أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

سوريا والملفات الإقليمية.. اللعبة انتهت

مضى حوالي القرن منذ قيام الثورة العربية الكبرى عام 1916 بقيادة الشريف حسين ضد العثمانيين بالتعاون مع الغرب وبخاصة بريطانيا؛ تلك الثورة أدت لخروج القوات العثمانية من البلاد العربية بشكل نهائي.

كان يدور في خلد الشريف حسين وأبنائه شيء واحد فقط هو استلام سدة الحكم ووراثة مملكة العثمانيين في الشرق العربي؛ وربما ذلك صرف انتباهه عن مناورات مكماهون ولم يكن يريد التصديق بأنه يتآمر ضده ويستخدمه مطية للحرب ضد الدولة العثمانية ومن ثم تقسيم الأراضي العربية وتقاسم النفوذ الغربي عليها؛ عبر اتفاق سايكس _بيكو عام 1916 ومن ثم اتفاقية سان ريمو عام 1920 التي تم فيها ترسيم حدود بين الأراضي العربية وإنشاء دول خاضعة لاحتلال الدول الغربية بشكل مباشر.

رغم انعقاد المؤتمر السوري في 8 آذار،مارس/ 1920 وإعداد الدستور وتنصيب فيصل ملكا على سوريا الطبيعية؛ إلا أن الدولة الوليدة لم تعش سوى أشهر قليلة قبل أن يوجه غورو إنذاره الشهير ويجتاح البلاد ويضعها تحت الانتداب الفرنسي منذ 20 تموز 1920.

الحدود التي رسمها الغرب كانت مصطنعة ولا تستند إلى مقومات جغرافية أو سياسية أو أثنية أو دينية؛ وبقيت مثار استنكار وهجوم مستمر عليها شعبيا ورسميا من أجل تحطيمها والدعوة لتحقيق الوحدة العربية.
خلال فترة الاحتلال الفرنسي للبلاد التي دامت حوالي ربع قرن بدأت تترسخ الحدود وأسماء الدول الجديدة؛ ورغم ذلك فإن حدود الدول الناشئة تم التلاعب بها مرارا.

سعى رجال الاستقلال الأوائل من سياسيين تقليديين وأعيان لتحقيق حكومة مركزية في دمشق بشكل رئيسي دون الاهتمام بالأطراف وكان هدفهم البقاء في واجهة السلطة؛ وربما من أجل هذا الهدف أضاعوا وفرطوا بالكثير من الأراضي؛ ولم تنضم دولة العلويين ودولة الدروز للدولة السورية الناشئة مرة أخيرة سوى عام 1944.

مع بزوغ فجر الاستقلال دخلت البلاد في حالة من الصراع السياسي الداخلي من جديد ولم يلبث حسني الزعيم أن فجر ذلك بالانقلاب الذي قاده في آذار/مارس عام 1949 والذي اتضح فيما بعد أنه جاء بدعم أمريكي لتحقيق مطالب غربية محددة وخاصة في تمرير اتفاقية الهدنة ومشروع التابلاين؛ وبالطبع تلى ذلك موجة مستمرة من الانقلابات في البلاد.

شهدت البلاد بعد مخاض عسير حالة ديمقراطية عام 1954 كانت رائدة في ذلك الوقت؛ ولكن حالة الاستقطاب بين السياسيين في البلاد لصالح مشاريع وأحلاف إقليمية اشتدت بشكل كبير؛ وبات الصراع في المنطقة هو صراع على سوريا نفسها وجذبها لصالح المشروع الهاشمي أو السعودي أو حلف بغداد.

للخلاص من مأزق الصراع على البلاد بادرت مجموعة من الضباط والسياسيين القوميين عام 1958 لطلب عقد الوحدة مع مصر التي كان يحكمها جمال عبد الناصر؛ وكانت تعتقد أن الوحدة تشكل ضمانا لاستقلال البلاد وتحررها من صراعات السيطرة عليها؛ لكن حلم الوحدة لم يكن ورديا وانتهى بالانفصال عام 1961.

جاء انقلاب الثامن من آذار/مارس عام 1963 الذي استولى حزب البعث على السلطة من خلاله واطلق عليه اسم ثورة ليشكل تحولا سيئا في تاريخ سوريا.

منذ انقلاب آذار/مارس باتت سوريا رهينة تخضع لحكم حزبي فئوي استبدادي يتبنى مزيجا عجيبا من الشعارات القومية واليسارية؛ ضمن منهج فكري يتبنى الاشتراكية العلمية القريبة للماركسية مع أن الواقع كان عكس ذلك تماما.

انتهت الصراعات الداخلية في صفوف حزب البعث لصالح حافظ الأسد الذي استطاع القضاء على خصومه شركاء الأمس معه في اللجنة العسكرية؛ واستفرد بالسلطة تماما إثر انقلابه الأبيض عام 1970 الذي أطلق عليه اسم الحركة التصحيحية.

في سبيل الحفاظ على الحكم والتمسك به بشكل دائم فقد عمد الأسد الأب لبناء سلطة للحكم تقوم على دعائم تخترق الدولة وتتجاوزها؛ منذ ذلك الوقت بدأت تترسخ في البلاد مظاهر الدولة العميقة؛ حيث باتت أجهزة الأمن تتوسع ويزداد نفوذها باستمرار لتقمع أي نشاط مجتمعي أو سياسي لا يسير في ركاب النظام وانتشرت حالة من الخوف والرعب في النفوس ساعدت في إرساء حكم مستبد خلال عقود انتشر خلالها في المجتمع حالة من التصحر السياسي وأمراض اجتماعية كثيرة نخرت المجتمع بعمق ولم تظهر آثارها سوى بعد اندلاع الثورة السورية بعدة أشهر.

إضافة إلى ما فعله الأسد في الداخل؛ كانت سياسته الخارجية تعتمد على اللعب بأوراق إقليمية باستمرار يضمن من خلالها كونه لاعبا مشاركا في المشهد ولو بالوكالة بدل أن يكون متفرجا أو طرفا يتم اللعب فيه، وربما هذه هو التحول الأهم الذي حصلت عليه سوريا خلال حكم الأسد الأب؛ لكنه كان يستثمر ذلك داخليا عبر ادعاءات بقوة النظام في دول الجوار وعدم إمكانية تجاوزه إقليميا.

بالفعل فقد لعب نظام الأسد الأب دورا أساسيا في لبنان عبر توافق دولي على ذلك؛ ولم يتم إنهاء هذا الدور سوى في شباط 2005 بعد تجاوز الأسد الإبن الحدود المرسومة له.

حول النظام عداءه التاريخي مع البعث الحاكم في العراق لتحالف استراتيجي مع إيران في حربها ضده؛ دون أن يشعر بأي حرج كون ذلك يتناقض مع مبادئه القومية. وأكثر من ذلك فقد شارك بشكل براغماتي وانتهازي مع قوات الحلفاء وعلى رأسها أمريكا حربها ضد العراق في معركة تحرير الكويت.

وبالطبع معروف استغلال النظام لحركات المقاومة الفلسطينية وقيامه بدعمها ضد اسرائيل لاستخدامها كورقة ضغط لا أكثر في الحفاظ على الحكم.

ومع تركيا القوية فقد لعب على الورقة الكردية ودعم حزب العمال الكردستاني وزعيمه عبد الله أوجلان لكنه تخلى عنه عند أول تهديد جدي قوي من الأتراك.

في الداخل كان النظام يمارس اللعبة نفسها، حيث لديه أتباع ومستفيدون من كل المكونات والحساسيات والطوائف والفعاليات يقوم باستخدامها ضد بعضها البعض ليبقى هو الطرف الأقوى. 

عند اندلاع شرارة الثورة ومنذ البداية أعلن النظام أنه غير الأنظمة الأخرى التي سقطت في الربيع العربي وأنه سيقوم باستخدام الأوراق التي يمتلكها حتى لو أدى ذلك لإشعال المنطقة برمتها. 

الزخم الثوري المرتفع للثورة السورية أنسى الجميع التفكير بما هدد به النظام بجدية؛ وكان التعويل على إسقاط النظام ومعه أوراقه الداخلية والإقليمية التي يمتلكها.

بعد أشهر من بداية الثورة ظهر أن النظام استطاع اللعب بأوراقه بشكل جيد وخاصة مع اللاعب الأساسي في المنطقة إسرائيل؛ وبدأت تظهر التغيرات بوضوح في مواقف الدول الداعمة للثورة السورية وتباطؤ دعمها للثورة.

حتى الآن لم تدرس المعارضة أوراق القوة الداخلية والإقليمية التي يمتلكها النظام بشكل جدي ومنهجي، رغم أنه استخدم هذه الأوراق بشكل جنوني أدى لتدمير البلاد والوصول بها لحافة الانهيار والتقسيم كما وعد منذ البداية.

فالنظام يمكن أن يقوم بإسقاط سوريا برمتها وإغراق المنطقة في الفوضى فيما لو تم إسقاطه؛ وفي أحسن الأحوال العمل على تقسيم البلاد.

في موازاة ذلك على المعارضة أن تعي خطورة ما يجري على الصعيد الوطني وان تقدم خطابا جريئا ناضجا يمكن من خلاله تقديم حل ربما يحافظ على ما تبقى من الوطن موحدا.

فيما لو استطاع السوريون النجاة بوطنهم إلى بر الأمان فإن من أهم شروط الدولة السورية القادمة أن تكون محايدة لا تتدخل في شؤون الأخرين؛ صحيح أن النظام أجاد اللعب على الأوراق الإقليمية، وحفظت له الحكم لعقود لكنها بالنتيجة سببت دمارا للبلاد قد لا تمحى آثاره لأجيال.

(129)    هل أعجبتك المقالة (117)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي