أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين .... عدوى التشدد تجتاح الجميع

تكررت السجالات الفكرية الحادة في الآونة الأخيرة وخاصة في مواضيع متعلقة بالحريات والاعتقاد والإيمان؛ أثارها كتاب وأدباء علمانيون ويساريون وماركسيون وليبراليون ولا دينيين وملحدون بشكل رئيسي.
هذه الحوارات كان متوقعا أن تكون بناءة ومفيدة تساهم في خلق مناخ صحي يشير إلى الانفتاح المفترض وأجواء الحرية بين السوريين بعد الثورة؛ لكن ما حصل عكس ذلك، فقد ساهمت بخلق موجة واسعة من الخلافات والتناحر في الصفوف تجاوزت الحدود الفكرية البحتة أحيانا كثيرة.
ربما تكون مقالة الكاتب سامر رضوان الأخيرة في "زمان الوصل" تحت عنوان "حين يسخسخ فضيلة المفتي" نموذجا لما نتحدث عنه؛ فقد أثارت غضب وحنق كثيرين ووصلت ردود أفعال البعض لحد مطالبتهم بنشر "هاشتاغ" .....سامر رضوان يستهزئ بالأنبياء في "زمان الوصل"....
قبل ذلك استمر الكاتب ياسين الحاج صالح في نشر بوستات مثيرة على صفحته على "فيسبوك"، تنتقد الأديان والإسلام بحدة بشكل أساسي وتوجه لها الاتهامات بالعداء للحرية ومنع حرية الفكر. 
أحد بوستات ياسين الحاج صالح علي، الذي يطلق عليه بعضهم لقب حكيم الثورة، على سبيل المثال ينص على أن حرية الكفر هي الشرط الجذري لحرية الفكر؛ وقد نال هذا البوست الكثير من النقاشات واللايكات والمشاركات والأهم الكثير من البلوكات التي قام بها ياسين ضد كثيرين مروا على البوست بشكل عنيف أو لم ينل ذلك رضى ياسين فقام بحذف التعليقات ومنع أصحابها عن صفحته؛ وكان أمرا لافتا قيام داعية للحرية المطلقة ومنها الحرية الجنسية وحرية الكفر بذلك بينما لم يستطع احتمال تعليق مخالف لرأيه مهما يكن؛ مما يثير التساؤل عن أسباب إثارة هذه المعارك في هذا التوقيت المثير للجدل طالما أنها تدعو للحرية للمؤمنين بها على وجه الخصوص. ويبدو مستغربا أن ياسين بنى مقولة البوست بشكل منطقي فلسفي قاطع وجازم لا يقبل النقاش بتاتا مع أنه يدور تساؤل بسيط: لماذا لا يكتب ياسين في بوسته؛ حرية الاعتقاد هي الشرط الجذري لحرية الفكر؛ والاعتقاد هنا يعني الإيمان بشكل مطلق بأي شيء أو حتى عدم الإيمان والكفر وهذه القاعدة منصوص عليها في كل الدساتير وشرعة حقوق الإنسان ولا تتعارض مع المبادئ الدينية؛ بينما حرية الكفر فيها إلغاء للآخر وفرض منطق محدد عليه بالإكراه. والأهم أن هذه الصيغة لن تثير مشاكل أو انتقادات وتؤدي إلى نفس الغاية.
الحالة النفسية للكاتب تساهم بشكل مؤكد في طريقة وأسلوب كتابته وكذلك في موضوع ونص الكتابة، ومن الممكن إيجاد أعذار للكاتب تحت ظروف خاصة؛ لكن تكرار الحالة ومع كتاب آخرين كذلك يستدعي البحث ومحاولة الفهم وهل يشكل ذلك ظاهرة عابرة أم ربما تترسخ وتتوسع لتزداد الهوة أكثر فأكثر بين صفوف السوريين فكريا هذه المرة.
هل يمكن مثلا إرجاع الموضوع لحالة التطرف والإرهاب الواسعة في البلاد وخاصة ممارسات تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام المعروف بداعش والتي باتت مثار استنكار وإدانة وشجب من تنظيمات وهيئات إسلامية يعتبر بعضها لدى الآخرين متشددا؛ وبالتالي هل يمكن تفسير هذه الكتابات من باب ردود الأفعال؛ واعتبار ذلك بأنه تشدد مقابل تشدد؛ رغم أن ذلك مرفوض باعتبار أن تشدد النخبة يأتي عن خلفية إيديولوجية وبالتالي تأثيره أشد وأمضى وأخطر ومن غير المبرر للكتاب اللجوء إليه؛ خاصة مع حالة الانقسام الواسعة التي تشهدها البلاد على كافة المستويات ويغدو من الأفضل السعي لتخفيف حدة الانقسام بدل تأجيجه؛ وترك هذه السجالات لمراحل تالية وترك الشارع هو الذي يقرر ويحكم من هو الطرف الأقوى في الميدان.
من المتوقع انتشار موجة واسعة من حالات عدم التدين والانفلات من الضوابط المجتمعية والأخلاقية والمطالبة بحريات واسعة وغير محدودة وخاصة في صفوف الشباب الذين عاشوا ظروفا قاسية لا يمكن احتمالها على أيدي النظام أو التنظيمات المتطرفة وشعروا أنهم ربما يخسرون الحرية التي خرجوا من أجلها ودفعوا الكثير من التضحيات لأجل ذلك.
صحيح أن المجتمع السوري غير متشدد بطبيعته ولكنه كذلك ليس مجتمعا غير أخلاقي أو غير منضبط والصفة الرئيسية التي يمتاز بها ربما تكون الوسطية والاعتدال وهي التي عمل النظام على تدميرها عبر الدفع بالثورة نحو العسكرة وتشجيع ظهور الإرهاب والتطرف في صفوفها.
بالعودة لمقالة سامر رضوان حول سخسخة فضيلة المفتي؛ والتي تندرج تحت هجاء وعاظ السلاطين؛ لا داعي للتذكير بحالة الكره والعداء الشديد من قبل جمهور الثورة لمفتي البلاد حسون، وكذلك رجال الدين والمشايخ المؤيدين للنظام؛ ويفترض والحالة هذه أن تحظى المقالة برضى وتأييد واسع بدلا من الاعتراض عليها ومهاجمة كاتبها بشكل عنيف؛ لكن ما أعطى نتيجة عكسية للمقالة هو أسلوب السخرية والتهكم الذي لجأ إليه الكاتب وخاصة عندما تكلم عن شخصيات ورموز دينية؛ والأهم ما ورد نقلا عنها من معلومات غير موثقة بالمصدر والدليل بشكل منهجي.
الحقيقة المرة التي كشفت عنها هذه السجالات في الوقت الراهن أن السوريين لم يعتادوا أجواء الحرية واحترام الرأي الآخر مهما كان اتجاهه والمفارقة أن يستوي في ذلك أقصى اليمين المتشدد مع أقصى اليسار الداعي للحرية من حيث شدة التطرف ودرجته.
يفترض في النخبة في هذه المرحلة أن تبتعد عن الدخول في صراعات مع التيارات الأخرى وتخفيف حالة الاحتقان والعداء في المجتمع عبر تقديم خطاب وطني جامع وأن تقوم بمهتها الأصيلة في التوعية والريادة؛ وأن تبتعد عن النظرة الضيقة وردود الأفعال والحسابات الحزبية والفئوية المحدودة.
في المقابل فإن على التيارات والتنظيمات الإسلامية أن تتحلى بالشجاعة المطلوبة وأن تقوم بمراحعة نقدية شاملة لعمل هذه التيارات وتعرية المسيء منها والكشف عن ممارساتها الخاطئة ورفضها بقوة ووضوح؛ والتفكير بروح جديدة تعتمد على احترام الآخر وحقه في التفكير والاعتقاد.
من المؤكد أن ازدياد حالات الاستقطاب لا تصب في صالح المجتمع بل تزيد من حدة انقسامه وبالتالي لا يغدو نشر بوست أو مقالة ضمن حدود الحرية الشخصية فحسب، ويجب التوقف عما يضر بالوحدة المجتمعية.
لا ينبغي أن تصنف أي دعوة للعقلانية واتخاذ المواقف الوطنية في خانة العداء للحرية؛ حيث بات يوسم أي شخص معترض على فكرة ما بذلك حتى تحول الأمر لما يشبه الفوبيا الحقيقية في وسائل التواصل الاجتماعي؛ كما أنه لا ينبغي الترويج للوسطية من أجل وأد مناخات الحرية الوليدة عبر منهج تلفيقي.
الحرب متشعبة الأهداف والوسائل ولكن يجب أن نكون متأكدين أن الحرب الثقافية والفكرية جزء أساسي ومهم منها.

من كتاب "زمان الوصل"
(128)    هل أعجبتك المقالة (115)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي