أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الامبراطوريات النائمة والصراع على سوريا

باستمرار وعلى مدى التاريخ لم يكن الموقع الاستراتيجي والجيوسياسي المميز لسوريا في قلب العالم نعمة على أهلها بل بالعكس شكل ذلك مصدرا لشقائهم وعذاباتهم المستمرة بسبب الحروب المستمرة للسيطرة على البلاد وامتلاك ناصية القرار فيها أو ضمان تحالف استراتيجي مع نظام الحكم فيها على أقل تقدير.

حروب الآخرين على أرض سوريا ليست حالة غريبة أو جديدة؛ وليس مستغربا، كذلك انعدام استقلالية القرار السياسي في البلاد وتبعية الحكام لقوة أو معسكر يؤمن لهم الحماية والرعاية وضمان الاستمرار بالحكم.

خاضت الامبراطوريات القديمة حروبا طاحنة على أرض سوريا؛ وربما هي فترات تاريخية بسيطة تلك التي كانت تتحصل فيها البلاد على حرية واستقلال محدود ولفترات زمنية متقطعة وليست طويلة.

حالة الصراع الإقليمي الشديد على سوريا في منتصف القرن الماضي بين القوى الإقليمية أصاب البلاد بحالة من الانقسام السياسي الشديد وموجة من الانقلابات العسكرية المتتالية؛ وبالنتيجة لم يجد قادة البلاد من حل سوى بطلب إقامة وحدة مع مصر عبد الناصر وقتها؛ تلك الوحدة التي كانت حاجة ملحة للتصدي لحالة الاستقطاب الحاد في البلاد والتعاون مع القوى الخارجية أكثر منها إيمانا بالوحدة ذاتها كما كان يتم الحدبث به في أدبيات القومية العربية في تلك الأيام.

منذ ستينات القرن الماضي سيطر حزب البعث على الحكم في البلاد واستمر في ذلك عبر عائلة الأسد من بداية السبعينات وحتى الآن.

خلال ثلاثين عاما من حكمه اتبع حافظ أسد سياسة براغماتية بقيت سمة له للحفاظ على سيطرته الحديدية على البلاد؛ أقام تحالفا وتنسيقا عربيا ثلاثيا عالي المستوى مع مصر والسعودية ضمن من خلاله المحور العربي؛ وبنفس الوقت أقام علاقات تحالف استراتيجي مع إيران التي كانت في حرب طاحنة بنفس الوقت مع العراق المدعومة من الدول العربية، بينما كان هو يدعم إيران في تلك الحرب في تناقض واضح مع مبادئ القومية العربية التي يدعو إليها.

كان حافظ أسد يمسك بخيوط وأوراق اللعبة باتقان بين الأطراف والمحاور المتصارعة؛ وفي الوقت الذي كان يعلن وقوفه ضد المعسكر الامبريالي الصهيوني بقيادة أمريكا فقد سارع لإرسال قوات للمشاركة في حرب الحلفاء لتحرير الكويت من احتلال قوات صدام حسين.

بعد دخول القوات الأمريكية للعراق 2003 بدأ الخناق يضيق حول النظام لكنه سارع لتعاون استخباراتي عالي المستوى مع الأمريكان وتقديم معلومات هامة وخطيرة لهم في مجال مكافحة الإرهاب وتنظيم القاعدة؛ مما ساهم في تخفيف حدة الضغوط عليه؛ ولكن عزلة النظام ازدادت مع اغتيال الحريري وإجبار الجيش السوري على الخروج من لبنان عبر قرار من مجلس الأمن.
لخمس سنوات قبل الثورة عاد النظام للساحة الديبلوماسية الدولية بقوة عبر البوابة القطرية الفرنسية وبدأ الأسد الابن يلعب بطريقة الأب نفسها، وكان لافتا هذه العلاقات الاستراتيجية الرفيعة للنظام مع إيران وتركيا بنفس الوقت في ظل انحسار وتراجع المحور الإقليمي العربي؛ ظهر وكأن الأسد يريد الإمساك بكل خيوط اللعبة في المنطقة.

مع انطلاق الثورة السورية ظهر النظام ضعيفا بشكل مفاجئ؛ وقفت الجامعة العربية بقيادة قطر والسعودية ضد النظام بقوة وبذلك خسر المحور العربي وإن بقيت بعض العلاقات المستترة مع بعض الدول العربية. وانهارت علاقة النظام مع تركيا بشكل كامل بعد عدة أشهر؛ ووقفت أمريكا والاتحاد الأروبي ومجموعة الناتو ضد النظام؛ وبدأ النظام يعيش عزلة سياسية كبيرة بحيث لم نعد نجد مسؤوليه في زيارات خارجية.

راهن النظام على الجانب الآخر من تحالفاته المزدوجة؛ ففي مواجهة خسارة تركيا لجأ لتعزيز مركز إيران ودورها بل وإعطائها دور أساسيا في صياغة القرار في البلاد متخليا عن السيادة الوطنية لصالحها في سبيل استمراره.

ومن جهة أخرى اعتمد النظام على الروس لمواجهة الغرب وأعطى تفويضا للديبلوماسية الروسية بقيادة التحركات السياسية بشكل ظهرت فيه وزارة الخارجية الروسية هي الأصيلة في الملف وهي صاحبة القرار. ومن جهتها فقد أصبحت روسيا حجر عثرة في وجه المشاريع السياسية الغربية وكانت إلحاق القرم بروسيا ضربة قاسية للسياسات الغربية.

كان الموقف الغربي وخاصة الأمريكي مترددا وغير حازم ضد النظام مما أعطاه فرصة لممارسة مزيد من القتل والتدمير لإسكات الثورة والقضاء عليها. لكن بدأ يتضح أنه يريد استخدام الملف السوري للتفاوض مع إيران على ملفها النووي ووجودها في المنطقة؛ الأمر الذي بدأ يتأكد فعلا عبر الاتفاق النووي بين الغرب وإيران. 

الصراع على سوريا يسير في ظل عدم وجود محور عربي فاعل بل في ظل الضعف والخلافات العربية التي طالت دول الخليج العربي نفسها؛ بينما يبدو أن الغرب قد أعطى أفضلية لإيران في المنطقة للتمدد والسيطرة أكثر في هذه المرحلة على حساب صفقة ربما تكون سرية بين الطرفين وعلى حساب الدول العربية ودول الخليج على الأخص.

الامبراطوريات القديمة النائمة يبدو أنها بدأت تستيقظ وتعمل وتسعى لإعادة بناء أمجادها؛ الامبراطورية الفارسية تعمل تحت غطاء ديني شيعي ولم يعد مستغربا أو حتى مستنكرا اعلان أي مسؤول إيراني أن حدود إيران تمتد لشاطئ المتوسط؛ ورغم المشاكل والصعوبات الداخلية الكبيرة التي عانت منها إيران؛ إلا أن الملف السوري قدم لها خدمة كبيرة وساهم في إنقاذها عبر عملية مقايضة بنفوذ على ملفها النووي؛ وتبدو إيران رابحة في هذا الوقت.

أما الامبراطورية الروسية فقد استثمرت في الملف السوري وحققت من ورائه مكاسب استراتيجية تاريخية في القرم وأوكرانيا لم تكن تحلم بها وستستمر في التمسك بالملف لتحقيق المزيد من المكاسب.

تبدو تركيا وريثة الامبراطورية العثمانية هي الخاسر الأكبر حتى الآن؛ رغم أنها كانت في مقدمة الدول الداعمة للثورة والشعب السوري؛ فلم يقف معها محور عربي قوي لإسقاط النظام وبالتالي التصدي للتمدد الإيراني وخاصة لدول الخليج التي باتت تظهر لتركيا العداء خاصة بعد انقلاب السيسي ورفض تركيا له.

الثورة السورية تعاني من الصراعات بين الامبراطوريات النائمة والتي استفاقت على الأرض السورية؛ والتاريخ يعلمنا أنه لا يمكن حسم الصراع لصالح واحد؛ ولو حدث ذلك فهو لن يستمر طويلا؛ ويكمن الحل بفهم السوريين لهذه الحقائق وإبعاد العامل الخارجي من الصراع وتحييده عبر علاقات متوازنة مع كل المحاور والجلوس معا لإنشاء عقد اجتماعي يضمهم جميعا ويضمن مصالحهم وحقوقهم بشكل متساوٍ.

بغير ذلك سيستمر الصراع أكثر فأكثر في البلاد وربما سيتم تكرار تجربة القرم في النهاية وتقاسم سوريا ما لم يصحُ السوريون في الوقت بدل الضائع والفرصة بعد الأخيرة.

من كتاب "زمان الوصل" - برلماني منشق
(116)    هل أعجبتك المقالة (117)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي