الساعة الواحدة إلا خمس دقائق دوى صوت انفجارٍ هائلٍ هز أرجاء العاصمة اللبنانية بيروت، كانت سيارة مفخخة محملة بما يقارب ألف كيلو غرام من المتفجرات، قيل أنها (مادة السي فور، أو التي إن تي)، يقودها (انتحاري) على ما قيل أيضاً، قد استهدفت موكب رئيس الوزراء رفيق الحريري قرب فندق "سان جورج"، أثناء عودته من مجلس النواب اللبناني، إلى قصره في منطقة قريطم، بعد ذلك بساعاتٍ قليلةٍ ظهر على قناة الجزيرة القطرية شريطٌ مسجلٌ لشخصٍ ادعى فيه تنفيذ تلك العملية الانتحارية، كان هذا الشخص شاباً فلسطينياً ــ لبنانياً، يدعى "أحمد أبو عدس".
لكن ما علاقة ما جرى في بيروت شباط 2005 بالمشهد السوري الآن ؟
وهو في الواقع ما يشكل سؤالاً منطقياً لأي متابعٍ، فحادثة الاغتيال جرت قبل ما يزيد على التسعة أعوامٍ خلت، وتتولى اليوم محكمةٌ دوليةٌ خاصةٌ، مقرها لاهاي، محاكمة المتهمين الرئيسيين فيها، وهم بالمناسبة أعضاءٌ قياديون في (حالش)، في مقدمتهم القيادي المدعو "مصطفى بدر الدين".
لكن لنحاول العودة بالذاكرة قليلاً إلى مشهد بيروت، وتحديداً إلى يوم الرابع عشر من شباط عام 2005، وهو يوم اغتيال الشهيد رفيق الحريري، فبعد وقوع الانفجار وتبين هوية الشخص المستهدف بوقتٍ قصيرٍ، كان أول رد فعلٍ شعبيٍ عفويٍ من قبل معظم اللبنانيين، هو توجيه أصابع الاتهام بالوقوف وراء تلك الجريمة، للنظام السوري الحالي.
هل كان ذلك مصادفةً !؟
وبعد ذلك ظهر الشريط المزعوم (لأبي عدس)، على قناة الجزيرة الفضائية، وكان مما يثير الاهتمام حقاً في ذلك الشريط وحوله، أمران، الأول: هو الشخص الذي عثر على الشريط، وهو المدعو غسان بن جدو، مدير مكتب قناة الجزيرة في بيروت في ذلك الوقت، وقد زعم حينها بن جدو أنه تلقى اتصالاً هاتفياً من مجهولٍ، أبلغه بوجود شريطٍ مرتبطٍ بجريمة الاغتيال على غصن شجرةٍ على جانب أحد الشوارع البيروتية، بن جدو هذا الذي تبين فيما بعد أنه إحدى الأدوات الإعلامية الإيرانية، وقد أسفر بن جدو عن حقيقة ارتباطاته وتبعيته المطلقة لإيران، وحليفتها النظام السوري، فاستقال من قناة الجزيرة القطرية، التي اتهمها بالمشاركة في المؤامرة الكونية على نظام المقاومة والممانعة، بسبب تغطيتها لأحداث الثورة السورية، وأصبح مديراً لقناةٍ إيرانيةٍ ناطقةٍ بالعربية اسمها "الميادين"، يتنقل مراسلوها وإعلاميوها يومياً بصحبة ضباط وقادة الحرس الثوري الإيراني، وعناصر (حالش)، وضباط وعناصر النظام السوري، ويجرون معهم حصرياً مقابلاتٍ ولقاءات، من ميادين وساحات القتل السوري اليومي.
فهل كان إرسال شريط "أبي عدس" المزعوم لبن جدو دون غيره من الإعلاميين مصادفةً أيضاً ؟
الأمر الثاني المثير للاهتمام في جريمة اغتيال الحريري، فكان اسم التنظيم الذي ادعى "أحمد أبو عدس" الانتماء إليه، وتنفيذ عملية الاغتيال لحسابه، وبحسب ما قال "أبو عدس"، وما ظهر مكتوباً بخطٍ أبيضٍ على رايةٍ سوداء (قاعدية)، عُلقت على حائطٍ خلف "أبي عدس"، كان الاسم هو: جماعة النصرة والجهاد ــ بلاد الشام !!
جماعة النصرة والجهاد في بلاد الشام، شباط 2005، لم يكن أحدٌ قد سمع بهذا التنظيم قبل ذلك اليوم، والأرجح أن أحداً أيضاً لم يسمع به بعد ذلك، لكن ما سمع به الجميع لاحقاً هو تنظيمٌ آخرٌ يحمل اسماً مشتقاً من الاسم السابق، ألا وهو تنظيم جبهة النصرة لأهل الشام، وهو التنظيم الذي بات معروفاً جداً في المشهد السوري الراهن.
وقد نفذت جبهة النصرة أولى ضرباتها المفترضة ضد النظام السوري في كانون الأول 2011، وأعلنت بيانها التأسيسي في كانون الثاني 2012، وكان ذلك بالتزامن مع وجود بعثة المراقبين العرب في سوريا، والتي كان يرأسها الجنرال السوداني سيء الصيت "الدابي".
فهل كان استعمال الاسم ذاته للتنظيمين في الحالتين مصادفةً ؟
وهل كان التزامن بين أولى العمليات للنصرة ووجود المراقبين العرب مصادفةً أيضاً ؟
جبهة النصرة في سوريا فرعٌ لتنظيم القاعدة الدولي، أعلنت تجديد ولاءها وبيعتها لقائد التنظيم الدكتور أيمن الظواهري، في نيسان 2013، بعد ما طالبها أبو بكر البغدادي بمبايعته خليفةً للمسلمين، والبغدادي هذا هو أمير تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وهو التنظيم الذي كان تابعاً لتنظيم القاعدة أيضاً، قبل أن ينشق عنها مؤخراً.
في أخر تصريحٍ لأبي محمد العدناني، الناطق الرسمي باسم (داعش) المنشقة عن الظواهري، وفي معرض رده على خطاب الأخير في نيسان 2014، قال العدناني من جملة ما قال، أن (داعش) التزمت سابقاً عدم الضرب داخل إيران، كما التزمت عدم استهداف المصالح الإيرانية، لأن قيادة تنظيم القاعدة الدولي طلبت منها ذلك، مصرحاً لا ملمحاً بوجود تعاونٍ وتنسيقٍ لا بأس به، بين قيادة القاعدة وبين النظام الإيراني، وما أعلنه العدناني لم يكن سراً، فقد بات معروفاً ومنذ عدة سنواتٍ، أن العديد من قيادات القاعدة موجودون مع أسرهم في إيران، كما بات معروفاً أيضاً أن إيران وفرت خطوط إمدادٍ للتنظيم لمحاربة الاحتلال العسكري الأمريكي واستنزافه في كلٍ من أفغانستان والعراق، ومعروفٌ أيضاً الدور الذي قام به النظام السوري سابقاً ــ بطلبٍ وتخطيطٍ إيرانيٍ ــ في تمرير المقاتلين والمجاهدين الذين كانوا يتوجهون إلى العراق لمحاربة الأمريكيين فيها.
واليوم تدور في دير الزور وغيرها من مناطق شرق وشمال سوريا، حربٌ طاحنةٌ بين (المرتدين) جبهة النصرة وحلفاؤها في الجبهة الإسلامية، وبين (الخوارج) الدولة الإسلامية في العراق والشام.
فهل جاء هذا الإعلان الصريح وهذه الحرب مصادفةٌ هي الأخرى ؟
صورتا مشهدي بيروت 2005، ودير الزور 2014، تُظهر لعين المتابع أنها تنطوي على أربعة عناصر متكررة، هي: النظام السوري، والنظام الإيراني، والقاعدة، و(حالش)، وعليه فإن خيطاً لا يكاد يرى يمتد من بيروت إلى دير الزور، وربما ظلال مشهد بيروت في شباط 2005، تظهر جليةً للعيان في دير الزور 2014، مع وجود بعض الفوارق منها: أن النظام السوري في 2005، كان طرفاً، و(حالش) كانت أداةً، بينما صار العكس هو الصحيح في 2014، والقاعدة كانت مزيفة في 2005، بينما هي مصطنعة ومخترقة في 2014، ولذلك نجد أن أهم ما تشي به تشكيلات وخطوط اللوحتين هو أنهما لا بد أن تكونا من ضربات الفرشاة ذاتها، للرسام ذاته.
فهل كان ذلك مصادفةً أيضاً ؟
وهل هي مصادفةٌ أن يكون الضحية في الصورتين هو رغبة الشعبين اللبناني والسوري، بالتخلص من هيمنة النظامين الفاشيين على حياتهم وثرواتهم ومصائرهم، ورغبتهم أيضاً ببتر ذراعيهما (الممانعة) و(التكفيرية) نهائياً !؟
مع انطلاق شرارة الثورة أطلق النظام الاتهامات ضد المتظاهرين واصفاً إياهم بالمندسين الخارجيين الذين يستهدفون إنشاء إماراتٍ سلفيةٍ ظلاميةٍ في سوريا، وقد استغرب الجميع آنذاك تلك الاتهامات، لأنها لم تكن تستند إلى أي منطقٍ أو أي واقعٍ يبررها، وكان هناك سؤالٌ آخرٌ، هو لما لم يتهم النظام في ذلك الوقت الإخوان المسلمين، مثلاً، وهم خصومه التاريخيون المفترضون ؟
ألم يكن ذلك الاتهام فيما لو وقع أكثر منطقيةً وعقلانيةً من التخويف بالقاعدة التي لم تكن موجودةً في سوريا، وهل كان استخدام فزاعة الأصولية القاعدية بدل الإخوانية مصادفةً ؟
لا يشك أي منصفٍ بأن الثورة السورية هي واحدةٌ من أعظم الثورات التي عرفها تاريخ الإنسانية، ولعل أحد أهم وأعظم أثار هذه الثورة، هو أثرها الكاشف والفاضح، ومع مرور الأيام وانكشاف الكثير من الأوراق والأدوار والمواقف، لا بد أن يأتي اليوم الذي نعلم فيه السر والرابط بين كل تلك المصادفات المتكررة، غير العفوية، وغير السعيدة.
مصادفات الثورة السورية ... علي فاروق

علي فاروق
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية