زفت احدى الصحف المحلية خبرين متتاليين عن إلقاء القبض على عصابتي سطو مسلح في كل من محافظتي الرقة وحمص.
على غير العادة, جاء الخبران خاليين من كليشيه الاشادة بالعين الساهرة وتذكير المواطنين بأنها عين لا تسهو ولا يغمض لها جفن قبل القبض على المجرمين واللصوص, وهذا تقدم مهني وتواضع محمود في التعفف عن تمنين «الأخ المواطن» بالواجب الملقى على عاتق الأمن, لا نعرف لمن يحسب للجريدة أم لمصدر الخبر في المحافظتين؟!
بالإضافة الى ذلك خلا الخبران أيضاً من بعض التفاصيل عن هؤلاء اللصوص, وقد ذُكر أن عددهم في الرقة أربعة, وقاموا بالسطو المسلح على ناد ليلي وسلبوا من الزبائن 21 موبايل وأموال تقدر بـ 42 ألف ليرة, وأطلقوا النار عشوائياً فأصابوا أربعة أشخاص اصابات غير قاتلة. أما في منطقة القصير التابعة لمحافظة حمص, فألقي القبض على لصين, وما زال البحث مستمراً عن لص ثالث, وهذه العصابة نفذت 50 عملية سلب وسرقة تحت تهديد السلاح.
في التفاصيل التي لم تذكر بالنسبة الى الخبر الخاص بمنطقة القصير, أن السلطات قبضت على ضعف العدد المذكور وربما أكثر, والبحث جارٍ عن عدد غير محدود من المشتبه بهم , وتتراوح أعمارهم بين 17 و20 عاماً, وأغلبهم يتعيش من التهريب.
مع أن أخبار الجريمة كثيرة وباتت صحفنا المحلية تتنافس على نشرها في سبيل الوصول الى القارئ المولع بالأخبار الدامية, فإن هذين الخبرين يكتسبان أهمية خاصة على الأقل من وجهة نظرنا: أولاً, لما يحملاه من طمأنة للناس بأن السلطة حاضرة, مع دليل ملموس على أن العين الساهرة ساهرة فعلاً وليست ساهية, وهو ما نحسد عليه. وثانياً, كون عمليات السطو ازدادت بشكل ملحوظ في منطقة القصيرحمص €القريبة من المنطقة الحدودية€ في الآونة الأخيرة, وتحديدا بعد رفع الدعم عن مادة المازوت التي كان تهريبها الى لبنان مصدر عيش شرائح واسعة من الشباب العاطل من العمل غير المتعلم, علماً أن منطقة القصير وقبل استشراء التهريب على نحو مفجع, كانت الزراعة مصدر الدخل الرئيسي لسكانها. وقد فعل التهريب فعله في هذا المجتمع, وتمثل بتراجع التعليم وزيادة التسرب من المدارس, اضافة الى التهتك الأخلاقي وغياب المعايير والقيم, بترسيخ صورة نموذجية للمهرب في أذهان الناشئة, تحاكي أبطال أفلام الأكشن الأميركية, كمغامر بطل يتحدى السلطات لا يهاب المخاطر. صورة يزيد من بؤسها حيازة السلاح بطرق غير شرعية في لعبة موت عبثي, لا معنى له ولا دافع سوى العيش وفق نموذج تقدمه الفضائيات الاستهلاكية للعيش الرغيد: موبايلات, عطورات, جينزات, سيارات, دراجات نارية, وأحلام عن شقراوات فاتنات... الخ.
النتيجة في النهاية, اذا كانوا من الصغار, فإنهم يلقون حتفهم في المطاردات أو يقبض عليهم, تاركين وراءهم عدداً غير قليل من ضحايا أبرياء ذنبهم أن حظهم العاثر وضعهم في دروبهم أثناء طيرانهم غير المجنح على الطرق الوعرة, فلا يكاد يمر أسبوع واحد من دون ضحية هنا وأخرى هناك €ما زلنا نتحدث عن منطقة القصير حمص, منعاً للالتباس أو الظن أننا نتحدث عن تكساس€, في منطقة يسكنها حوالى 200 ألف نسمة, تشكل فيها مجتمع من المهربين داخل المجتمع, بكل ما يعنيه ذلك من قواعد وأصول وأرباب مهنة ومعلمين كبار, وصغار كسبة, باعوا مصائرهم وأرواحهم للحظ, اما يغدون من كبار القوم كلمتهم مسموعة وحقوقهم محفوظة من الاحترام على قاعدة «معك قرش بتسوى قرش», أو يكون مأواهم السجون فلا يساوون قرشاً, أو يذهبون فرق عملة.
اليوم, مع رفع الدعم عن المازوت, وتشديد الخناق على المهربين, ارتد غالبية هؤلاء الى السلب والنهب على نحو غير مسبوق, فالذي كان يكسب في اليوم ما معدله ثلاثة آلاف ليرة سورية, انخفض الى ألف, أو ربما انقطع مورد رزقه, لن يعمل بالفاعل أو بالعتالة بمائة ليرة في اليوم, وبالتالي لا مناص من السرقة, ويشاع في المنطقة أن هناك أكثر من خمسين عصابة سطو, وسواء أكان الرقم مبالغاً فيه أو قريباً من الواقع, لا يغير في الأمر شيئاً وهو انتشار العصابات, كظاهرة لم تكن على هذا النحو من الاتساع والجرأة, وتتفشى بشكل يثير القلق, لما تشكله من تهديد للمجتمع ليس لأمنه وحسب, بل لجملة المفاهيم والقيم والأعراف. ولا شك في أن الحد منها, ليس في تعقبهم ومعاقبتهم فقط, رغم ما يمثله ذلك من رادع أساسي ومهم. وإنما في انهاء مشكلة تحتاج الى حل جذري كونها تتعلق بمسألة تنموية, وبالأخص في الريف الفقير, ومع أن هناك كثيراً من المشاريع نسمع عن القيام بها لتنمية المناطق النائية, لم نسمع ولو عن مشروع واحد ينظر بحال أهل منطقة القصير, أو يفكر باستثمار هذه المنطقة التي لا تخلو من طبيعة ساحرة وموارد تستحق عناية وزارة السياحة والصناعة. لكن على الضد من ذلك تعامل هذه المنطقة وكأنها لا علاقة لها بمحافظة حمص, التي تشهد مشاريع كبرى لها ما لها وعليها ما عليها, والمفارقة أنه حتى المنشآت الصغيرة التي تحاول النهوض في المنطقة, لا يبقى سبب من أسباب الخنق والتمويت, الا وتوفر لها بحيث لا تقوم لها قائمة. وفوق «الميتة عصة القبر» بتنفيذ مشاريع خدمية لا تنفذ بسبب فرض الاستملاكات بطريقة عشوائية وظالمة توقف الحال وتفتح معارك قضائية تتعاقب عليها عدة أجيال.
المستغرب أنه لا يوجد سبب منطقي لهذا التعاطي, سوى أن مدينة القصير لم تنجب لغاية الآن مسؤولاً رفيع الشأن يشفع لها لدى الحكومة, أو نائباً في مجلس الشعب لديه طموح لوضعها على خريطة المشاريع التنموية, ولم ترزق بأبناء مغتربين يكونون لها بمثابة القرش الأبيض المخبأ لليوم الأسود, لطالما كره أهلها الهجرة.. لذا فهي لا تحلم الا بنيل حصتها المعقولة من الاهتمام كمنطقة معتلة تستحق الوضع تحت العناية المركزة, ليس كرمى لمجتمعها كمثال فريد فعلاً على التعايش والوئام, وهذا لا فضل لأحد فيه سوى لأهلها. وإنما كي لا تغدو مرتعاً للخارجين عن القانون, لصوص الليل والنهار, لحفظ ما تبقى لها من طمأنينة.
والمثل الصيني يقول: «لا تعط الجائع سمكة, بل علمه كيف يصطاد».
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية