلى إحدى قراها، وتم اعتقاله على إثر ذلك ليمضي أياماً مريرة خلف الزنازين، وفي أجواء المعتقل التي امتزج فيها شهيق الجمر بزفير الرماد دوّن تجربته في كتاب حمل عنوان (كمن يشهد موته)، وهو ليس الكتاب الأول له، إذ سبقه كتابان آخران أحدهما بعنوان (خطأ انتخابي) مجموعة قصصية دار الساقي -بيروت 2008)، والثاني (لو يخون الصديق ديوان شعر- منشورات دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008)، كما حاز على العديد من الجوائز الأدبية والفكرية ومنها جائزة نيلسون مانديلا عام 2007.
حول تجربة التظاهر السلمي التي شارك فيها مبكراً مع عدد من مثقفي الساحل ويوميات الثورة والاعتقال والحرية التقت "زمان الوصل" الشاعر والصحفي محمد ديبو وكان الحوار التالي:
*حدثنا عن اختيارك المبكر لكسر حاجز الخوف والصدام مع النظام وكيف كانت الإرهاصات الأولى للثورة السورية في الساحل تحديداً؟
**ولدت اللحظة السؤال التفكير من رحم الربيع العربي الذي بدأت بواكيره في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين، إذ كان السؤال الذي طرحه آنذاك كل سوري على نفسه، هل سيحصل شيء هنا؟ من هذا التساؤل ولدت عملية التفكير والبحث عما يحتمله الواقع السوري، فكانت وسائل التواصل الاجتماعي هي التعبير الوحيد، حيث كتبت في أوائل آذار (2011) "كي لا يقال إن الشعراء صمتوا في الأزمنة الصعبة.. حرية. حرية.حرية. بدنا حرية"، لتبدأ رحلة البحث عن كيفية نقل هذا الشعار من العالم الافتراضي إلى الواقع، حيث احتضن الفضاء الافتراضي آنذاك نقاشات كثيرة عن إمكانية فعل شيء بين سوريين لا يعرفون أنفسهم إلا افتراضياً، لنكون أمام أول ارتدادات الانتفاضات العربية الإيجابية على الساحة السورية، إذ كان من النادر، إن لم نقل من المستحيل، أن يتحدث سوريون لا يعرفون بعضهم جيداً بالسياسة وقضايا الشأن العام، لنكون أمام بواكير كسر حاجز الخوف الذي دأب النظام على بنائه طيلة عقود عبر التخويف والاعتقال، وعبر العمل من قبلنا على بناء الثقة بين السوريين. ما سبق، تزامن مع قيام سوريين بالتظاهر أمام سفارات تونس ومصر وليبيا التي رفع أمام سفارتها لافتة "خاين يلي بيقتل شعبو" في رسالة واضحة للنظام الذي أدرك الخطر المحدق به فقمع الاعتصام فوراً، لنكون أمام البيئة التي ساهمت في إنضاج وعيي وبلورته ودفعه لليقين أن اللحظة الحاسمة قد حانت، وما علينا إلا أن نكون بمستواها، وهو ما حصل حين دعاني صديقي الشاعر "عمر سليمان" للمشاركة في أول مظاهرة في سوريا (15/3/2011) في الحميدية، حيث ذهبنا دون أن نتمكن من المشاركة بها آنذاك لأخطاء في التنظيم. إلا أن هذه التجربة جعلتنا نرى بأم العين مدى استعداد النظام للقمع، لأن المنطقة كانت مزروعة بالأمن، وكسرت حاجز الخوف العالي داخلنا، إذ تجرأنا على التفكير بالتظاهر ضد النظام وحاولنا ذلك. وأما بالنسبة للاعتقال، فحقيقة لم أفكر في الاعتقال تلك اللحظة أبداً، رغم أن الخوف كان يغمرني إلى درجة الارتباك إذ كان الاعتقال مفاجئاً وحصل في القرية بعد مغادرتي إلى قريتي (العنازة) في ريف بانياس، حيث اعتقلت بعد يوم واحد من مظاهرة بانياس الأولى (18/3/2011).
بانياس ثورة تختمر في القاع !
* كيف كانت أجواء بانياس آنذاك وهل كانت هناك نُذر أو علامات لثورة قادمة؟
في الحقيقة لم يكن يوجد في بانياس ما يوحي بأن ثمة ثورة قد تنطلق أو تظاهرات قد تحدث في تلك المدينة؟
** هذا كان على المستوى الظاهري، إذ في الوقت الذي كانت فيه الأنظار تتجه نحو دمشق أو حلب أو حمص، جاءت درعا وبانياس لتطلقا أسئلة كثيرة عن ثورة تختمر في القاع ولا يعرف عنها المثقف شيئا، عن ثورة تفاجئ أهل المدينة ذاتها، ولتقول أشياء كثيرة عن طبيعة مستبد فاشي مجنون لا يفعل إلا أن يراكم أدوات قمعه التي تنفجر به وبنا بشكل مفاجئ، كما حصل في بانياس التي كان يختمر في قاعها تناقضات عميقة: طائفية، طبقية، اقتصادية، سياسية.. لم تفعل الثورة إلا أن ساهمت في نزع الحجب عنها. والأهم أنها تقول أشياء كثيرة عن ثورة الريف وهمود المدن الكبرى، وهو أمر تاريخي بالمناسبة، ففي ثورة السوريين ضد المحتل الفرنسي ثارت الأرياف ولم تثر المدن، وهو أمر جدير بالقراءة والتمعن كثيراً.
* هل كنت متوارياً عن أنظار الأمن قبل اعتقالك أم أن هذا الاعتقال كان مفاجئاً بالنسبة لك؟
**لم أكن متوارياً أبداً، ولم أشعر أني بخطر أساساً، إذ حصل الاعتقال بشكل مفاجئ أثناء وجودي في القرية التي جئتها من دمشق قبل يومين من عيد الأم. وسبب المفاجأة يأتي من أمرين أولهما أني لم أتمكن من المشاركة في المظاهرة كما شرحت سابقاً لأسباب تنظيمية، رغم وجودي في المكان وسعيي للتظاهر. وثانيهما: جهلي بطبيعة هذا المستبد وشدته، إذ لم أكن أعلم أنه بلغ من الفاشية حد أنه قد يحاسب على النوايا.
النزهة التي تحولت إلى كابوس طويل !
* حدثنا عن هواجس وتداعيات الليلة الأولى في المعتقل هل تعرضت لتعذيب وكيف؟
**الليلة الأولى إذ أتذكرها اليوم، أدرك أنها كانت أشبه بكابوس طويل، إذ رغم اعتقالي من منزل أختي في القرية وأخذي باتجاه فرع المخابرات الجوية في طرطوس، لم آخذ هذا الاعتقال على محمل الجد، متوهما أنه أشبه بنزهة، إذ تملكني شعور لا أعرف من أين جاء، أنني سأخرج قبل عيد الأم (اعتقلت بتاريخ 19/3/2011). ولم أتعرض خلال هذين اليومين لأي تعذيب سوى الضغط النفسي وبعض "الكفوف"، إلى أن حوّلت إلى فرع التحقيق التابع لنفس الجهة في دمشق، فأيقنت آنذاك أني معتقل حقيقة وبدأت أعيش هذه الحقيقة وكأني اعتقلت للتو. لم أتعرض لتعذيب منهجي، إذ اقتصر الأمر على حفلة الاستقبال التي تضمنت محاولة إطفاء السيجارة في يدي وهما مقيدتان للخلف وشد الشعر والتركيع وضرب الرأس بالحائط مع محاولة رفعي فلقاً تراجعوا عنه بعد أن صرخت صوتاً قوياً بعد أول ضربة خيزرانة على قدمي المقيدتين إلى حمالة الكلاشينكوف. ولكن الأقسى هو التعذيب النفسي وخاصة حين تسمع أصوات زملاء عُذّبوا بشكل رهيب. إذ كان صوتهم يتسلل إلينا في الزنازين لنتوزع بين الحزن عليهم والخوف الذي يقض مضاجعنا. ناهيك عن جو المعتقل العام، إذ يكفي أن تكون مقيداً ولا تعرف تهمتك أو مصيرك حتى تكون في أقسى درجات التعذيب.
* هل كان من السهل أن تتأقلم مع أجواء المعتقل وكيف جهدت للتغلب على الزمن البطيء داخل الزنزانة؟
**ساهمت قراءتي السابقة عن المعتقل وتجارب المعتقلين السياسيين في سوريا والعالم العربي دوراً بارزاً في تحصيني في المعتقل، حيث كنت مهتماً بقراءة هذا النوع من التجارب والأدب منذ مدة طويلة، وهو ما يعني أني كنت على وعي مسبق (ولو نظرياً) بكيفية التعامل مع المحقق من جهة، ومع المعتقل من جهة أخرى، حيث علمتني تلك التجارب أن على المعتقل أن يسعى ما أمكن لنسيان العالم الخارجي وتفاصيله والعيش في زمن الاعتقال، أي أن تعيش المعتقل كحياة لك وعليك أن تتآلف معها وتقبلها لنكون أمام تناقض مجنون: أن تناهض المعتقل عبر عيشه والاندماج فيه. وهو أمر كارثي حين التفكير به حقيقة، إلا أنه الطريق الوحيد بنفس الوقت للخروج بأقل الأضرار الممكنة، خاصة لمن يعتقل لسنوات طويلة. ولهذا أنا مدين لكل معتقل سابق كتب تجربته، ولكل من لم يكتبها أيضاً، لأن الأمر يعكس في جوهره سيرورة نضال مستمرة، فنضالنا ضد الدكتاتورية لم يبدأ مع انطلاق الثورة السورية، بل ثمة تاريخ طويل من العصيان والتمرد على نظام مستبد. انطلاقاً من ذلك كنت أشغل نفسي بجو المعتقل فقط، فهؤلاء الموجودون معي في الزنزانة هم عائلتي الجديدة وعليّ أن أعيش معهم رغم كل الظروف، إذ علي أن أتعرف على حيواتهم وطبائعهم ومحاولة إقناعهم بأنا ولدنا الآن من رحم هذا المعتقل وأن لا حياة لنا قبله كي نستمر بالعيش ونصمد. لم نكن ننجح دائماً ولكن كنا نحاول التحايل على ذلك عبر سماع حكايات ونكات وأشعار بعضنا البعض، كي نهرب من ماضي كان لنا إلى حاضر نعيشه الآن، مانعين ذلك الماضي من اقتحامه ما أمكن.
البلاد التي يحكمها الرجل الطويل !
* عشت تجربة الاعتقال السياسي بكل وطأتها وليلها الثقيل، مالذي تبقى من تلك التجربة في غربال الزمن؟
**لم يبق شيء سوى الإصرار على دحر الاستبداد وإسقاط النظام وإنهائه مهما كانت الأثمان لصالح نظام ديمقراطي حقيقي، لأن التجربة تلك أرتني مدى تجبر وشدة استبداد هذا النظام التي لم أكن أتوقعها حقيقة قبل الاعتقال، إلى درجة أن تلك الفكرة استحوذت على تفكيري في المعتقل، حيث فكرت أنه بعد خروجي سأكتب كتابا بعنوان "عن تلك البلاد التي يحكمها الرجل الطويل"، أشرح فيه كيف خدعنا الدكتاتور (الرجل الطويل) بخطابه عن التحديث والتطوير الذي أخفى جوهر الدكتاتورية.
* كانت الثورة خارج المعتقل في بداية تشكلها كيف استقبلتم كمعارضين تطور هذه الثورة وامتداداتها الجغرافية؟
**صلتنا الوحيدة مع العالم الخارجي كانت من خلال المعتقل الجديد الذي يدخل زنزانتنا، إذ رغم الحزن والألم الذي كان يعتصرنا ونحن نرى "نزلاء جددا"، خاصة أن التعذيب بات يتزايد يوماً بعد يوم، ويتوسع طرداً مع توّسع الانتفاضة وتمددها، إلا أن ثمة فرحا صغيرا كان يحمله هؤلاء معهم، وهو ما يتعلق بأخبار الانتفاضة وتمددها، حيث كنا نتحلق حول كل معتقل جديد، ونمطره بوابل من الأسئلة التي تستفسر عما يحصل في الخارج، إذ لا يمكن أن أنسى يوماً تلك الليلة التي أخبرنا بها أحد المعتقلين الجدد أن "بثينة شعبان" تحدثت مبشرّة بإلغاء قانون الطوارئ وإطلاق سراح المعتقلين ولم يصدقها الناس حيث خرجوا متظاهرين ومطالبين بالتنفيذ الفوري لعدم ثقتهم بوعود السلطة التي خبروا كذبها. يوماً شددت على يد صديقي "محمد علوش" وغطيت وجهي بالبطانية وصرخت بملء القلب والروح:"الشعب يريد إسقاط النظام". كل خبر كان بالنسبة لنا بمناسبة اقتراب يوم الخروج من المعتقل، لأن التجربة رغم قصرها أكدت لنا أن هذا النظام لا يتنازل عن شيء إلا إذا أجبر عليه، ولهذا كنا نستقبل تمدد الثورة كمن يتلقى أخبارا من طبيب بأنه يقترب من الشفاء من مرض عضال.
سنوات في قلب الموت !
* تذكر في كتابك (كمن يشهد موته) أنك كنت تتحاشى أخبار العالم الخارجي إلا في ما يتعلق بالانتفاضة وتمددها فماهي طبيعة هذه الأخبار وكيف كانت تصلك وما ردة فعل رفاقك المعتقلين حيالها؟
**الأخبار التي كنت أتحاشاها هي أخبار شخصية تتعلق بالأهل والحبيبة والأصدقاء وتفاصيل الحياة الخارجية والمقاهي والسهر، لأن تذكر هذه الأشياء والتعلق بها يخلق حنيناً مرضياً يكاد يفتك بالمعتقل، لأنه لا يملك إلا التفكير بها محاولاً استعادتها عبر الذاكرة، وهو ما يضعه بمواجهة يومية مع واقعه الآن وواقعه سابقاً، فيشعر بأنه معتقل في كل لحظة، فيتحول إلى شخص عصابي وغير متصالح مع وضعه ونفسه فيخلق مشاكل له ولزملائه في الزنزانة وهو أمر حصل كثيراً. لذا كنت أسعى لأن أحصر علاقتي مع الخارج فقط مع أخبار الانتفاضة، لأن وحدها الجانب العملي الذي يؤثر إيجابا بأوضاعنا هنا، فإن تمددت ستجبر النظام على تقديم تنازلات لاحتوائها وهو ما كان، وإن لم تتمدد فهذا يعني بقاءنا سنوات في قلب الموت. وأما لكيفية الحصول على المعلومات، فهي محصورة بالمعتقل الجديد الذي يدخل الزنزانة، رغم أننا كنا نعرف مؤشرات عن هذا الذي يحصل من خلال وجوه السجانين العابسة والمتوترة والصارخة بنا في حقد، خاصة أيام الجمع، التي كانت تترافق مع اعتقالات كثيرة كنا نرى من تعرضوا لها ممددين في بهو المعتقل حين خروجنا للتواليت، لنكون أمام مؤشر آخر لحجم ما يعتمل في الخارج.
* تذكر في إحدى مقالاتك أن من أهم الصعوبات التي واجهت الخيار السلمي ليس عنف السلطة الوحشيّ فحسب، بل ضعف وعي الشباب المؤمن بالسلميّة بآليات العمل السلميّ وأدواته وطرقه، إذ اختصرت أدواتهم إلى التظاهر واللافتة و"فايسبوك" والتواصل مع الإعلام، مالذي يعوز الثورة السورية غير ما ذكرت؟
**يعوز الثورة السورية الكثير، فهي الآن تختنق في عنق الزجاجة، واقفة بمواجهة الاستبداد من جهة والتطرف من جهة والمعارضة الفاشلة من جهة والتدخل الخارجي من جهة، إذ إن إحدى كوارث الثورة عدم وجود ممثل سياسي حقيقي لها، وهو ما خلق شرخاً بين ما يحصل على أرض الواقع وبين المعارضة التي تدعي تمثيل هذه الثورة، وهو أمر خسرته الثورة ولازالت، عدا عن كون هذا الأمر ذاته مهد الأرضية اللازمة لنشوء حواضن الإرهاب والتطرف في قلب الثورة، ما مثل في نهاية المطاف قصوراً واضحاً في مخاطبة المجتمع الدولي لشرح القضية السورية. ويضاف لما سبق عدم قدرة المعارضة والثورة حتى اليوم على بلورة بديل حقيقي عن النظام القائم، يبدأ من توّحد المعارضة في جسم سياسي حقيقي، ولا ينتهي عند تحديد شكل الدولة ونوع نظامها وموقع الأقليات فيها، إذ لا يكفي أن تقول "الشعب يريد إسقاط النظام"، إذ رغم نبل الشعار، إلا أنه يبقى شعارا إن لم يرفق بآليات عمل كثيرة، من بينها بلورة البديل القادر على ملء فراغ رحيل النظام الذي يستغل كل ما سبق ليقدم نفسه بديلا مقبولا رغم كل ما سفك من دماء السوريين، مستغلا شعار "مكافحة الإرهاب" الذي يسعى لملاقاة القلق الغربي من خلاله، في حين أن أطيافا كثيرة من المعارضة تصر على أن "النصرة" جزء لا يتجزأ من الشعب السوري، رغم إعلانها الارتباط بالقاعدة، ووضع واشنطن لها على قائمة الإرهاب، مقدمة خدمة للنظام على طبق من ذهب.
فارس الرفاعي - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية