[email protected]
يا لسريركِ العالي .... كم هوت من أجله أفئدة في مهاوي, كم حطّم من قلوب, كم اعتصر أرواحا, كم أدمع من عيون. جيوش إنكسرت عند قوائمه, و أبيدت من أجله قبائل و شعوب, و صارت الأمم حوله غالب و مغلوب.
منذ أزمان بعيدة, فرشتُ على سريركِ العالي, الدمقسَ فيه أطيار, و غابة سحرٍ, و موجٌ و بحرٌ و مراكب تتهادى, و تحت الدمقسِ جعلت الطيلسان, و الخز و القز من أقاصي الدنيا, و فوق القز جعلت الحرير بلون البيلسان, فاستلقي يا سيدة القفقاس و تمددي فوق ريش الطواويس والنعام, من وراء الصحاري سيّرت لأجلك قوافل المرّ و اللّبان, و انتقيت أرفع البخور, و أهديتك زيوتا عطرية, من أعالي البحار جلبت المسك و العنبر, و من سهوب الشمال و الظلمات مددت تحت قدميك فراء الثعالب و الدببة القطبية, و حففت حول سريرك الديباج, و جعلت الأرض رخاما, و الأعمدة مرمرا, و طليت بالذهب الجدران, أريحي يا سيدة القفقاس جسدك على سريركِ العالي, أيا جسدا قُدَّ من فولاذ و فضة و ذهب و جمان و مرمر.
من أجل سريركِ الغالي صارت الأمم قاتل و مقتول, و من أنجبت بحبّك الأبديِّ هو المقتول.
جهات الدنيا أربعة, أمشيها و أطويها, أمضي حتى أقاصيها, تلتف بي الطرقات في تيهٍ و تأخذني, و لا درب إلى أحضانك يوصلني. أنام و أحلم بسريرك العالي, و في الصباح أمشي الطرقات فتقودني للنوم على أسرة التبن و القش في البراري.
علقتُ على عنقكِ العاجيّ ألواح أقداري, و أنطتُ بوجودكِ وجودي, و حييْتُ في أقاصي الأرض بجسدي و استودعتك آمالي و آحلامي. حين أنا لا أكون فيك بجسدي, أحيا شريدة في البراري بلا عنوان, لكن أخشى ما أخشاه أن استيقظ يوما فلا أجدك في روحي و في دمي, فأصير بلا رائحة بلا طعم بلا الوان, هل يتبقى فيَّ بدون الواح أقداري و أحلامي, شيءٌ من ظلّ انسان.
امشي الدروب كي أصل إليك فلا أجد إليك السبيل, و في كل يوم يزداد يقيني, بأن الطريق إليكِ يبدأ بالطريق إلى نفسي.
يؤلمني أن ينام الغرباء في سريريك العالي, و أنا ابنتك و أنام في أسرَةٍ بعيدةٍ بلا عنوان, و أنا أتوهم بأنّي مازلت أملككِ, مؤلم و بائس كثيرا توهمي بأني لازلت أملككِ. أثور أحيانا على نفسي, على بؤسي, فأصرخ بصوت ترتج منه السقوف و الحيطان, وأركب الموج العالي, أقبض على عنق الإعصار أغرقه تحت قدميَ, أنتعل الريح و الغيوم, أصارع العواصف, أمسكها بقبضتيّ, أقطع رؤوس –اليوناثان- فوق البحار, و أضرب بسيفي على رأس العملاق المتجمد في الأنهار , أرقص على رؤوس أصابعي فوق الموائد السماوية , أُتحدى مجلس الآلهة النارتية , و أرمي جرار الخمر من السّماء , أدفع الإله الصغير من بين الغيوم , أحطمه و أكسره. أعدو على رؤوس القمم السبعة, و أخترق البحار السبعة, و أجتاز الأنهار السبعة, أغرس القامة الفولاذية فوق الأعالي, و أحطم قيود- نسران جاكئه- الحديدية , و أدفع الأعداء في الوديان و المهاوي.
..... أستريح, وأغتسل, و أغسل أسلحتي بثلوج جبالي.
لكني بعدُ لم أفقد صوابي .... فأنا أدرك بأنّ جنوني أشبه بتهويمات عشقّية, صوفيّة, مرضيّة, كالدوران على إيقاع زار, و أن الطريق إليك لا يكون إلا بالطريق إلى نفسي.
أشعر بأنّك لا تفهميني, و أمضي في كل يوم بعيدا أكثر و أكثر باتجاه الدروب الجنوبية, لا أستطيع التعاطي مع من لا يفهموني, أعطيك ظهري وأمضي, فأشعر كأني أمضي فيك, و أني مهما بعدت فإنكِ فيَ, كأن حبل مشيمتك يمتد إليّ و يتبعني , و أني مهما أهرب من نفسي, فإنّ سريرك مُناي و حُلمي, وأنّك أنتِ المهد و أنتِ اللحد, و أدرك بأنّ ليس عليك أن تفهميني, و أنّ عليّ أن أفهمك, و أنّي لن أفهمك إنْ لم أفهم نفسي.
كل الذين تذابحوا كي يناموا على سريريك العالي أرادوا امتلاك الذهب و الرخام و المرمر, أنا الوحيدة, و أنا فقط قُتلت من أجلكِ و من أجلي, قُتلت كي أبقى أنا نفسي, كي أكون أنا نفسي, فبدونك ماذا أكون؟ أأكون مسخا, بدونك لن أكون و لا حتى ظل إنسان, و لأنك هناك متجذرة فيّ و رغم أني بلا عنوان ما زلتُ بأعماقي أنا الإنسان, و أنت لن تلوميني لأنني ما زلت إنسانا.
مُريعٌ أن تَنظرَ في المرايا فترى كلّ شيء حولكَ و لا ترى نفسكَ في المرايا, تشك بأنك غير موجود.
أنا إمرأة تخاف من المرايا, فحين أنظر فيها لا أراكِ و لا أراني, و كلُّ الذين أنجبتِهِم لا وجود لهم في المرايا, هل نحن حقا موجودون! أعرف بأننا لن نكون في المرايا حتى نكون, فكيف السبيل كي نكون؟
لأنكِ أنتِ في روحي و في بدني , قُتلت لكنّي لم أمت و لم أفنَ, في كل يوم أورق و أتجدد و أصير أجمل, لكنّي لا أحسُّ بشيء كأني لا أموت و لا أحيا, و لا أرى جمالي في المرايا. و أعرف بأني لن أكون حتى أكون .
بل سوف أكون.
سأعرف الطريق إلى نفسي, سأواجه نفسي, سأكاشف نفسي, سأنزل عن حصاني, سأترك قامتي9, و أخلع قلبقي , سأعترف بغروري, سأعترف بنزاقتي, سأعترف بنزواتي, سأعترف بجنوني و طيشي و حمقي, سأعترف بكل أخطائي, فكل تاريخي أخطاء, و سلسلة من انفعالاتي و تهوري و سذاجتي و تصديقي, سأعترف وأجد الطريق إلى نفسي, أستحق أن أجد الطريق إلى نفسي, فأنا لا زلت حيّة رغم قتلي, شركسيّة أنا لم أمت و لم أهزم, شركسيّة أنا و هذا لجام حصاني و ذاك كرسي عرشي, و هذي شارات ملكي ما زالت معلقة على عنقي, مهما تضورت جوعا لن أترك أنا إرثي, شركسيّة أنا و وريثة لعرش أقدم الملوك على الأرض, و ذاك سرير ملكي و خاتمي و صولجاني, سآكل التراب و لن أترك أنا إرثي.
__________________________
- يوم الحداد الشركسي المصادف في -21/ ايار- يحيي الشركس هذا اليوم من كل عام, و هو تاريخ اعلان نائب القيصر الروسي في شمال القفقاس انتهاء الحروب الروسية القفقاسية عام 1864 و التي استمرت قرن و نيف من الزمان, و التي مورس فيها ابشع اشكال الجرائم و الابادات الجماعية بحق الشعب الشركسي على ارض وطنه الام, و استشهد فيها ما يربو على ثمانمائة نسمة من الشركس, و بدأت بإنتهاءها عملية تهجير الشركس من قبل السلطات الروسية عن اوطانهم, و التي طالت حوالي مليوني نسمة, استشهد 20% منهم بسبب التهجير من جوع و انتشار للكوليرا و الملاريا بينهم وغرق السفن.
- 3- 4 -5 -6 – 7 -عن أساطير النارتيين, و هي اساطير الشركس القديمة و التي تعتبر بالنسبة لهم تاريخهم و تعبرعن قيمهم و اخلاقياتهم.
8- أسطورة تتحدث عن محاولة السيدة ستناي وهي سيدة النارتيين ثني ابنها البطل سوسروقه عن الذهاب إلى الخطرعن طريق حبلها السري.
9 - القامة – خنجر شركسي تراثي , مستقيم ذو نصلين يستعمل كجزء من الزي القومي .
10- القلبق – قبعة الرأس في الزي الشركسي.
________________________________________
اعتراف في يوم الحداد الشركسي -شوغه مافه -

نرين طلعت حاج محمود (جتاشأه)
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية