انتعاشة مرحلية لتنظيم البغدادي وتغير جذري في الخطاب والأولويات

بعد ضربات عدة تلقاها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام مطلع العام الجاري أسهمت بشكل كبير في تحجيمه وإيقاف تمدده جغرافيا في مناطق ومساحات واسعة، توافرت ظروف محلية وإقليمية استغلها التنظيم بشكل جيد لاستعادة ما خسره من مواقع ومرتكزات في سوريا والعراق.
على الساحة السوريّة، وبعد أن أمن التنظيم مواقع تمركزه في محافظة الرقة وريف حلب الشرقي، وانتقاما لخسائره أمام جبهة النصرة والجبهة الإسلامية خلال الشهريين الماضيين، شن مقاتلوه هجوما عسكريا في ريف دير الزور، وسيطر على قرى عديدة ومواقع هامة، ووصل إلى مداخل المدينة وكاد يفرض حصارا مطبقا عليها لولا استدراك الفصائل العسكرية في دير الزور؛ مجلس شورى المجاهدين، وجيش العشائر، الجيش الحر .. الخ، الخلل الحاصل والتنظم لمواجهة الخطر المحدق والذي ما يزال قائما حتى الآن. في المقابل، فتح انتقال الانتفاضة العراقية السلمية إلى الكفاح المسلح الباب لتنظيم البغدادي لإعادة التغلغل والتمركز في مدن عراقية (الأنبار والفلوجة وسامراء) كان قد أخرج منها سابقًا.
في رأينا، ما حققه تنظيم الدولة خلال الشهرين الماضيين، يعد انتعاشة مرحلية لن يغير على المدى الطويل في فرص بقائه واستمراره. فمنذ انطلاق المواجهة ضده في سوريا، أوضحنا خلال مقالات عدة في هذه الزاوية، أن تنظيم الدولة في طريقه إلى الزوال لأنه خسر أهم المقومات، ألا وهي الحاضنة الشعبية والاجتماعية، وأضحى يتصرف كما الأنظمة الديكتاتورية القائمة مع المجتمعات المحلية التي يستقر ضمنها كسلطة احتلال ليس إلا، وذلك عدا عن الانحراف الفكري ضمن منظومته والتي استدعت ابتعاد غالبية المنظرين الجهاديين عنه، والتبرؤ من تصرفاته وسلوكه ومنهجه.
أدركت قيادة التنظيم هذه الحقيقة، فأسقطت أحلامها السابقة عن "الدولة" في العراق والشام، وأضحى الحفاظ على ما تحقق هو الغاية والهدف الرئيس؛ بمعنى بقاء التنظيم في صحراء العراق كـ"دولة" وفق تعريفه ومحدداته، وتأمين حديقة خلفية لتوفير الإمداد والدعم في المناطق الجغرافية المحاذية، وهذا هو جوهر الهجوم على دير الزور. لقد توافرت قناعة كاملة لدى التنظيم تتمثل في أن سيطرته على الرقة لن تؤمن له مقومات بقائه في العراق، كما أن وجوده فيها، مهددا، سواء من فصائل المعارضة السورية أو من تركيا التي تتلمس يوميا مخاطر وجود تنظيمات جهادية على حدودها، وما يجلبه لها من متاعب أمنية عدا عن زيادة الانتقادات الشعبية لحكومة العدالة والتنمية فيما يتعلق بسياستها في سوريا، وهو ما دفعها مؤخرا إلى تصنيف جبهة النصرة على قائمة الإرهاب لاحتواء الانتقادات الشعبية والدولية.
ماذا ترتب على ذلك؟
إن عقدة البقاء والاستمرارية كان لها بالغ الأثر على عقيدة واستراتيجية تنظيم الدولة، وهو استدعى حصول تغيرات كبيرة في الخطاب والفهم والممارسة. لقد أضحت كلمة "باقية" أحد أبرز المصطلحات الحاضرة والمتكررة في أدبيات تنظيم الدولة على مستوى القيادة والقاعدة، وتشير كثير من الشهادات الميدانية وفي وسائل التواصل الاجتماعي أن "انغماسيي" التنظيم وعند تنفيذهم للعمليات الانتحارية استبدلوا المصطلح المحفز "الله أكبر" بكلمة "باقية"، وهذا ينساق أيضا على المواجهات العسكرية، إذ أمكن تمييز مقاتلي الدولة عن غيرهم من كثرة استخدامهم لكلمة "باقية".
من جانب آخر، تراجع استخدام البعد الهوياتي ومدلولاته اللفظية في أدبيات تنظيم الدولة، فلم يعد "قتال الروافض والنصيريين والصليبيين" حاضرا كما كان في خطابات وأحاديث مقاتلي التنظيم، واستبدل بمصطلحات أخرى مثل "صحوات ومرتدين" و"جئناكم بالذبح والمفخخات". تأسيسا على ما سبق، لم يكن تصريح أحد قادة التنظيم المحليين في ريف حلب غريبا عندما قال "إن جند بشار الأسد أشرف بكثير من هؤلاء الكلاب (في إشارة إلى مقاتلي المعارضة). ولتعويم هذا الخطاب، يقود ما نسميهم "شبيجة داعش" في وسائل التواصل الاجتماعي حملة إعلامية شعواء يركزون فيها على قضية "المهاجرين"، وعلى أن فصائل المعارضة والفصائل الإسلامية الأخرى بما فيها جبهة النصرة التي تضم عددا كبيرا منهم يقومون بذبح المهاجرين وقتلهم وصلبهم واغتصاب نسائهم في محاولة لتعزيز النزعة الانتقامية، والتهيئة الغرائزية لمزيد من الانتحاريين.
يدرك تنظيم البغدادي أن استمراريته كتنظيم جهادي وكمشروع سلطة تحصل فقط عندما يكون الطرف الوحيد "المقابل" للأنظمة الديكتاتورية القائمة، لذلك يخشى من أي مشروع ثوري أو مقاوم لها لأنه يسحب منه "ذريعة" البقاء. وعلى اعتبار أنه لم يستطع كسب معركته السابقة ضد الأنظمة، فإنه يسعى لضرب الفصائل المناهضة لها على اختلاف تشكيلاتها وأفكارها؛ جهادية، إسلامية، عقائدية، معتدلة .. الخ. لقد برزت هذه الاستراتيجية بشكل واضح في سوريا من خلال استراتيجية "تحرير المحرر" والتقاعس عن قتال النظام السوري، وفي العراق عندما تغلغل إلى المناطق التي سيطرت عليها المجالس العسكرية العراقية محاولا السيطرة عليها ليعطي الحجة والذريعة لقوات المالكي أمام المجتمع الدولي لوأد الانتفاضة العراقية المسلحة. ليس هذا فحسب، بل أحدثت استراتيجية التنظيم ثغرات عسكرية وأمنية عدة في مناطق المواجهة مع قوات المالكي، فكونه لا يضع المواجهة المباشرة ضمن تكتيكاته العسكرية، ويفضل الانسحاب عند حصولها، تمكنت قوات سوات 5 حزيران/ يونيو 2014 من دخول مدينة سامراء العراقية واحرقت خيم الاغتصام ودمرت مرتكزات المقاومة العسكرية.
إن مشروع تنظيم الدولة هو مشروع يهدد استراتيجية الفصائل المسلحة في العراق وسوريا، وبناء عليه، فإن مواجهته عسكريا يجب أن لا تكون ضمن ردات الفعل كما هو قائم حاليا، كونه تنظيما غادرا لا يقيم للتفاهمات والمواثيق وزنا أو قيمة، ويستغل أي فرصة سانحة لمهاجمة هذه الفصائل والفتك بها كما حصل ويحصل في دير الزور حاليا.
من كتاب "زمان الوصل" في زاوية "اسلام وجهاد"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية