مكالمة
أماكن محدّدة، وعشرات المحاولات، كي تستطيع التقاط شبكة الهاتف النقّال، وإجراء مكالمة، غالباً ما تنقطع بشكل مفاجئ، من دون أن تُكمل ما تريد قوله. تسير في شارع "التكايا"، الذي أصبح عصب الحياة في مدينة دير الزور بشقّها المحرّر، لتجد العشرات ممّن تسابقوا في رفع أيديهم إلى السماء، آملين إجراء الاتّصال المنشود. ابتسم لي الحظّ هذه المرّة، لكنّ فرحتي لم تدم سوى ثواني قليلة، حين تعالت، بشكل مفاجئ، أصوات المتظاهرين من حولي. نظرتُ إليهم، مستغرباً، مستنكراً، حاقداً، علّهم يواصلون سيرهم قبل انقطاع المكالمة. توقّفت الجموع أمامي، ارتفعت الهتافات غير المفهومة أكثر فأكثر، مخترقةً سمّاعة هاتفي شبه المعطّلة. ذهبت الشبكة ولم تعد، وتفرّق المتظاهرون من دون أن يعلموا ماذا يريدون بعد ثلاثة أعوام من التظاهر، وعدتُ أدراجي إلى المنزل بانتظار قذائف اليوم التالي.
300
على غرار العديد من المناطق السورية، عانت مدينة دير الزور، من حصار خانق، فرضته قوات النظام عليها من كافة الاتّجاهات، أثناء الحملة التي شنّتها بتاريخ 22-6-2012. اشتدّ هذا الحصار، مع بداية حملة "الحرس الجمهوري" أواخر الشهر التاسع من العام ذاته، ليصبح مركز المدينة وعدد من الأحياء الخاضعة لسيطرة قوّات المعارضة، أشبه بجزيرة معزولة، باستثناء بعض المعابر السريّة التي كان يسلكها المقاتلون والجرحى، في غفلةٍ عن أعين قوّات النظام. نزح معظم سكّان المدينة حينها، وتبقّى داخل الأحياء المحاصرة حوالي خمسة آلاف مدني، ونحو 300 مقاتل أشدّاء استطاعوا صدّ الحملة الشرسة، وفعل المستحيل، رغم نقص السلاح والذخيرة لديهم. في 29-1-2013، تنفّست دير الزور الصُّعداء، حين تمكّن عشرات المقاتلين، بعد عناء طويل، من كسر الحصار المفروض على المدينة، بتحريرهم فرع "الأمن السياسي" وجسر "السياسية" الذي يربط المدينة بريفها من الجهة الشرقية، إلا أنّ قنّاصات جنود النظام، جعلت من هذا الجسر "معبراً للموت" بحسب التسمية التي ارتبطت به، في إشارة إلى عشرات الأشخاص الذين لقوا حتفهم خلال مرورهم عليه. استمرّ الوضع الميداني داخل المدينة من دون تغيّر يُذكر، حتّى قامت قوات المعارضة بعمليّة عسكرية في 10-8-2013، استطاعت من خلالها تحرير أجزاء واسعة من حيّ "الحويقة"، وتأمين المواقع التي كان يُطلق منها رصاص الموت على الجسر، لتُطوى بذلك صفحة الحصار الذي عانت منه دير الزور، وتبقى قصّة 300 مقاتل، حملوا على عاتقهم مهمّة الدفاع عن المدينة في أقسى الظروف. هذه التفاصيل، دفعت بالكثيرين إلى تشبيه ما حصل -رغم الاختلاف بينهما- بالفيلم الشهير "300"، الذي يروي قصّة 300 مقاتل اغريقي، وقفوا في وجه الجيش الفارسي الذي يتفوّق عليهم عدّةً وعتادا.
لقاء
بعد محاولاته الكثيرة غير الناجحة، تمكّن أخيراً "مجد" من الاتّصال بوالديه وسماع صوتهما، واتّفق الطرفان على تحديد المكان والزمان ليتمّ اللقاء بينهما. لم ينم مجد حينها، خشية أن يفوته الموعد المُنتظر، فهو لم يجتمع بأهله منذ أشهر طويلة. انطلق صباحاً، وكان يتوجّب عليه عبور جسرين، استطاعا البقاء على قيد الحياة، في مدينةٍ أصبحت رُكام. على الطرف الآخر من النهر، صعد الأب والأم، على متن سفينةٍ صغيرةٍ، أخذت تشقّ طريقها كصعوبة السباحة عكس التيّار، وأعين من عليها، تترقّب الوصول إلى الضفّة المقابلة؛ ضفّة الأحبّة. عشرات الأمتار فقط، هي كل ما يفصل بين (دولتين) كانتا بالأمس القريب مدينة واحدة، لكنّها اليوم، باتت ترفع عَلَمين مختلفين، لكلّ عَلَم، نظامه الخاص، وحياته الخاصّة، وحدوده التي اعتاد عليها المُتحاربون جميعهم. وصل صديقنا المُشتاق أولاً، وحاول كسر انتظاره، بمراقبة النهر الذي لم يتغيّر رغم القذائف والجثث التي ابتلعها، لعلّه الشيء الوحيد الذي بقي كما هو. وصلت "سفينة الأحلام" التي حملت آمال الكثيرين من أمثال والدي مجد، وحصل اللقاء الذي لم يدم سوى ساعات قليلة، ليعود بعدها كُلٌّ إلى ممارسة حياته الاستثنائية، التي تحوّلت بقدرة الثّورة، إلى واقع طبيعي، اعتاد الجميع عليه. وحتّى لقاء آخر يجمع بين من تفرّقوا قسراً، يستمرّ نهر الفرات في نقل الرسائل بين الضفّتين المُتقاربتين.
دير الزور.. ومضات رمادية
حذيفة فتحي
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية