منذ اندلاع الثورة السورية حصلت حالة استقطاب واسعة في الشارع السوري كانت تميل كفتها ضد النظام بوضوح في المناطق الناشطة ثوريا، وخاصة في درعا وحمص وريف دمشق الشرقي وحماة وريف حلب ودير الزور؛ في الوقت الذي فرض النظام وجوده في مناطق مؤيديه؛ المناطق الأخرى من البلاد حفلت بمواقف رمادية وغير معلنة بأي اتجاه وخاصة في دمشق وحلب بانتظار جلاء الصورة ومعرفة سير الأمور.
برزت ثنائية معارضة ونظام وترسخت مع تطور الأوضاع وانسداد الافق أمام أي حل سياسي يحقن الدماء ويمنع الخراب والتهجير بعد رفض النظام تطبيق إصلاحات جذرية واعتماده الحل الأمني كخيار وحيد؛ مما ساهم في دفع الثورة قسرا نحو العسكرة بشدة في النهاية وتحول الثنائية لجيش حر وجيش النظام وسعي الثوار لإسقاط النظام بالقوة.
حاول بعض المعارضين بشكل مبكر تقديم بديل سياسي عبر طرح تيار متمايز عن النظام والمعارضة سمي بالتيار الثالث؛ ويقدم نفسه كتيار وطني صرف خارج التجاذبات والضغوط والولاءات الخارجية الإقليمية والدولية التي وقع في فخها النظام والمعارضة على حد سواء.
عقد مؤتمر سميراميس في دمشق في 27 حزيران 2011 بمشاركة حوالي 200 شخصية من أبرزهم ميشيل كيلو وفايز سارة ولؤي حسين ومنذر خدام والعديد من المثقفين والكتاب المعارضين؛ وقد وقع المشاركون في المؤتمر فعلا بين نارين، حيث تعرضوا لاتهامات من قبل النظام الذي اتهمهم بالعمالة لأمريكا بينما اتهمتهم المعارضة الخارجية بالعمالة للنظام وكان من الطبيعي أن تتوقف الخطوة عند هذا الحد بعد عجزها عن تقديم شيء وخاصة في ظل عدم وجود تأييد شعبي لهذا التيار الثالث في ذلك الوقت المبكر.
انفراط عقد سميراميس أدى لذهاب البعض باتجاه معارضة الخارج وعلى الأخص ميشيل كيلو وفايز سارة بينما اتجه البعض الأخر بشكل أقرب للنظام كمنذر خدام ضمن هيئة التنسيق الوطنية فيما بعد؛ بينما بقي آخرون يعملون على موقف محايد بين الطرفين مثل لؤي حسين.
ازدادت حالة الاستقطاب حدة بعد تشكيل المجلس الوطني وضعف النظام بشكل واضح مع التأييد الدولي الواسع للثورةالسورية؛ لكن مع ضعف وتراجع أداء المعارضة وتشكيل الائتلاف الوطني حصل تغير كبير في العملية السياسية المتوقفة؛ عندما طرح الشيخ معاذ الخطيب رئيس الائتلاف بشكل مفاجئ وغير مسبوق مبادرة للحوار مع النظام مباشرة لحل الأزمة؛ لا بل أنه ذهب أبعد من ذلك عبر الدعوة لمناظرة بينه وبين بشار الأسد؛ وبالطبع فقد عزا الشيخ معاذ هذه المبادرة لنفسه وأنها مبادرة فردية خالصة دون موافقة الائتلاف عليها.
لم تلقَ مبادرة الشيخ معاذ أي تجاوب بل قوبلت بالرفض الشديد من النظام والمعارضة على حد سواء، لكنها لاقت تجاوبا شعبيا مقبولا لم يتم البناء عليه، لأنها لم تكن مبادرة أصلا بقدر ما هي أفكار ورؤية خاصة للشيخ معاذ؛ ولكنها بالمحصلة جعلت من فكرة التفاوض بين النظام والمعارضة أمرا مطروحا للنقاش، ما جعل الأطراف الراعية تفكر في الدفع باتجاه عقد جنيف2.
تراجعت مع الوقت إمكانية إسقاط النظام عسكريا، وكذلك فشلت الحلول السياسية المدعومة خارجيا؛ وازدادت حالات القتل والتدمير والتهجيرمن النظام؛ فيما تبعثرت جهود المعارضة المسلحة بسبب حالات الاقتتال الداخلي فيما بينها، وترافق ذلك مع تحقيق النظام لمكاسب ميدانية عبر هدن واتفاقيات محلية؛ فيما حصل تراجع في مواقف الحاضنة الشعبية المؤيدة للثورة بسبب حجم الضغوط الهائلة عليها دون أن تتوفر لها مقومات الصمود بينما كانت الحاضنة الشعبية للنظام تحظى بالرعاية والأمان؛ كل ذلك ساعد على ظهور جديد لتيار قوي يدعو لحل سياسي عبر التفاوض المباشر مع النظام، وربما دون إسقاطه بدعوى إنهاء معاناة السوريين المستمرة وإنقاذ ما تبقى من الوطن ومؤسسات الدولة.
بدأت الكثير من الأقوال والتكهنات حول وجود تيار سياسي خفي يحمل حلا باسم مبادرة الضمير؛ بدأ التيار ينشط من خلال لقاء مدريد ومن ثم قرطبة، وهو بدعم من وزارة الخارجية الأسبانية ويشرف على تنظيمه زاهر سعد الدين أمين عام حزب التنمية السوري الذي تم الترخيص له من قبل سلطات النظام وفق قانون الأحزاب الذي أصدرته بعد الثورة؛ بالاشتراك مع عضو مجلس الشعب السابق محمد برمو الذي كان وثيق الصلة مع قيادات أمنية داخل النظام؛ ويتم الربط بين هذا التيار ورجال دين وأعمال ووجهاء دمشقيين يسعون لتحييد دمشق وتجنيبها خطر التدمير من قبل النظام في حال انتقال الحراك الثوري إليها؛ ونتج عن هذا المحور ما سمي هيئة العمل الوطني التي بدأت تعمل لترتيب انعقاد مؤتمر وطني وهي مستمرة في جهودها في هذا المجال.
في موازاة ذلك بدأ يظهر خط جديد يضم خليطا من سياسيين خارج الأجسام الأساسية للمعارضة وبعض المسؤولين السابقين في النظام وبعض الناشطين السابقين في الثورة سياسيا وعسكريا؛ وبدأت ملامح هذا الخط تتبلور عبر لقاءات حوارية تجرى في عواصم غربية وخاصة جنيف بشكل بعيد عن الأضواء؛ وتبدو والحالة هذه وكأنها حلقات لسلسلة واحدة؛ وكانت آخر إنتاجات هذا الخط لقاء عقد في أوسلو مطلع الشهرالحالي بعيدا عن الإعلام.
يبدو أن الوجوه التقليدية المشهورة للمعارضة استهلكت تماما لدى الدول الصديقة نفسها؛ وخاصة بعد أن أثبتت فشلها عبر خلافاتها المستمرة وعدم قدرتها على تقديم صورة ناضجة عن عمل مؤسساتي يسمح لتلك الدول باعتمادها في إدارة المرحلة الانتقالية أو حتى المشاركة فيها؛ ومن هنا يمكن فهم سر السباق المحموم على رئاسة الائتلاف والأركان لأنه سينتج تغييرا شاملا ويأتي بوجوه جديدة لقيادة المرحلة القادمة.
المخاوف الحقيقية لدى القوى الثورية ناجمة عن عدم وضوح الرؤية واحتمال وجود رابط خفي بين المنشقين عن النظام والتيار الثالث الذي يضم في صفوفه أعضاء سابقين فاعلين في النظام ولا يمثلون أي معارضة حقيقية للنظام كجهاد مقدسي الذي شارك مع وفد المعارضة في اللقاء بوزير الخارجية المصري مؤخرا؛ وأن ذلك قد يؤدي للتفريط بمطالب الثوار وحقوقهم.
فايز سارة يقول مؤخرا بأن الحل يمر عبر التفاوض مع النظام وبالتالي يبرز سؤال هام، لماذا انتقل سارة ورفاقه إلى المعارضة الخارجية بعد سميراميس ولم يصبروا على إنتاج حل مع النظام؟ وهل هنالك ما يبرر المخاوف والشكوك لدى البعض بأن خروج الكثير من المعارضين عبر مطار دمشق والتحاقهم بالمعارضة كان بغرض تدجينها وتفتيتها وتحضيرها للحل المرتقب مع النظام.
الجميع الآن يتحدثون عن الحل السياسي؛ لكن النظام يسعى لعقد مؤتمر للحوار الوطني في دمشق بعد إنهاء استحقاق الرئاسة وتكريس الأسد رئيسا من جديد؛ وقد باتت أوراقه أقوى من ذي قبل وخاصة بعد حملة التسويات التي جرت في الداخل وعودة معارضين من الخارج؛ وفي المقلب الآخر فإن المعارضة ليس لها إلا انتظار تحريك المسار السياسي دوليا من جديد، فهي أصبحت رهينة ولا تستطيع فرض أي حل ولو حصل ذلك فلن يحقق لها الكثير.
بين الطرفين يبدو أن الأطراف الدولية يروق لها تسويق ورعاية التيار الثالث والعمل للدفع به إلى الواجهة في أي حل قادم؛ فهذا التيار لا يتحمل وزر جرائم النظام كما أنه ليس مسؤولا عن أخطاء المعارضة.
من بين الأمور المتوقعة حصول تغييرات واسعة في قيادة المعارضة السياسية والعسكرية بشكل يؤدي لإنتاج طرف قابل للتفاوض مع النظام وقادر على فرض ذلك على الأرض فهل سيظهر أطراف من التيار الثالث في هذه التغييرات؟
ما يثير حنق السوريين انكشاف حقيقة المواقف الدولية التي لا تقبل بالحل العسكري، ومع ذلك لا تبذل الجهود الكافية لفرض حل سياسي ينهي معاناة السوريين ومأساتهم.
المخاوف من أن يكون ما يسمى التيار الثالث بداية لعبة دولية جديدة لإطالة أمد الأزمة ريثما ينضج حل مقبول ومتوافق عليه إقليميا ودوليا.
لكن المؤسف في كل هذا، أين هي قيادة المعارضة من كل ما يجري؟ وهل تحولت لمراقبة ما يجري وتلقّي التعليمات من الدول الداعمة؟ وما هو الحل للخروج من هذا المأزق والحفاظ على ثوابت الثورة؟
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية