لا تُدرك المفاهيم جيداً إلا عندما تتجسد، فمن الطبيعي إذاً، على الرغم من كل ما كتب و قيل عن الديمقراطية في أطروحات النخب السياسية حتى اليوم، أن يبقى هذا المفهوم بعيداً من ذهن الإنسان العربي الذي مازال عاجزاً عن فهمه بدقة. لذلك نجده يميل إلى فكرة "المستبد العادل"، فهي أقرب إلى ذهن المجتمع الذكوري الأبوي القائم على ىسلطة الأب "المستبد العادل"، فالمواطن العربي، والسوري مثالاً، يقارن بين التنظيمات الموجودة اليوم على الأرض من حيث مقدار "عدلها" النسبي، وليس بناء على مرجعيتها أوعلاقتها بالاستبداد أو آليات عملها وأهدافها، فلايرى حرجاً من التمييز بين جبهة النصرة وتنظيم "داعش" على الرغم من كون التنظيمين ينتميان إلى الجذر الإيديولوجي نفسه، ويتبعان الأسلوب السياسي ذاته، فكل منهما يعتمد العنف وسيلة لإدراة المناطق التي يسيطر عليها. كذلك، هما لايختلفان عن النظام السوري من حيث الاستبداد أو آليات الحكم والسلوكيات، وإن اختلفت المرجعية الإيديولوجية، من دون إدراك أن الاستبداد يحمل بذرة الشر في ذاته وبنيته كونه يتيح بطبيعته وصول من هم أقل عدلاً إلى الحكم، ومن ثم ممارسة التسلط ولو بعد حين، فضلاً عن كون الاستبداد لا يمكنه أن يكون عادلاً إلا في توزيع الظلم.
إن مفهوم الديمقراطية شديد الارتباط بمفهوم الدولة الحديثة الذي هو أيضا ما زال غير مدرك في ذهن أغلبية السوريين. فالكيان القائم منذ بدء الانقلابات العسكرية في سوريا منذ أواخر أربعينيات القرن الماضي، مروراً بانقلاب 8 آذار 1963 وحتى اليوم، لا يعبر بالواقع عن مفهوم الدولة بمعناها الحديث. فالشرط الأول والمركزي للدولة هو حياديتها تجاه الإيديولوجيات، وهو ما لم يتوافر في سوريا بدءاً من اسمها "الجمهورية العربية السورية" مروراً بربطها بالبعث كحزب قائد ووحيد، وصولاً إلى "دولة" سوريا الأسد. فالكيان المرتبط بأيديولوجية أو طغمة حاكمة أو شخص لا يعدو أن يكون شركة أو مزرعة خاصة بفرد أو جماعة، ولا يمكن بأي حال تسميته "دولة"، كما أن سكانه لا يمثلون المعنى الحقيقي للشعب بل هم رعايا في أحسن الأحوال. هذا معناه أن سوريا ليست دولة، وسكانها ليسوا شعباً بعد.
الخطاب الوطني الجامع ليس قضية أخلاقية فحسب بل هو عمل سياسي بامتياز. واللافت في الأمر أن هذا الخطاب الذي تراجع عنه غالبية السياسيين أدركه السوريون بالفطرة في بداية الثورة، وعبروا عنه بوضوح في شعاراتهم وسلوكياتهم، وكل ما حدث لاحقاً من ابتعاد عن هذا الخطاب هو الاستثناء والشذوذ، وهو سطحي وغير أصيل، أما أسبابه فهي كثيرة، منها العنف اللا محدود والتسريبات التي كان يوزعها رجال الأمن في الفيديوهات، لتوحي أن طائفة ما بعينها هي التي تقف في وجه السوريين، فضلاً عن الهزل الفكري والسياسي لدى النخبة التي تنطعت لتمثيل الثورة.
ليس التأكيد على وحدة الشعب السوري اليوم انفصالاً عن الواقع، على الرغم من أن حصيلة العقود الخمسة الماضية لم تجعل من السوريين شعباً واحداً، لكن هذا التأكيد ضروري، إن أردنا أن يكون هناك مستقبل لسوريا والسوريين، وهو أمر مشروع أيضاً، بخاصة عندما ندرك أن الوحدة لا تعني التشابه أو اللون الواحد، وأن وحدة الشعب ليست شعاراً رومنسياً يبنى على الحب المتبادل، فالشعب هو التعبير السياسي عن وحدة المجتمع المتنوع طائفياً وقومياً وجنسياً وطبقياً، والمختلف في المصالح، والمتصارع أحياناً لتحقيق الأهداف المتناقضة لفئاته.
إن أعمق الصراعات الدينية والمذهبية هي صراعات سياسية من حيث المضمون. والصراع السوري -السوري هو صراع سياسي بامتياز مهما بدا عليه الشكل الطائفي، وكل من يقرؤه بغير هذه الطريقة هو المنفصل عن الواقع، وهذا الانفصال هو ما أحالنا ويحيلنا إلى كل هذا الفشل، فكل الطوائف والأديان والإيديولوجيات هي وسائل صراع وأدوات له، وليست غايته على الإطلاق، وهي جذر الاستبداد الذي يسخرها في صراعات تخدم مصالحه. هذا الصراع لا يمكن له أن يستمر إلى الأبد، كما لا ينتهي بانتهاء إحدى الجهات المتصارعة بل بإيجاد صيغة سياسية وقانونية تنظم العلاقات في المجتمع، وعلى السوريين جميعاً تقع مسؤولية الاختيار بين عقد يصالح بين المستبدين، ويؤمّن لهم تقاسم ما بقي من سوريا واستمرار استعباد الناس، أو صيغة سياسية وقانونية جديدة تتمثل بعقد اجتماعي حديث يتجلى بدستور وطني يمنح الحقوق المتساوية لجميع المواطنين من دون تمييز، وبناء كيان الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة التي يجد فيها كل مواطن هويته وانتماءه.
عمر حداد - كاتب سوري
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية