حين منع الرقيب العلوي أغنية "حموي يا مشمش" لأنها تتكنى بحماه!

أرسل لي أحد الأصدقاء الحمويين الشباب يسألني إن كان المطرب نجيب السراج ابن مدينة حماه، والمطرب والملحن اللامع، الذي أعجب محمد عبد الوهاب بتلحينه لقصيدة (بيت الحبيبة) لنزار قباني في خمسينيات القرن العشرين، قد غنى شيئا عن مدينته حماه.
وقد أرسلت للصديق إياه اغنية بعنوان: (حماة في خاطري) هي واحدة من أجمل ما غناه السراج لمدنيته الأبية، تقول كلماتها:
حماة في خاطري لحن وأغنية وفي ضميري صبابات أعانيها
أظل يلفحني شوق ويغمرني حب لأنسام واديها أوف.. عاصيها
وقد سألني الصديق ببراءة إن كانت هذه الأغنية موجودة في الإذاعة السورية، فضحكت من قلبي وقلت له: إن كل إنتاج نجيب السراج من إنتاج إذاعة دمشق منذ انطلاقتها أوخر أربعينيات القرن العشرين... وهي موجودة بالطبع. ولكن السؤال الذي يجب أن تطرحه: هل كانت تبث؟! وقبل أن تسأل سأقول لك هذه الأغنية كانت ممنوعة من البث منذ ثمانينيات القرن العشرين، والسبب ليس موقفاً من نجيب السراج، فهذا الرجل الطيب الذي كنت أراه في أروقة إذاعة دمشق في تسعينيات القرن العشرين يتوكأ على عصاه، ويقابل الجميع بابتسامة وود، لم يستطع أحد أن يكرهه يوماً في الوسط الفني أو الإعلامي، لكن السبب هو أن الأغنية تتحدث ببساطة عن حماه، وفيها يقول السراج أيضاً
لأنت يا بلد الأبطال يا بلدي أشهي إليَّ من الدنيا وما فيها.
فهل يتقبل علويو الإعلام الطائفيون، أن يسمعوا السراج يصف حماه بأنها بلد الأبطال... فيتبادر إلى الأذهان صورة حماه التي انتفضت ضد حكم الأسد الأب؟!
وقد يسأل قارئ محايد الآن... لماذا تفترض أنهم لا يقبلون؟! ما هذه الاتهامات الطائفية الحاقدة التي تنبشها؟! وسأسشتهد في إجابتي على هذا السؤال، بما فعله الصحفي أسعد عبود في العرض الخاص لفيلم (الليل) لمحمد ملص عام 1994، وكان حينها أمين تحرير صيحفة (الثورة) وهو بالمناسبة علوي لمن لا يعرف... فقد وقف إثر مناقشة الفيلم ليسأل بكل وقاحة طائفية: لماذا صورت من ذهبوا من السوريين للقتال في فلسطين عام 1936 بأنهم من مدينة معينة؟! وكان ملص قد صور مجموعة من الحمويين في فيلمه يذهبون للقتال في فلسطين ثم يعود أحدهم ليحرق نفسه بعد انهيار آماله بتحريرها!
حينها نظر الحاضرون ببعضهم بعضاً نظرات دهشة واستغراب؟! بعضهم ذهل، وبعضهم صمت، وكثيرون منا كانت الكلمة الأولى التي تحدثوا فيها حين آبوا إلى مجالسهم الخاصة: (شفتوا هالحقير)؟!
أكثر من ذلك. في عام 2001 وكنت أعد ندوة نقدية عن مسلسل اسمه (الخيزران) من إنتاج التلفزيون السوري، ويتحدث في جانب من جوانبه عن الوحدة بين مصر وسورية، طلبت من مخرج المسلسل محمد بدرخان، أن يعطيني أشرطة المسلسل (فيديو) لأشاهده كاملا في البيت. وفي إحدى الحلقات كان المخرج قد استخدم أغنية المطربة صباح (حموي يا مشمش) فكتبت تقرير نقدياً بعنوان (كيف ناقش الخيزران قضية الوحدة) لعرضه في الندوة أقول فيه عن هذه الأغنية:
" هذه إحدى الأغنيات الشعبية الشهيرة، التي تتحدث عن عيد الوحدة بين مصر وسوريا، والتي قدمت في مسلسل الخيزران".
لكنني عندما ذهبت إلى التلفزيون لمونتاج التقرير، وقد سجلت رقم الحلقة التي استخدمت فيها هذه الأغنية، لم أجد أثراً لها، فاتصلت بالمخرج ظاناً أنني أخطأت في رقم الحلقة... فأخبرني أن رقابة المشاهدة في التلفزيون السوري، قد طلبت منه استبدال الأغنية... ذلك أن في التفلزيون رقابتين: الأولى تراقب النص وتجيزه أو تمنعه، والثانية تراقب المسلسل بعد تصويره. ثم قال لي مهوّناً الموضوع: (ما بحبوا ذكر حماه بتعرف)! لم أعلق.. لكنني ألححت عليه بذكر اسم الرقيب، فذكره أمامي ليقينه أنني لن أستطع أن أكتب هذه الحادثة في أي مكان في ذلك الزمن الذي خيل لهم أن الحكم العلوي هو حكم الأبد.... لكن الأبد انتهى، وها أنا ذا أكتب، حاملاً ذاكرة احتفظت بكل تفاصيلها وحكاياها على أمل أن تخرج إلى النور يوماً.
أسمع من يكابر ويقول (كانت الرقابة من كل الطوائف) على وزن (الشبيحة من كل الطوائف) وأنا لا أخالفه في هذا الرأي... لكن لكم أن تتصوروا إن كان من يكره ذكر حماه في أغنية تستخدم في خلفية مشهد درامي، ويقف عند هذا التفصيل الهامشي هو الدمشقي أو الحلبي أو الحمصي مثلاً... أو حتى المسيحي؟!
لم يكن في تلك الاغنية من ذكر حماه سوى نسبة المشمش الحموي، لكن ثقافة الغل والحقد الطائفية كانت متغلغلة في رؤوس مثقفيهم وإعلامييهم، قبل شبيحتهم الذين رأيناهم في سنوات الثورة الثلاث يرفعون شعار (الأسد أو نحرق البلد) ويرتكبون المجازر ويعتقلون النساء والأطفال، ويخرجون آلاف الجثث من المعتقلات جثثاً هامدة ماتت تحت التعذيب!
وكانت الطائفية سلاحا يكتبون به، ويراقبون به في الإعلام، ويوظفون به في دوائر الدولة، ويعذبون به في أقبية المخابرات، ثم إذا تكلم أحد اتهم بأنه هو الطائفي.. وأنهم هم علمانيون وطنيون... في إحدى مسرحياته كتب سعد الله ونوس مقدماً صورة متجنية ومنحطة عن دمشق، انتقدته د. حنان قصاب حسن وهي ابنة بيئة ثقافية وعلمانية منفتحة، وابنة رجل كان واحدا من مؤسسي نهضة الفنون في ستينيات القرن العشري، فاتهمت بأنها تتحدث من منظور طائفي.. ولو كان من كتب هذا النص المسيء عن دمشق كاتباً ليس علوياً، لقالوا إنها وجهة نظر في نص مسرحي ليس إلا!
وذات مرة وكنت أعد برنامجاً في الفضائية السورية وكان ضيف الاستوديو علي الديك، كتبت تقريرا نقدياً عنه، ووجهت له أسئلة قاسية، واحتدم النقاش على الهواء، وصدم السيد الديك من الأسئلة، فجاء المونتير إلي مكفهراً غاضبا (وكان المونتير علوياً) وقال لي: لو كنت أعلم أنك ستتحدث مع الأستاذ علي هكذا لما منتجت لك التقرير... ثم سمعت علي الديك نفسه في الاستوديو يسأل: من وضع هذه الأسئلة لي؟!
وهكذا... فالطائفية التي كانوا يمارسونها في الفن والثقافة والإعلام ومن طرف واحد، كانت سلوكاً علوياً متأصلاً... يحمل الغل والحقد ويعتبر أنك تستطيع أن تهمش الجميع، وتلغي ذكر الجميع، ولا أحد له حق بالاعتراض!
هذه الطائفية هذه التي أنجبت ظاهرة الشبيحة، والمجازر التي ارتكبت في سنوات الثورة، وردة فعل السوريين عليها لم تكن وليدة سنوات الثورة فقط، بل كانت تستند إلى إرث من التمييز والقهر والمظالم الكبيرة والصغيرة، التي يحمل كل سوري منا آلاف الشواهد عليها، وهي لم تكن سلوكاً خاصاً بالنظام فقط، بل حالة يمارسها معظم أفراد الطائفة، على اعتبار أن هؤلاء الـ(معظم) يملؤون الأمن والجيش والإعلام والوظائف الحكومية، بحيث إن من لا يعرف سوريا، ويرى انتشار اللهجة العلوية في كل هذه المواقع، يظن أن نسبة العلويين في سورية تفوق السبعين بالمائة!
أذكر هذه الحوادث لأنبش جراحاً يجب أن تنبش... ويجب أن يعرف الجميع ماذا كانوا يمارسون، ويجب على مثقفي الطائفة أن يخجلوا من اتهام الآخرين بالطائفية، ولوم الآخرين، وهم وراء نظامهم استمرؤوا اللعبة ومارسوها وانتفعوا منها، قبل أن يكتشفوا أنهم كانوا غافلين عن حقيقة: لو دامت لغيرهم لما وصلت إليهم.
لو آمنوا بهذه الحقيقة... لعاملوا إخوانهم السوريين بشيء من الوطنية والأخلاق!
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية