قال "جورج دانتون" المحامي والقائد الثوري الفرنسي الشهير عندما سيق إلى المقصلة: إن الثورة تأكل أبناءها.
مقولة "دانتون" تلك كانت حقيقةً واقعيةً حينها، لكن في ثورة سوريا التي اندلعت منتصف آذار 2011، والمستمرة حتى اليوم، نجد أن عكس مقولة "دانتون" الواردة أعلاه، هو الصحيح والواقعي، ففي سوريا بعض من سُموا ثواراً هم من أكل الثورة، لا بل وربما شربوا ماءها، أو استحموا به أيضاً، وقد فعلوا ذلك حتى قبل أن تنتصر الثورة، وتبلغ منتهاها الأخير بإسقاط نظام الاستبداد الحالي، وإقامة دولة العدل، والحرية، والمساواة، والديمقراطية.
كل ما يقال عن عنف النظام، وبطشه، ووحشيته، وتعمده استخدام الورقة الطائفية لقمع الثورة، وتغيير مسارها، وأسلوبها، وهدفها النهائي خلال مراحل متعددة من عمرها، صحيحٌ، وصحيحٌ أيضاً أن أطرافاً خارجيةً كثيرةً كإيران، وروسيا، والصين، و(حالش)، ومليشيات "أبي الفضل العباس" الطائفية، والقاعدة والجماعات المرتبطة بها، أو القريبة من نهجها الفكري والعقائدي، قد تدخلت هي الأخرى وساهمت بتحويل المسار، من ثورةٍ شعبيةٍ ضد الاستبداد والديكتاتورية، إلى حربٍ طاحنةٍ تحمل في طياتها العديد من ملامح الحرب الأهلية، وإن لم تغدو حرباً أهليةً صرفةً بعد.
صحيحٌ أيضاً، كل ما قيل ويقال عن تدخلات الدول الإقليمية، والدول الكبرى التي تدعي دعهما لثورة الشعب السوري، وصحيحٌ أيضاً، تورط أجهزة تلك الدول، السياسية منها والاستخباراتية في الثورة السورية، لمحاولة منعها من تحقيق هدفها بإسقاط النظام بشكلٍ نهائيٍ، سواءً عبر وسائل عسكريةٍ، أو عبر عمليةٍ سياسيةٍ تفضي إلى تفكيكه، وإزالته من الوجود.
لكن كل ذلك لا ينفي صحة القول: بأن الثوار السوريين قد أكلوا ثورتهم، فعندما انطلقت الثورة في آذار 2011، كانت الشريحة الكبرى التي انخرطت في الثورة بالأساس هي فئة الشباب، أي أولئك الذين تتراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة، والثلاثين إلى الخامسة والثلاثين ــ ذلك لا يعني بأن من هم أكبر أو أصغر من ذلك لم يشاركوا فيها ــ وكانت تلك الشرائح تمثل معظم الفئات والطبقات والعرقيات والطوائف الموجودة في سوريا، بمعنى أنها كانت ثورةً متغلغلةً وممتدةً أفقياً وعمودياً داخل المجتمع، أو كانت بدايتها على الأقل كذلك، لكن أهم ما كان يمكن مُلاحظته في تلك البداية، هو غياب النخب والمثقفين والأكاديميين والتجار والصناعيين والإعلاميين ورجال الدين بمعظمهم عنها، لكن الثورة لم تتوقف عليهم، ولم تنتظرهم، رغم أهمية الدور الذي كان من الممكن أن يلعبوه فيها، الثورة بطبيعتها فعلٌ ديناميكيٌ له حركةٌ مستمرةٌ تصاعديةٌ، قد تتباطأ أحياناً، أو تضعف، لكنها على الأغلب تستمر في حركتها وصعودها، والثورة السورية لم تشذ خلال أول عام ونصفٍ من عمرها عن تلك القاعدة، فأنتجت مثقفيها الخاصين بها واختارتهم من بين صفوفها، من أولئك الشباب المتحمس والثائر، والمشارك بفاعليةٍ قل نظيرها في أحداثها ومجرياتها، صحيحٌ أن وصف القادة أو المثقفين أو المفكرين قد لا ينطبق عليهم بصورةٍ دقيقةٍ، لغياب المعرفة والخبرة والتجربة عن معظمهم، وافتقار آخرين كثرٍ منهم، للأدوات العلمية والمعرفية التي تؤهلهم ليكونوا قادةً فكريين، أو منظرين سياسيين للحراك والثورة، لكن الأهداف العامة للثورة لم تكن تحتاج إلى ذكاءٍ أو ثقافةٍ من نوعٍ خاصٍ، لفهمها والتعامل معها، كما أن تفاعل أولئك الشباب ومشاركتهم اليومية الحقيقية في الثورة، كان ولا شك سيكسبهم الزاد الكافي من التجربة والخبرة، أضف إلى أنهم بمعظمهم شبابٌ، جامعيون، متعلمون، يملكون من الذكاء والوعي وقوة الشخصية الشيء الكثير، ما يعني أنهم وبالمحصلة وبالاستناد إلى ما ذكر أنفاً، لا بد وأن يكون لهم الدور الأساسي في قيادة الثورة وتنظيمها، وفي رسم مستقبل البلاد لاحقاً.
أسس أولئك الشباب التنسيقيات والروابط، وغيرها من الهيئات والكيانات الثورية الأولى، فكانت التنسيقيات في كل المناطق الثائرة، ومن ثم الهيئة العامة للثورة، واتحاد تنسيقيات الثورة السورية، ولجان التنسيق المحلية، وغيرها، والشبكات الإعلامية كشبكة شام، وأوغاريت، وغيرها أيضاً، من نتاج عمل وجهد أولئك الشباب، وقد عملوا على تنظيم المظاهرات والدعوة إليها، كما عملوا في مجالات الإعلام وتصوير المظاهرات، ورفع مقاطع الفيديو على شبكات التواصل الاجتماعي، ونقل الأخبار والتحدث إلى محطات التلفزة العربية والأجنبية، كما عملوا في مجالات الإغاثة، والمجالات الطبية، وأصبحوا يدعون ب"الناشطين".
يمكن القول وبكثيرٍ من الشعور بالراحة، أن جل المكتسبات التي تحققت لأبناء الشعب السوري، جاءت خلال فترة الثورة السلمية، فسقوط الشرعية السياسية للنظام، والإحساس بالتحرر، والكرامة، والفخر بالانتماء الوطني، والشجاعة، والتسامح، والرقي، وغيرها من المشاعر والقيم، التي أصبح الكثيرون يشعرونها ويتمتعون بها، كانت نتاجاً مباشراً لتحدي قوات أمن النظام وشبيحته، خلال وعبر المظاهرات والنشاطات السلمية الأخرى، من تصويرٍ، إلى تدوينٍ، إلى أغانٍ ولوحاتٍ فنيةٍ، إلى كتاباتٍ ورسومٍ على الجدران، إلى مواكب تشييع الشهداء الأولين، إلى حملات المقاطعة والإضراب، إلى مغامرات إسعاف الجرحى والمصابين، إلى تهريب المطلوبين، ونقل وتهريب الأدوية، والطعام، وأجهزة التصوير، وأجهزة الاتصال، وغيرها، إلى ما كان يعرف حينها ب (المناطق الساخنة).
ثم ماذا بعد ؟ ثم جاءت مرحلة السلاح، وهنا بدأ العديد من الثوار و"الناشطين" يستهلكون بأفعالهم الكثير من الرصيد الأخلاقي والسياسي للثورة، ونحن هنا لا نتكلم عن المسلحين الذين سنفرد لهم مقالاً خاصةً في وقتٍ لاحقٍ، بل نتحدث عن النشطاء المدنيين، الذين انقسموا إلى قسمين، الأول: حيد نفسه عن الثورة، كما عن السلاح، ربما خوفاً، أو لعدم درايةٍ باستخدامه، أو لأنه يريد تنزيه نفسه عنه، أو لأنه يرفض فكرة السلاح من أساسه أصلاً، والواقع أنه يحق لكل ثائرٍ أن يختار حمل السلاح أو عدمه، فليس مطلوباً من الجميع حمل السلاح، كما لا يُلزم أحدٌ بتقديم أي تبريرٍ لخياره الذي أراد، طالما بقي صامداً على مواقفه وثوابته، في نفس الوقت بدأ كثيرٌ من أولئك "النشطاء" بالتغطية على أفعال وسلوك وتجاوزات زملائهم ممن حملوا السلاح، ولم يعد نقلهم للأخبار يمتاز بالصدق والجرأة والشفافية كما كان سابقاً، وربما أقعدتهم روابط القرابة والصلة، أو الجيرة، أو الخجل عموماً، أو رغبتهم بالحفاظ على الصورة الوردية للثورة، أو ذرائع حماية الثورة من تصيد ثغراتها وهناتها من قبل أعدائها، أو غير ذلك، عن نقل الحقيقة والواقع كما هو، وتسليط الضوء عليه، وفتحه للنقاش العام والاعتراض عليه، وهم عندما فعلوا ذلك قاموا بتقويض المثال الأخلاقي الذي حققته الثورة، وبذلك ما عادوا متمايزين عن النظام، ولا عن أمثلة السلوكيات والنماذج اللاأخلاقية التي كان يعرضها، ويعممها على المجتمع والناس.
أما القسم الثاني من "النشطاء"، فقد فعل ما هو أسوء، فقد استغل عمله ونشاطه في الثورة، والعلاقات والمعارف التي تجمعت لديه، فاستغل ذلك ليسافر ويترك البلاد، والثورة وراءه، وغالباً ما كان السفر باسم الثورة، وعن طريقها، وعلى حسابها، حتى سرت لدينا في الداخل السوري نكتة معبرةٌ، يسأل فيها الأول: كم تكلف الهجرة إلى أوروبا ؟ فيرد آخر: تهريب أم مؤتمر !؟، والذين سافروا حملوا خبراتهم ومكتسباتهم وكفاءاتهم إلى بلدانٍ أخرى بعيدةٍ، وحرموا الثورة والبلد تالياً منها، والحقيقة أن حق السفر من البلد، وخاصةً في ظروفٍ كالتي نعيشها، وحق المشاركة في الثورة أو التخلي عنها، هي مبدئياً حقوقٌ شخصيةٌ، خاصةٌ، ومشروعةٌ، (وإن اتسمت بالكثير من الانتهازية أو اللاأخلاقية، والتقت مع أهداف النظام بإفراغ البلد من كوادرها)، إلا أننا هنا لا نتكلم عن حالاتٍ فرديةٍ مخصوصةٍ بزمان، أو مكانٍ، أو ظروفٍ شخصيةٍ خاصةٍ لهذا "الناشط"، أو ذاك، أو عن الناس العاديين، بقدر ما نتكلم عن حالةٍ جماعيةٍ عامةٍ بين "الناشطين"، ترقى لمستوى الظاهرة الجديرة بالنقاش، والنقد، والمراجعة.
وكان يُقبل من أولئك "الناشطين" التخلي عن الثورة وعن البلد، لو اكتفوا بذلك فقط، لكنهم تعدوا الأمر إلى محاولة التغطية على ذلك التخلي، عن طريق انضمام الكثير والكثير منهم للعمل في صفوف المنظمات التي تنشط في مجالات الإغاثة أو التدريب أو الأعمال الإنسانية الأخرى، والتي تعرف باسم ال (NGOs)، أو ما يسميها بعضهم خطأً بمنظمات المجتمع المدني، وإحدى أبرز مآخذنا على تلك المنظمات، وعلى عملها، هو عدم معرفة الجهات التي تقف وراء قسمٍ منها، وعدم معرفة أهدافها، وارتباط بعضها بحكوماتٍ أو بأجهزة استخباراتٍ لدولٍ تدعي وقوفها إلى جانب الشعب السوري، بينما تعمل في الواقع لتحقيق مصالحها على حسابه، لكن أبرز مخاطر تلك المنظمات على الثورة والبلد، هو عملها على تفريغ وتمييع المضمون السياسي لثورة السوريين، وتحويلها لمجرد قضيةٍ إنسانيةٍ إغاثيةٍ، والعمل على إدامة المحنة والمعاناة التي يمر بها السوريون، ودفعهم لتقبلها والتعايش معها بتحسين ظروف حياتهم اليومية فقط، كما حصل سابقاً للفلسطينيين، كما أن الكثير من أولئك "الناشطين"، غدوا وللأسف مُنتفعين و(مرتزقين) من تلك المنظمات، ومستفيدين من طول الأزمة، ومن معاناة بقية السوريين أيضاً.
ربما كان الأجدر بأولئك "الناشطين" ألا يشاركوا في الثورة أساساً، وألا يحرضوا بقية الناس عليها، إن كانوا ينون تركها والتخلي عنها، وربما أيضاً من الواجب عليهم مراجعة ما فعلوه، والنظر ملياً في نتائجه عليهم، وعلى من بقي صامداً داخل البلد، مصراً على ثورته، والاعتبار من شبابٍ آخرين مثلهم، قرروا الصمود في الداخل، وشبابٍ (أغرابٍ) آخرين أيضاً، حظي العديد منهم بحياةٍ، وفرصٍ، وتعليمٍ أفضل مما حصل عليه الكثير من أولئك "الناشطين" سابقاً، ومع ذلك تركوا كل ذلك وراءهم، وجاءوا إلى بلادنا واستغلوا فراغ ثورتنا، ليقيموا مشاريعهم العقائدية الخاصة بالدم، والنار، والحديد، على حسابنا، وحساب مستقبل شعبنا وبلدنا.
عندما انتصرت الثورة الفرنسية انصرف "جورج دانتون" إلى حياة اللهو والمجون، مخلياً الساحة لمجرم إرهابيٍ هو "ماكسيمليان روبسبير"، الذي قتل الآلاف في أسابيع معدودةٍ، باسم الثورة، واليوم في سوريا، يبدو أن (دانتونيين) جدد يخلون ثورتهم أيضاً ل (روبسبيريين) جددٍ أيضاً، وفيما يقدم هؤلاء (الروبسبيريون) أرواحهم، وكل ما يملكون في سبيل مشروعهم ــ الذي يعني موتنا ــ، لا يتنازل، ولا يضحِ (دانتونيو) الثورة السورية في مواجهة مشروع أولئك، إلا بالشتائم واللعنات وكلام الفحش، و ب (الستاتوسات) و(الايفينتات) و (الغروبات) في عالمهم الافتراضي البعيد.
وربما قد آن الأوان (لأكلي) الثورة الانتهازيين، ليكفوا أذاهم ابتداءً من هذه اللحظة عن الثورة، وحبذا لو ينصرفوا إلى حياتهم في مهاجرهم البعيدة، أو ينضموا لصفوف حملة (سوا) الأسدية، فلا يبدوا أن هناك مكان يليق بطموحاتهم ووصوليتهم غيرها.
ثوار سوريا يأكلون ثورتهم ... علي فاروق

تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية