مقولة النظام الأولى "الأسد أو لا أحد" عادت لتجد صدىً لها مع انطلاق حملة رأس النظام استعداداً "للعرس الديمقراطي"، الذي يقول عنه موالو وإعلاميو النظام أن البلاد افتقدته منذ ما يزيد على الخمسين عاماً مضت، متعمدين تجهيل من كان يقف وراء ذلك الغياب، ومتناسين عن قصدٍ أن من وصل إلى السلطة بانقلابٍ عسكريٍ في آذار 1963، ثم بانقلاب داخليٍ أخر على الرفاق والشركاء في تشرين الثاني 1970، وصولاً إلى توريث الجمهورية للابن في تموز 2000، هو بالذات من حرم السوريين من هذا "العرس"، وهو بالذات من استبدل الانتخابات التعددية، "بالاستفتاءات الشعبية"، التي لم تنزل نسبة أي منها عن ال90%.
والواقع أن تلك "الأعراس" (وهي تسمية خشبية معلبة لطالما اعتمدتها أجهزة الدعاية النظامية التي سُميت زوراً أجهزة إعلام، لوصف الاستفتاءات والبيعات الأسدية المتتالية، في عهدي الأب والابن معاً)، افتقدها السوريون لأكثر من خمسين عاما وتحديداً منذ العام 1956، حيث جرت في البلاد أخر انتخاباتٍ ديمقراطيةٍ فاز فيها الرئيس شكري القوتلي، قبل أن يقضي عبد الناصر على الحكم الديمقراطي السوري خلال عهد الوحدة 1958- 1961، ثم ليأتي البعث وحكامه ليثبّتوا الصيغة التي استمرت منذ الثامن من آذار 1963، وحتى منتصف آذار 2011، طبعاً دون نسيان فترة الانفصال التي جرت فيها انتخاباتٌ رئاسيةٌ، وفاز فيها ناظم القدسي برئاسة الدولة، ولكن تلك الفترة لم تعمر طويلاً، وسادتها حالة من الاضطراب والفوضى العسكرية والسياسية، التي لا مجال الآن للدخول في تفاصيلها.
صيغة "الأسد أو لا أحد" تطل برأسها من جديد، ولكن هذه المرة بشكل منمقٍ وبمصاحبة دعايةٍ مقلدةٍ هزيلةٍ ومصطنعةٍ، تحاول عبثاً تقليد حملاتٍ انتخابيةٍ في بلدانٍ تحظى بأنظمة حكمٍ ديمقراطيٍ، ولم يجرِ فيها توريث الجمهورية كما هو الحال لدينا، اسم الحملة الجديدة هو (سوا)، وتحمل توقيع الأسد الابن شخصياً، وهي تحاول التدليس على بعض المؤيدين من الحمقى والمنتفعين منه داخلياً وخارجياً فقط، دون أحدٍ سواهم في العالم بمن فيهم المؤيدون الآخرون، ممن يعرفون الحقيقة العارية المرة، بطرح فكرتين رئيستين وهما: الأولى، أن بشار الأسد ونظامه لا زالا صالحين للحكم وإكمال الدور المنوط بهما، والثانية، أن النظام الحالي، وبشار الأسد شخصياً، أيضاً، مع الديمقراطية والتعددية والانتخابات والتداول السلمي للسلطة، وهذه المعية نابعةٌ من طبيعة النظام السوري، أولاً، وخصوصاً بعد التعديل الدستوري عام 2012، ومن عقلية وفكر "الرئيس القائد" بشار الأسد، وطبيعته الشخصية باعتباره رجل علمٍ وعقلٍ وفكرٍ وانفتاحٍ على العالم، ومفاهيمه، وأشكال أنظمته، وممارساته السياسية، والديمقراطية بالطبع جزءٌ هامٌ وأساسيٌ منها، وهو لم يلجأ إلى استبدال الاستفتاءات بالانتخابات اضطراراً، وبفعل الثورة الشعبية عليه وعلى نظامه، بينما المضمون الوحيد الحقيقي لهذه الحملة هو بالفعل "اللاأحد فقط"، ولا حتى الأسد ذاته، فهو ومنذ أكثر من عامين فقد كل دورٍ له، بعدما تولى الإيرانيون والروس فعلياً وبشكلٍ عمليٍ إدارة أمور البلاد، وقيادة حربه المفتوحة على الشعب.
شعار "الأسد أو لا أحد"، كان قد تزامن مع شعارٍ آخرٍ هو شعار "الأسد أو نحرق البلد"، والشعاران على ما يضمران من معاني الجنون والهمجية والعدمية، إلا أن الشعار الأول يتساوق أكثر مع مرحلة العمل السياسي (على ما يحاول أنصار النظام الإيحاء والترويج له)، أكثر من الشعار الثاني، الذي ينفع فقط ليكتبه جنود النظام وقتلته، على جدران المنازل المقصوفة، ونواصي الشوارع المدمرة، وقرب الحواجز التي تحيط بالمدن وتحاصر المدنيين وترهبهم، وبعد أن قام الأسد فعلياً بوضع هذا الشعار الأخير موضع التنفيذ، وقام بإحراق البلد وتدميرها بشكلٍ شبه كليٍ خلال أعوام الثورة الثلاثة الماضية، وأعمل في أهلها وسكانها قتلاً وتعذيباً واعتقالاً وتهجيراً، ولا أدل على ذلك من مدينة حمص، التي شهدت مؤخراً خروج أخر من تبقى من أهلها منها، إلى أجلٍ غير معلومٍ، وبعد أن أصبحت ركاماً مهولاً، بينما كانت تشكل سابقاً ثالث أهم حاضرة مدنية إنسانية وعمرانية في سوريا بعد دمشق وحلب، انطلق في إعمال شعاره الأول، في محاولةٍ لنقله هو الآخر إلى عالم الوجود.
قبل الثورة أيضاً لم يعدم النظام الوسائل في تعميم "اللاأحد" على سوريا، وهو وإن كان لم يلجأ سابقاً إلى الإحراق إلا قليلاً، كما فعل في مدينة حماة عام 1982، إلا أن وسائله الأخرى لم تقل بشاعة ووحشية وبدائية عن فعل الحرق المادي، فاستبداده، وأيديولوجيته الرثة، وعنفه، وطائفيته، وهزائمه الخارجية، وفشله، وتخلفه الداخلي، أحرقت البلاد وحولت شعبها إلى ما يشبه الرماد، وغدت سوريا في ظل هذا النظام "لاشيء"، لا دولة، ولا مؤسسات، ولا سيادة، ولا قانون، ولا كيان، ولا روابط من أي نوعٍ، لا شيء على الإطلاق، وإنما تحولت كل تلك المفاهيم والمعاني إلى مسوخٍ وتشوهاتٍ وأشكالٍ فارغةٍ من المضمون، تحاول عبثاً تقليد ما هو موجودٌ في بعض دول العالم، بينما غدا جميع السوريين "لاأحد"، لا أحد في سوريا مطلقاً إلا السيد الرئيس، أو القائد المناضل، على ما كانت تقول عنه الدعايات واللافتات، وما تذيل به الصور والتماثيل.
لم تختفِ من سوريا خلال الخمسين عاماً الماضية "الأعراس الديمقراطية" فقط، بل اختفت السياسة والاجتماع والقانون والاقتصاد والثقافة والفن والحضارة والدين بل وحتى الإنسان، اختفت الحياة عن سوريا، وغابت سوريا عن العالم.
"لا أحدية" النظام وهو المضمون الوحيد والمعنى الحقيقي، الذي انطوى عليه واحتواه وجوده وحكمه، كانت تعني انعدام كل ما عداه إلا هو، أو بالأصح إلا رأسه وقائده وزعيمه الملهم، لكن الثورة غيرت المفهوم وأعادت صياغة المعنى، فأعادت الحياة لسوريا وللسوريين، وأصبح بالتالي معنى سوريا هو الثورة، والسوريون هم بالدرجة الأولى من قام بالثورة وشارك فيها، ثم ألحقت النظام ورئيسه الذي استعان بالأغراب في محاولته للقضاء عليها، في "لا أحديته" الأولى تلك، وعليه ربما ينبغي الآن تغيير شعار الحملة الانتخابية الرئاسية للأسد لتصبح:
سوا...الأسد لا أحد.
اللاأحد على الطريقة السورية

علي فاروق
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية