اللواء الأردنية - زمان الوصل :
نؤمن بأن إحياء أي ذكرى إنما يكون لاستيعاب الدروس والعبر ولاستلهام المعاني والدلالات من هذه الذكرى. لذلك نقول أنه لا يجوز أن نحتفل بذكرى استقلال الأردن بالأغاني والمهرجانات. ولا أن نتعامل معها كمناسبة رسمية يؤدي فيها بعض الموظفين متطلبات وظيفتهم الرسمية؛ فمعاني الاستقلال أكبر من ذلك كله؛ فالذين ناضلوا من أجل تحقيق استقلال الأردن كجزء من استقلال سوريا الكبرى أولاَ، وتحرير كامل تراب الأمة وإرادتها ثانياً، كانت لديهم رؤية وتصور متكاملين لدور الأردن في منظومته العربية. وأول مكونات هذه الرؤية اعتبار الأردن قاعدة لتحرير سائر بلاد الشام، بعد أن نكث الحلفاء بوعودهم لأحرار العرب، ولعل هذه النظرة هي التي حكمت مسيرة الأردن والأردنيين منذ بداية القرن المنصرم؛ فكانوا من أوائل الذين أطلقوا نداءات الحرية والاستقلال والتمرد على نير يهود الدونمة، الذين سيطروا على جمعية الاتحاد والترقي ومن خلال ذلك أحكموا السيطرة على الدولة العثمانية وعاثوا فيها فساداً وتفرقة وتمييزاً عنصرياً بين رعاياها.
لم يكن الأردن والأردنيون بمعزل عن التفاعلات التي كانت تشهدها أرض الخلافة العثمانية، كما لم يكونوا بعيدين عن التحركات العربية الطامحة إلى الحفاظ على الحقوق العربية في مواجهة محاولات الطمس التي كان يقوم بها الطورانيون، ومراجعة تاريخ تلك الفترة تؤكد أن الأردن كان يمور بالأحداث التي توجتها ثورة الكرك بقيادة قدر المجالي، كما كان الأردنيون من أكثر الناس نشاطاً وانخراطاً في الأحداث والنشاطات السياسية التي شهدتها المنطقة، ومراجعة لقائمة أسماء الضباط والسياسيين العرب الناشطين في تلك الفترة ستؤكد حضوراً مميزاً للأردنيين في الأحداث والنشاطات والتحركات، وهو الأمر الذي يفرض علينا أن نعيد قراءة تاريخ الأردن من زاوية جديدة هي زاوية الأرض والشعب؛ فكلاهما غُمط حقه في تاريخ أمته المعاصر رغم أنهما كانا عنصرين هامين في هذا التاريخ قبل ثورة العرب الكبرى وبعدها، لذلك لم يكن مستغرباً أن يكون الأردنيون من أوائل الذين انضموا لهذه الثورة، فصارت أرضهم مسرحاً رئيساً لجيوشها، خاصة بعد أن كان الضباط الأردنيون في الجيش العثماني من أوائل الضباط العرب الذين وضعوا خبراتهم في خدمة الثورة الكبرى التي قامت في الأساس لحماية الخلافة من انحرافات الطورانيين، ولإعادة التوازن لحقوق الشعوب والأمم المكونة للخلافة والعرب في طليعتهم.
إن انضمام الأردنيين المبكر للثورة العربية الكبرى وتحول أرض الأردن إلى مسرح رئيس لعمليات الثورة هو الذي طبع فيما بعد مسيرة الأردن وحدد دوره قاعدة للثورة، وحاضنة للثوار ومنطلقاً للتحرير وموئلاً لجنوده، فعندما خان الحلفاء الثورة العربية الكبرى وسقطت دمشق بيد المحتل الفرنسي سارع الأردنيون لرفع اللواء وتنادوا لنصرته، وفتحوا بلادهم لكل أحرار الأمة كي يلتقطوا أنفاسهم ويستأنفوا مسيرة النضال، وأي قراءة متأنية في مخاطبات الأردنيين بعضهم مع بعض أو بينهم وبين سائر أبناء الأمة، خاصة في مكونات سوريا الكبرى تؤكد ما نذهب إليه، وهو الأمر الذي تبلور فيما بعد بمخاطبات زعماء الأردن للشريف حسين بن علي ليوفد أحد أبنائه لمواصلة مسيرة الثورة، والعمل على تحرير سوريا. حتى إذا ما وصل الأمير عبدالله بن الحسين إلى معان مبعوثاً عن أبيه وتوافد إليه أبناء الأردن ومن وصل إلى الأردن من أحرار العرب تمت البيعة للأمير على أساس تحرير دمشق واسترجاع مملكة فيصل، وعلى هذا الأساس انطلقت المسيرة من معان إلى عمان التي صارت محجاً لأحرار العرب ومنطلقاً لثوراتهم في سوريا وفلسطين، خاصة في ظل حكومات حزب الاستقلال التي شكلت في الأردن أول عهد الإمارة، وصار بعض وزراء الحكومات الأردنية ممثلين للثورة ومدافعين عنها وحماة لها من ممثلي الانتداب البريطاني في عهد الإمارة.
إن أي قراءة متأنية لتلك الحقبة من تاريخ الأردن شعباً وأرضاً تؤكد صحة ما ذهبنا إليه من حيث حرص الأردنيين على مواصلة الثورة وتحويل بلادهم إلى قاعدة لها، وحاضنة لرجالاتها حتى تحرير كامل تراب بلاد الشام، خاصة سوريا وفلسطين وبذلك نستطيع القول بأن الأردن الحديث نشأ كقاعدة للثورة وحاضن للثوار. وليس كما يدعي البعض من أنه أنشئ ليكون عازلاً بين المشروع الصهيوني، وسائر أبناء الأمة. ولعل في مباشرة الأردنيين بالهجوم على المستعمرات اليهودية وتقديمهم المبكر للشهداء في فلسطين، وتحويل أرضهم إلى مستودعات للسلاح الذاهب للثورة السورية الكبرى، ثم إلى فلسطين وثوراتها المتعاقبة، حيث تحول الأردن إلى معقل للثوار في سوريا وفلسطين، بالإضافة إلى نضال أبنائه ضد الانتداب البريطاني دليلاً واضحاً على فهم الأردنيين لدور ورسالة بلدهم وشعبهم في إطار صراع أمتهم مع أعدائها. ونحسب أن هذا هو الدور الذي يجب أن يحرص الأردنيون عليه عبر استنهاضهم لتاريخ بلدهم وأرضهم، ولدور آبائهم وأجدادهم، وإذا كنا لا نريد أن نغوص في أعماق التاريخ السحيق للأردن، فإننا لا نستطيع أن نتجاوز محطات هامة تدلل على الدور التاريخي الذي يجب أن يستمر لهذا الجزء من أرض الأمة وأبنائها، ففي البتراء كان الصدام المبكر بين مشروع الأمة ممثلاً بالأنباط والمشروع الغربي ممثلاً بروما. وفي الكرك كان الصدام المبكر أيضاً بين الأمة وعدوها التاريخي؛ فمن الكرك خرج الملك المؤابي ميشع ليهزم جموع العبرانيين، وإلى مؤتة وصلت أول جحافل الإسلام ومنها ارتفع أول شهيد من آل البيت خارج الحجاز وجزيرة العرب هو جعفر بن أبي طالب ابن عم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكأن جعفر بهذا الاستشهاد كان يعقد رباطاً أزلياً بين آل البيت وبين هذا الجزء من أرض الأمة، ومع أبنائها الذين احتضنوا فيما بعد الخلايا الأولى للدعوة العباسية في الحميمة التي قامت لتستعيد لآل البيت حقاً سلب منهم من وجهة نظرهم على الأقل. ومن الكرك خرج الناصر داود لتحرير القدس في واحدة من المواجهات الكبرى للأمة مع عدوها هنا في الأردن، وإذا كان لنا أن ننسى فلا يجوز أن ننسى المعركة الفاصلة في تاريخ البشرية التي دارت رحاها على أرض الأردن أعني معركة اليرموك التي أعلنت نهاية الإمبراطورية الرومانية من هذا الشرق الذي صار معقلاً للإسلام والمسلمين.
لست هنا في معرض كتابة تاريخ الأردن، ولكنها مجرد محطات أردنا من خلالها أن نعيد للأذهان الدور الذي لعبه الأردن عبر التاريخ، والذي يجب أن يلعبه حاضراً ومستقبلاً، ولعل هذه من فوائد الاحتفال بالاستقلال الذي يجب أن نحميه من المخاطر التي تهدده وأولها محاولة تزوير دور الأردن والأردنيين.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية