يبدو تنظيم الدولة في العراق والشام، في العمق، تنظيماً إرهابياً يحمل الكثير من الجهل المعرفي سواء على المستوى الديني أو على المستوى الدنيوي. ولا يكاد يدنو المراقب من فهم طبيعة التطرف والإجرام التي تتسم بها مرجعيته حتى يدنوه سؤال من نوع آخر يدور حول العوامل التي تجذبه، والعوامل التي تجعل من سيطرته على مدن كالرقة السورية والموصل العراقية مؤخراً، أمراً في غاية السهولة، وتجعل من هروب سجنائه سهلاً كتهرب الشبيحة من القانون، خصوصاً عند النظر لحقيقة مقارعته المفترضة لجيوشٍ يُفترض أنها منظمة ومؤسسة ومعدَّة لحماية سيادة دولها، بل وإن أحدها يدّعي القوة اللازمة لتحقيق "التوازن الاستراتيجي" مع العدو الصهيوني ويدعي صون كرامة العرب. وفي العمق أيضاً، تصل بنا كل محاولات الإجابة عن هذا السؤال إلى حقيقة وجود تشابه كبير بين هذا التنظيم وبين الأنظمة التي يدعي محاربتها، هو تشابه في الطبيعة الإرهابية والأدوات الإجرامية ونوعية الأهداف التي تترجم عقيدة عميقة متعالية عن سنن التاريخ والتطور.
وربما هذا ما يبرر عنصر الجذب إن لم نقل التعاون سواء بالتنسيق المباشر أو غير المباشر الذي يتجسد بتلاقي المصالح. ومفهوم المصالح بالنسبة لأنظمة استبدادية دأبت بالعمل على سبي الدولة كالتي في سورية والعراق هو مفهومٌ لا ينطلق إلا من طبيعتها الاستبدادية، وهي لا تفكر في المصلحة أبعد من الحفاظ على تعزيز أدواتها التسلطية التي تمكنها من البقاء في عصر الاحتجاجات وفي فترة انتهاء عصر الطاعة. بهذا المعنى يمكن تفسير سقوط الموصل الدراماتيكي على أنه خبثٌ تكتيكي، وبهذا المعنى يستطيع العراقيون تصديق ضابط الأمن الداخلي الذي اعترف بتلقيه أمراً بإخلاء المواقع والانسحاب، وبهذا المعنى فسَّر الكثير من السوريين سقوط الرقة. وبهذا يرسخ كلا النظامين شعاراً رفعاه منذ البداية: "إما نحن أو الفوضى". ولكن بالمقابل لا يذهب عن ذهن أحد أن الجيش في النهاية يتكون من أفراد يعانون ما يعاني كل مواطن وهم لم يأتوا من المريخ، وبالتالي عند لحظة الحقيقة يطرحون السؤال: من أجل من يقاتلون؟ ومن أجل من يموتون؟ لن يخفى على العراقيين مفهوم المصلحة الوطنية وهم الذين باتوا يدركون أن مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية القومية هي من جذبتها لغزو بلادهم، وهي من دفعتها للخروج من بلادهم، وعليها يستند الأمريكيون عندما يفيدوننا إن الوضع في الموصل يتطلب "رد قوي" ويشكل "مصدر تهديد". ولكن ما يجب أن يُفهم وما ينتُج عند التحليل هو أن قابلية العراق وسورية لجذب التدخل الخارجي ولجذب الجماعات المتطرفة، تعود لقابلية اللاوطنية في طبيعة وتركيب النظامين الحاكمين فيهما. ويشكل زوال النظامين شرطاً لازماً لاستعادة السيادة الوطنية وللتحرر من الجهل المقدس، ولكنه شرط غير كافٍ.
إذاً تقودنا جميع مقاربات سقوط الموصل، وقبلها سقوط الرقة، بكل حيثياته ومآلاته، إلى نتيجة واحدة مفادها أهمية الفكر الداعشي وأشباهه في تمكين الفكر الاستبدادي القائم من الاستمرار في السلطة والاستمرار في التسلط. فلا يقيم النظامان مع داعش تحالفاً بل يديران معه تحالفاً، ولا يُنتِج هذا التحالف على المستوى الوطني إلا النزوح الجماعي والموت الجماعي والدمار الكبير... فيما يبرهن النظامان، كما يعتقدان، على أهمية وجودهما في مكافحة الإرهاب والهمجية. ومن هنا، ولو جاز لنا التخيُل، وتحولت داعش شيعية تهتف "لبيك يا حسين" أو تحولت داعش بعثية تهتف "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة" وعاهدوا القائد الرمز على التصدي للامبريالية والصهيونية والرجعية وسحق أداتها المجرمة... لما تغير شيئا، فداعش تكون قد تحولت من إرهاب إلى إرهاب، وسيستقدم النظامان أو يصنعان "داعش جديدة" لتكون شمّاعة جديدة.
*كاتب سوري نائب رئيس الأمانة لحزب الجمهورية
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية