تفاقم النقاش في الولايات المتحدة الأمريكية مؤخراً حول تحديد التكلفة الحقيقية التي يتكبدها الاقتصاد الأمريكي خلال السنين الخمس الماضية جراء غزو العراق، والتي بلغت حدود (3) تريليون دولار وفق بعض التقديرات. إلا أن ما يقلق الأمريكيين ليس التكلفة المباشرة، والتي لا يستهان بأرقامها بطبيعة الحال، بل التكاليف غير المباشرة خلال الفترة نفسها والتي تفوق بكثير حجم التكاليف المباشرة. أي جملة المتغيرات السياسية والاقتصادية العالمية التي حدثت خلال الفترة ذاتها والتي كان لها أثر عميق على تمدد النفوذ الأمريكي وهيمنته على مستوى العالم.
ولعل من أبرز ما بات يعرف كواحد من أهم الآثار الاستراتيجية الكبرى لغزو العراق، نمو المارد الصيني الذي بات يعدّ من منظور أمريكي واحداً من أهم التحديات الاستراتيجية التي يواجهها كل من الاقتصاد والجيش الأمريكي على حد سواء. ففي تقرير نشره مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية (CFR) بمناسبة مرور خمسة أعوام على غزو العراق ، اعتبر المحرر الاقتصادي للموقع المذكور (مايكل موران) "أن السؤال الدائر الآن داخل المجتمع الأمريكي، وخاصة بين رجال الاقتصاد والخبراء العسكريين والمرشحين للرئاسة، وحتى الناخبين الأمريكيين هو حول جدوى الحرب في العراق، وكم من السنوات ستبقى القوات في العراق؟ وما الهدف النهائي من الوجود في العراق؟ وكم دفعت أمريكا من دمها ونفوذها وهيبتها في الحرب العراقية؟".
وعلى الرغم من اعتراف الباحث بصعوبة الإجابة على هذه الأسئلة، إلا أن الإجابة، من وجهة نظره، على الشق المتعلق بالتكاليف غير المباشرة يعد أمراً واضحاً وهيناً، "فأعداء أمريكا" يعيشون العصر الذهبي الآن لهم، إيران، على سبيل المثال، تقدمت إلى الأمام بعد أن سقوط نظام صدام حسين في العراق واستبداله بحكومة موالية لها. وكوريا الشمالية وجدت الوقت الكافي لتثبيت نفسها داخل النادي النووي. وروسيا عادت إلى عادتها الاستبدادية بتصوير أي تحرك أمريكي على أنه تهديد مباشر لمصالحها من وجهة نظره. وتنظيم القاعدة بات يضرب القوات الأمريكية في الخارج، فضلاً عن الصعود غير المتوقع لفيديل كاسترو في أمريكا اللاتينية.
إلا أن التقرير يؤكد رغم ذلك على أن المستفيد الأكبر في المدى البعيد من الحرب في العراق هو الصين. "فخلال نصف قرن تحولت الصين من مجرد قوى إقليمية ناشئة متشوقة إلى الأعمال الأمريكية المشتركة والتأييد الأمريكيِ لدخولها إلى منظمة التجارة العالمية WTO إلى قوى عظمى اقتصادية لها تأثيرها المالي الكبير على الاقتصاد العالمي".
ويحذر الباحث من خطورة تمدد الصين باعتمادها على فوائضها التجارية الضخمة سياسياً في العالم النامي. "إذ يمكن للصين من خلال صندوق الاستثمار الحكومي الصينيِ الانقضاض على الاقتصاد الأمريكي من خلال شراء السندات الحكومية وسندات الأصول وأوراق الرهن ومجموعات التأمين وإعادة بيعها مره أخرى في ظرف أيام معدودة من خلال فوائض التصدير" الأمر الذي قد يحدث انقلاباً كبيراً في الاقتصاد الأمريكي المتداعي أصلاً.
ويذكر التقرير بوزن الصين الاستراتيجي على الساحة الدولية حالياً، "فالصين تتحدى الغرب في أماكن كثيرة مثل منطقة دارفور في السودان، أَو في تعاملاتِه مع النظامِ الدكتاتوري في بورما". كما يمكن ملاحظة تنامي نشاط الصين في الأمم المتحدة، إلى جانب تنامي دور الطبقي الوسطى في الصين، والتي أصبحت ذات قوة شرائية كبيرة، في حين أن الاقتصاد الأمريكي يعاني من أزمة عدم الثقة، وهو ما أدى إلى تحول المستثمرين من الدولار إلى اليورو.
ويبرز الخطر الصيني بشكل واضح من خلال تسويق نفسها كبديل أصيل لنمط السوق الليبرالي - الديمقراطي برفقة روسيا، إذ يشير الوضع أنها "ستصبح أكبر قوة عظمى استبدادية حقيقية في العالم". وقد جعلت حرب الحرب وآثارها الصين تتمنى أن تستمر الحرب في العراق 100 سنة أو على الأقل 20 سنة أخرى. الأمر الذي لاحظه البنتاجون في تقريره السنوي في عن تنامي القوى العسكرية الصينية، فمن الناحية العسكرية تحتل القوات العسكرية الصينية المرتبة الثانية من حيث الجودة. ورغم أن الإنفاق العسكري الصيني ما زال منخفضاً نسبياً 137 مليار دولار عام 2007 بالمقارنة مع الولايات المتحدة التي أنفقت 450 مليار دولار على الدفاع في السنة ذاتها، دون أن تشمل مبلغ 120 مليار دولار الذي ينفق على العراق وأفغانستان. إلا أن هناك استثناء على هذا الوضع الدفاعي من خلال تطوير القدرات العسكرية ضد تايوان، ونشر الصواريخ قصيرة المدى وتحديث القدرات البرمائية. وسعي الصين إلى تطوير أجهزة الاستطلاع عن بعد والأقمار الصناعية، وهو ما يتنافى مع القدرات الدفاعية التي يراها التقرير.
ويبدو أن الأحداث المتتالية في العراق وأفغانستان وغيرها من مناطق العالم التي تشهد انكسارات الجيش الأمريكي وتكبده لخسائر فادحة لم يعد المواطن الأمريكي قادراً على تحمل أعبائها، سوف تحكم على مستقبل تنامي نفوذ المارد الصيني الذي ما عاد يجد مهدداً استراتيجياً كما كان الأمر في السابق، في ظل انشغال الولايات المتحدة بحروبها الدونكيشوتية على الإرهاب، والتفات القوى الأخرى الصاعدة دولياً إلى بناء قدراتها الاقتصادية والعسكرية على حد سواء.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية