ملتزماً بشروط قطع الحدود، بطريقة غير شرعية، حمل الفنان التشكيلي فاروق محمد (1977) ما سمحت له مشقة الطريق باصطحابه، في رحلته، الوحيدة الممكنة خارج الأراضي السورية، بسبب جواز سفره منتهي الصلاحية.
خرج "محمد" من بلدته عفرين وبحوذته أربع ريش والقليل من علب الألوان الزيتية الغالية على قلبه، على أمل أن تجلب عدته الفنية له الحظ كما فعلت سابقاً عندما فتحت الغاليرات اللبنانية للوحاته أبوابها.
بعد صحبة غير محمودة مع مهرب جشع، وصل "فاروق محمد" إلى اسطنبول التي استقبلته بثلاث ليال قاسية عانى فيها من اختلال التوازن، فأصوات الانفجارات والشرطة المنتشرة في الشوارع ينبغي ألا تبعث في هذه المدينة الرعب، احتاج إلى ثلاثة أيام حتى تعايش مع أصوات الألعاب النارية التي تطلقها بلدية اسطنبول على خليج البوسفور.. اكتشف خلال أيامه الأولى مدى تقاطع الكلمات بين لغته الكردية واللغة التركية، فرح بهذا الاكتشاف معتقداً أنه بشرى الاستيطان في بلاد العثمانيين.
لما استعاد توازنه استعان بفيسبوك للتواصل مع زملائه الفنانين السوريين ممن وصلوا قبله إلى اسطنبول ومارسوا مهنا لا تشبه صورة الفنان التي اعتنوا بتفاصيلها عندما كانوا في سوريا؛ فلا مراسم لهؤلاء في حارات المدينة القديمة، ومن كان منهم مدمناً على إطالة شعره ولحيته اضطر في اسطنبول إلى التخلص من إدمانه تحت طلب صاحب المطعم الذي يعمل به!
شارع الاستقلال الذي لا يعرف النوم، ذكّر فاروق أن هناك خارج أسوار حلب وعفرين حياة لا يحل الموت ضيفاً ثقيلاً في صَدر أيامها، ولذلك صدمته ملامح الموت المرسومة على وجوه زملائه، ورفض سماع تذمراتهم من صعوبة الحياة والعمل في اسطنبول، حاول استنهاض ما تبقى من صخب داخلهم، معلناً أنهم سيشكلون جيشاً يفتح غاليرات اسطنبول، ويحقق للفن التشكيلي السوري مجداً في زمن الهزائم.. "القدر حضّر لنا وصفة متكاملة من الهزائم"، هكذا كانت تقول عيون زملائه، أكدوا له أن الغاليرات التركية لن تفتح أبداً بوجه الفنانين السوريين، فالأتراك رغم لطفهم يرفضون بعقولهم العثمانية المتعالية رؤية السوري خارج إطار صورته كلاجئ يتصدقون عليه ويشفقون على أحوال بلاده.. أما أن ينافسهم في أرضهم وبين جمهورهم، فهو حلم إبليس في الجنة.
فرد فاروق لزملائه سيرة التشكيليين العراقيين الذين لجأوا إلى سوريا أيام حرب العراق، حاول إزالة غبش الإحباط عن وجوههم ذكرهم كيف أنعش العراقيون حركة الفن التشكيلي في سوريا حينها..ولما أدرك أنه لا حياة لمن ينادي، ودع زملاءه الموتى قائلاً: "سأجرب حظي وأعدكم بمعرض جماعي".
لم ينتظر حتى اليوم التالي، سجل أسماء وعناوين أشهر الغاليرات، نسخ على C.D صوراً لأهم أعماله، وانطلق يوزعها على الغاليرات. طرق كل الأبواب فلا بد من أن يُفتح أحدها، ولما أضناه التعب، تحسس جيبه ليُفاضل على شرب فنجان قهوة في أحد المقاهي..فعدد أيام "محمد" في اسطنبول تتناسب مع الـ 100 ليرة المتبقية معه.
من حديثه على الهاتف مع أحد أصدقائه، سمع صاحب المقهى لهجته الحلبية، اقترب منه جلس إلى طاولته، فهو أيضاً من حلب..عرف صاحب المقهى ضالة "محمد"، التي قصد اسطنبول من أجلها، إنها "الحياة" ظالة كل السوريين في زمن الحرب.
"قدرك أوصلك إلى المكان الصحيح"، هكذا علق صاحب المقهى مؤكداً لمحمد أن لديه علاقات قوية مع أهم الغاليرات، واعداً إياه بمعرض فردي خلال مدة أقصاها أسبوعان.. طار "محمد" من الفرح، بذّر 75 ليرة احتفالاً..شمت بنظرة اليأس التي رفض زملاؤه خلعها عن وجوههم حتى بعدما أعلمهم بما حدث معه.
في اليوم التالي استعار ملابس رسمية من صديقه الذي نحت العمل كصبي شاورما "كرشه"، فصار مقاسه قريباً من مقاس محمد، ارتدى الملابس الكبيرة عليه قليلاً استعداداً لموعد توقيع العقد مع صاحب غاليري مشهور، وصل قبل الموعد بنصف ساعة، استقبله صاحب المقهى مرتبكاً، ليخبره أنه تم تأجيل الموعد إلى الغد.
لم يخفت حماس فاروق فالغد ليس ببعيد
ولكن في الغد تأجل الموعد أيضاً ثلاثة أيام..وبعد ثلاثة أيام لم يعد صاحب المقهى الحلبي يجيب على اتصالات "محمد" فهم الرسالة، سجل المبلغ الذي استدانه من زملائه، بعد أن عاش مجون اسطنبول في أيام انتظاره لموعد توقيع العقد، مؤكداً أنه سيرد المبلغ عندما تتحسن الظروف.
ودع أصدقاءه محاولاً اختصار الحديث علّه يتجنب جملة "ألم نقل لك"، رمى ريَشه وألوانه في ساحة تقيسم، فقد سقط إيمانه بقدرتها على جلب الحظ.
ومن ذات الطريق الذي سلكه عندما كان محملاً بالأمل..رجع محمد إلى عفرين، لكنه هذه المرة لم يكن يحتاج إلى وقت حتى يتعايش مع أصوات الانفجارات، فالحرب هي التي تعايشت معه.
لمى شماس - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية